قضايا وآراء

حين تمارس السلطةُ التكوينَ والتكوينَ المضاد!!

"تكوين وتكوين المضاد يتم ويجري على عين السلطة ومن الواضح أنه بإيعاز من أجهزتها أو برعايتها"- إكس
شُغل الناس في مصر وخارجها بالنقاش والتجاذب، حول مركز "تكوين" والذي تم الإعلان عنه من المتحف المصري، أي برعاية رسمية من الدولة، كما أعلن عن ذلك القائمون على المركز، من باب التباهي بأنهم رسميون، أو مشمولون بالرعاية الرسمية من السلطة.

ثم تم الإعلان عن مناظرة بين الشيخ عبد الله رشدي والأستاذ إسلام البحيري، وفجأة أعلن الدكتور يوسف زيدان التهديد بأنه إذا تمت أي مناظرة فسينسحب من المركز، وإعلان مركز تكوين نفسه عن رفض أية مناظرة، وتم إنقاذهم من هزيمة نكراء متوقعة، يمكن لأي متخصص لديه ملَكة خطاب الجماهير، بأن يربحها بأيسر الطرق وفي أقصر الأوقات.

وبعد أيام من رفض المناظرة مع رشدي، فوجئنا بمنشور طويل يكتبه الشيخ أسامة الأزهري، مستشار السيسي الديني، مملوء بالتعالي بشكل فج، يطلب مناظرة كل أعضاء تكوين مجتمعين، يقوم بذلك وحده منفردا، في مشهد استعراضي أكثر منه علمي، وأنه اتصل بأحد القساوسة الأرثوذوكس الكبار، فتضامن معه، ليجري مداخلة في هذه المناظرة، منافحا فيها عن السنة النبوية، ثم الدفاع ضد الشبهات المثارة ضد المسيحية من أحد الأشخاص!! وأنه حال رفض تكوين المناظرة حسب شروطه التي فرضها، فإنه سيتجه لتكوين لجنة تعمل تحت إشرافه هو، يختار فيها مائة من الباحثين والعلماء، كل يرسل سيرته الذاتية ليختار منها ويرجح من يصلح ومن لا يصلح، للعمل على الرد عن كل الشبهات المثارة من أصحاب مركز تكوين، بمعايير معلومة بحكم أعمال الأزهري العلمية السابقة، بأنها معايير أمنية في المقام الأول، وبحسب موضع الباحث المطلوب من السلطة والسيسي، معارضة أو تأييدا، ولو كان من كبار مفكري الإسلام.

إنشاء تكوين وتكوين المضاد يتم ويجري على عين السلطة، ومن الواضح أنه بإيعاز من أجهزتها، أو برعايتها، فالأطراف المختلفة -شكليا وظاهريا- هي متفقة في أن مرجعيتها واحدة، أعني بذلك المرجعية السياسية والفكرية، وهي: نقد الأموات لا الأحياء، ونقد كل ما هو بعيد عن السيسي أو السلطة أو يتماس معها بأي شكل من الأشكال

العجيب في الأمر: رد يوسف زيدان نيابة عن تكوين، وهو قبوله باللقاء بالأزهري، وبالقسيس، شريطة أن يكون لقاء شخصيا سريا غير معلن، للنقاش والحوار، معربا عن تقديره للأزهري.

وهنا عدة ملاحظات على تكوين الذي تزعمه إبراهيم عيسى والبحيري وزيدان وغيرهم، وتكوين الذي أزمع إنشاءه أسامة الأزهري، وهي ملاحظات لا تنفك عن المشهد العام في مصر، والتعامل مع الملف الديني.

أولا: أن إنشاء تكوين وتكوين المضاد يتم ويجري على عين السلطة، ومن الواضح أنه بإيعاز من أجهزتها، أو برعايتها، فالأطراف المختلفة -شكليا وظاهريا- هي متفقة في أن مرجعيتها واحدة، أعني بذلك المرجعية السياسية والفكرية، وهي: نقد الأموات لا الأحياء، ونقد كل ما هو بعيد عن السيسي أو السلطة أو يتماس معها بأي شكل من الأشكال.

ثانيا: بمجرد رعاية السلطة لمركز تكوين، تغير خطاب أعضائه شكليا فقط أيضا، فابتعدوا في جل المقابلات الإعلامية التي خرجوا فيها عن الاستفزاز الفج الذي كانوا عليه سابقا، فلم نسمع على لسان البحيري أي سُباب فاحش كما كان من قبل عند طرح رأي فقهي لأي من الأئمة، بل فتح صدره للنقاش والتناظر مع أي أحد، ولكنه أيضا نقاش في إطار ما تسمح به السلطة، فرفض النقاش -كما أعلن- مع المتطرف، رغم أن أولى الناس بالنقاش والحوار هو المتطرف، إذ كيف يدعي أناس مهمتهم تكوين الفكر العربي والتجديد في الفكر العربي؛ رفض النقاش مع المتشدد أو المتطرف؟!

