قال الدكتور راتب شعبو في شهادته في بودكاست "في الظل":
إن ألم
التعذيب بالكبال مستمر وطويل، وليس مثل التعذيب بالدولاب الذي يخفت بعد
الجلد.. يمكن اقتراح عمل متحف لآلات التعذيب السورية، أما متحف الآلام فنقع على
مشاهد منه في شهادات الناجين.
المشهور من مواهب بشار
الأسد وملكاته أنه فيلسوف، وطبيب عيون
يا سهام في العين، وليس بشاعر، وتتجلى فلسفته وسفسطته في حواراته مع فضائيات
"سفساط" المقاومة (وقد صارت الدنيا إلى سفساطين).. خذ هذا الشاهد، يسأله
المحاور عن البرميل، فيقول: لا يوجد عندنا براميل أو طناجر! لكن لآلات تعذيبه
أسماء شعرية لطيفة، وقد فرحتُ بأسمائها فرحة عبد الرحمن بن حسان بن ثابت بابنه عبد
الرحمن، حينما رجع إلى أبيه وهو يبكي ويقول: لسعني طائر! قال: فصفه لي يا بنيّ!
قال كأنّه ثوب حبرة! قال حسّان: قال ابني الشّعر وربّ الكعبة! وكان الذي لسعه
زنبورا.
حينما سمعت باسم أول آلة تعذيب سورية، قلت: السجان السوري
شاعر ورب الكعبة، وكان اسمها بساط الريح، وعدلت بين السجان والرئيس وسوّيت بينهما،
فهما عندي توأمان، وكفتا ميزان وركبتا بعير، ثم تتالت قصائد حافظ الأسد: الكرسي الألماني،
الدولاب وهو دولاب حقا وليس كناية أدبية، وفيه يوضع السجين كما العصي في العجلات، والأخضر
الإبراهيمي مبعوث الأمم المتحدة؛ وقد سميت باسمه آلة من آلات التعذيب كما سميت
دافعة ارخميدس باسم مكتشفها، وقانون مولر للسوائل وقانون كيرشوف في التيارات
الكهربائية وجدول مندلييف الدوري للعناصر، وكلها مشتملة على نوع من الدوران خفي أو
ظاهر.
الأدب السوري هو أدب
سجون، و"قصائد" الرئيس هي
قصائد سجن أيضا، السجان هو وجه الرئيس الثاني، لولا السجان لما كان الرئيس. السجان
هو حارس النظام الأول، أما خطب الرئيس وخطب أبيه فهي متهافتة وخالية من الشعر، وإن
توفرت على بلاغات وجحدت، فإنما جحدها كذبه وبطشه وتكرارها.
الدولاب أشهر آلة تعذيب سورية، وهو أعظم اختراع بشري على الإطلاق،
وقد اختُرع لتخفيف الحمل على الإنسان، وقد استُعمل في عربات الجر وبكرات متح
المياه من الآبار، ولم يخطر لمخترعه استخدامه في التعذيب.
ووجدت أناسا فكهاء يزعمون أنَّ الانترنت أعظم اختراع بشري، ووجدت
آخرين يدَّعون أنَّ المايوه البكيني أعظم منه!
وكانت منية المتمني في
سوريا أن يتخذ سيارة بأربعة دواليب،
لولا غلاء سعرها، وما غلاء سعرها إلا لارتفاع رسوم جمركتها، في بلد تقل فيه الخدمة
والحركة، حتى قيل فيها الأمثال! أما الدراجة النارية، فممنوعة إلا برخصة لا ينالها
إلا المقربون.
وثّقت منظمات حقوقية اثنتين وسبعين طريقة للتعذيب في المعتقلات السورية، أدناها الإهمال، وأعلاها سماع صرخات الأطفال والنساء وهم يتعذبون أو يغتصبون وراء الجدران
وكان الدولاب يستخدم في سوريا أحسن استخدام، ليس لمواكبة حركة
التاريخ وحمل الأحمال، وإنما لتثبيت المعتقل، وتثبيت المعتقل يقتضي تثبيت المجتمع،
وتثبيت المجتمع يفضي إلى تثيبت النظام.
وثّقت منظمات حقوقية اثنتين وسبعين طريقة للتعذيب في
المعتقلات السورية، أدناها الإهمال، وأعلاها سماع صرخات الأطفال والنساء وهم يتعذبون
أو يغتصبون وراء الجدران.