كما بدا الأمر أنه بترتيب من الأجهزة، إذ ليس من عادة أصحاب تكوين، إذا خاطبهم شخص أزهري أو متدين بهذه اللغة المتعالية، أن يكون ردهم بهذا السكون والهدوء المصطنع، إذ من يتابع أداء هؤلاء أنهم يهوون الصوت الزاعق، والمتكبر والمتعالي على مناقشهم، والبدء بالهجوم، عملا بالمثل المصري: خدوهم بالصوت. لكن الدور المرسوم للتكوينين أن يمضي بهذا الشكل.

ثالثا: بدا من المساحة التي أتيحت لتكوين، وللتكوين المضاد برعاية أسامة الأزهري، أنه يراد به مناكفة الأزهر شيخا ومشيخة ومؤسسة، إذ كيف يعلن شخص عن عمل علمي رسمي، ويطلب فيه باحثين كبارا يكونون تحت إشرافه، بينما الرجل لا صفة له رسميا، ولو كان مستشارا دينيا للسيسي فهو منصب شرفي لا رسمي، بينما المؤسسة المعنية بذلك رسميا مغيبة عن الأمر عن قصد وسوء نية!

وهذا ما نلاحظه في مجريات الأمور منذ إعلان تكوين، فلم يحدث أن تم تجاهل خطاب الأزهر، بينما كان الإعلام من قبل كلما حدثت مصيبة يخرج عمرو أديب وأحمد موسى وغيرهما ليتطاولوا على شيخ الأزهر، مطالبينه بالاستقالة لأنه لا يقوم بعمله ويجدد الخطاب الديني، رغم أن الخطاب الديني معنية به وزارة الأوقاف، لأنها المسؤولة عن المساجد والخطباء، ولا توجد مساجد تابعة للأزهر، ولو وجد فهو من باب الوعظ العام، وبتنسيق مع الأوقاف لأنها المؤسسة الأصل في ذلك، وهو اختطاف لدور الأزهر منذ أيام عبد الناصر، وله قصة طويلة ليس مجالها هنا.

جرى فتح مساحة في المجال العام المصري بهدف الإلهاء، فليس مستهدفا لهذه السلطة أن تقوم بالتنوير، سواء العلماني أو الإسلامي، ولا المحافظة على التراث بكل درجاتها، ولكن في ظل الضغوط الشعبية والعالمية، حول قضية غزة وما يجري فيها، تم طرح التكوين والتكوين المضاد، ليجري النقاش والإلهاء في مساحة تبتعد بالناس عن مشكلات المواطن الحقيقية، سواء المحلية أو الإقليمية

رابعا: بدا للناس أن خروج الأزهري بمبادرته جاء بعد إعلان مركز تكوين عن رعاية الدولة له، وكان رد فعل الناس على الأمر شديدا، ولم يكن في مصلحة الدولة، فكان المطلوب إخراج شخص من جهاز الدولة نفسه، بشكل يبدو للناس مضادا، ليحل المشكلة بما يشبه ما يجري في الصعيد والريف المصري: "قعدة عرب"، وتقبيل الرؤوس، ويا دار ما دخلك شر. وبذلك تكون السلطة هي من قامت بإصلاح ما أفسده تكوين، بتكوين آخر من رحم السلطة ذاتها أيضا، وبإخراج يبدو فيه مشهد الوحدة الوطنية، حيث يقوم شيخ وقسيس، مع علمانيين من المسلمين والمسيحيين، باللقاء والنقاش والحوار.

كل ذلك يتم بمنأى عن المؤسسات المعنية حقيقة بالأمر، وبعيدا عن مشكلات المواطن الحقيقية، سواء المتعلقة بالتجديد الديني، الإسلامي أو المسيحي، أو القومي نفسه، وبمنأى عن مشكلات المواطن اليومية التي يعاني منها، وليس منها في سلم أولوياته: النقاش حول العصر الهجري الأول، وما جرى فيه من أحداث تاريخية لا صلة لها بما يعيشه، وهو المراد تحقيقه من هذه الزوبعة.

خامسا: وهو الأهم، أنه جرى فتح مساحة في المجال العام المصري بهدف الإلهاء، فليس مستهدفا لهذه السلطة أن تقوم بالتنوير، سواء العلماني أو الإسلامي، ولا المحافظة على التراث بكل درجاتها، ولكن في ظل الضغوط الشعبية والعالمية، حول قضية غزة وما يجري فيها، تم طرح التكوين والتكوين المضاد، ليجري النقاش والإلهاء في مساحة تبتعد بالناس عن مشكلات المواطن الحقيقية، سواء المحلية أو الإقليمية، وهي وسيلة مجربة في أدبيات معظم المستبدين، وبخاصة في بلادنا العربية والإسلامية، فيتم طرح مسائل متعلقة بالدين، لا تمت للواقع المعيش بصلة، ولكنها تحرك في الأطراف المختلفة كل الأدوات لخوض معارك مستدعاة، تبتعد بالجميع عن المشكلات الحقيقية المطلوب نقاشها على مستوى كل حامل لراية التنوير أو التجديد.

x.com/essamt74
Essamt74@hotmail.com