لا يجد المرء جمالا أو بديعا أو بلاغة سوى جماليات السجع في
شعارات النظام السوري البعثي. يقول الدكتور راتب شعبو في شهادته إنَّ شعار "قائدنا
إلى الأبد الأمين حافظ الأسد" غير واقعي، وسيجد المرء في شهادة كل ناج من
الموت أنَّ أساليب التعذيب غير واقعية، فقد حكم السوريين نظام لا يعرف مثله في
التاريخ المعاصر أو الغابر، وإنَّ جميع المعتقلين أبرياءٌ اعتقلوا لتثبيت النظام، وبعضهم
أطفال اعتقلوا لأسباب لا تخطر على بال بشر، وأن النظام كان يعتقل النابغين
والمستبصرين وقائيا، كي يكونوا عبرة لمن يعتبر، وإرغاما لمن جحد وكفر. فالنظام
مشاد بطريقة دينية، الرئيس هو الإله المعبود: من يعبد الرئيس يُكرم، ومن يتجنب
الشرك به يَسلم، ومن يُشرك به يجرّم ويضرّس بأنياب ويظلم.
يُطوى المعتقل في الدولاب، فيصير دبره في جهة، وقدماه ورأسه
في جهة ثانية، فيثبت النظام.
علم كاتب السطور بعد أن هاجر إلى ألمانيا مصداق قول القائل:
إنَّ أعظم اختراع بشري على الإطلاق هو الدولاب، فكل شيء يدور على عجلات في أوربا:
عكاكيز الكهول، عربات التسوق، بكرات المصانع، الرافعات، السيارات، الدراجات التي
لها مئات الأصناف، السكوترات. هذه في الأشياء، أما الخلية الحية فتدور فيها
الكريات البيض والحمر، وكل في فلك يسبحون، إلا النظام السوري الثابت، الذي تقلص كثيرا
هذه الأيام بحرارة الحرب، على عكس قوانين الفيزياء المعروفة.
كان السوريون يشترون جرار الغاز، ويدحرجونها في الشوارع
جاعلين منها دواليب، يدفعونها بأقدامهم كما يفعل صنّاع اللباد، لمشقة حملها على
الأكتاف، وكان الدفع بالقدم خطرا أيضا، ومزعجا.
كل واحد من الرعية السورية كان "سيزيفا"، عاقبه
الإله السوري بدحرجة جرة الغاز، الجرة كانت دولاب السوري الوحيد الذي يدور، حتى
النواعير خرست.
أما اسم بساط الريح فمأخوذ من قصة من ألف ليلة وليلة، وهي آلة
من لوحين متفاصلين بمفاصل، يطويان كالسجل، فيطوى معهما المعتقل، وهو عادة ما يكون
من أنبغ السوريين وأكرمهم وأشجعهم، ثم يجال به العالم كما في أغنية فريد الأطرش من
غير جناحين.
والشبْح، والكرسي الألماني، والتعذيب بالشمعدان.. يروي حذيفة
ثابت، وهو ضابط مخابرات من الأقليات في شهادة مشهورة له، أنه كان يتعجب من ولع
الموظفين السوريين المنتدبين في السفارة السورية في لندن بشراء الشمعدانات الرومانسية،
حتى وجد أنها تستخدم في التعذيب، وليس للإنارة في المعابد. المعبد السوري الأشهر
كان السجن، أما الأضاحي، فهي أكرم العقول السورية وأشرفها.
لنعترف أن النظام كان مبدعا في أمر آخر غير أسماء آلات
التعذيب، وهو الشتائم، يسمع السوري المعتقل في السجن الذي يخلع فيه السجان قناعه
الطائفي، شتائم لم تخطر على أذن بشر.
من خصائص الشعر نظما ونثرا، الاختصار، والاقتصاد اللغوي، وقد
اختصر الشاعر السوري الوريث سوريا إلى الثلث، وشعبها إلى النصف، وهذا من البلاغة
الشعرية الجغرافية والسكانية.
جامعة سجن تدمر وصيدنايا وعدرا هي أشهر جامعات ألم سورية
مطلقا، وقد خرجت آلاف الشهداء ومئات الحكماء!
إن إنكار فضل الفاضلين جحود، اللهم نشهد.
وما زلنا ننتظر أن يدور الدولاب.. هو يدور إلى الخلف.
x.com/OmarImaromar