لم يكن غريبا ولا مفاجئا هذه المسارعة الفورية بتأسيس ما
قيل عنه مؤسسة "تكوين
الفكر العربي" في هذا التوقيت بالذات، وسيكون صعبا
للغاية على أي متابع جيد لأجواء الشرق الأوسط اعتبار أن فكرة تأسيس هذه الهيئة
هبطت فجأة على رؤوس المتنادين بها ذات مساء وردي بهيج، ولا علاقة لها بما يغلي به
العالم كله ويفور مما يحدث في غزة، منذ 7 تشرين الأول/ أكتوبر وانطلاق "طوفان
الأقصى". والتساؤل عن توقيت أي عمل أو فكرة أو مشروع، تساؤل منطقي بريء، بل وعلمي
وضروري وهام.
* * *
وتجاهل عامل التوقيت إذا حدث، فسيكون مقصودا، للتعمية
على أهدافه المعلنة وغير المعلنة، خاصة إذا كان عملا يعلن عن نفسه بديباجة مليئة بالأماني!
تقول: "تعمل المؤسسة على تطوير خطاب التسامح، وفتح آفاق الحوار والتحفيز على
المراجعة النقدية وطرح الأسئلة حول المسلّمات الفكرية، وإعادة النظر في الثغرات
التي حالت دون تحقيق المشروع النهضوي الذي انطلق منذ قرنين".
أنت هنا تتحدث عن "التسامح" و"المسلّمات
الفكرية" و"المشروع النهضوي"، رائع.. يقولون إن الواقع غالبا ما ينشد
أهدافه، وهذا صحيح، وفي حالتنا هذه من يتطلع إلى هذه الأهداف في هذا الوقت الحرج الذي
يمر به الشرق الأوسط ويغلي ويهدر بما نرى ونسمع؟ ثم ما نوع المعاناة من غيابها
أصلا؟ بل وما هو المتوقع لها من نتائج وآثار في هذا التوقيت؟
أنت هنا تتحدث عن "التسامح" و"المسلّمات الفكرية" و"المشروع النهضوي"، رائع.. يقولون إن الواقع غالبا ما ينشد أهدافه، وهذا صحيح، وفي حالتنا هذه من يتطلع إلى هذه الأهداف في هذا الوقت الحرج الذي يمر به الشرق الأوسط ويغلي ويهدر بما نرى ونسمع؟ ثم ما نوع المعاناة من غيابها أصلا؟ بل وما هو المتوقع لها من نتائج وآثار في هذا التوقيت؟
وما هو هذا الحدث الطارئ (والمفترض أننا لا نعرفه!!) الذي
طرأ على المنطقة العربية، والتي كان قد سبق ووصفها الشاعر الكبير نزار قباني (ت: 1988)
بأنه من خمسين عاما وهو يراقب أهلها: "وهم يرعدون ولا يمطرون، وهم يدخلون
الحروب ولا يخرجون، وهم يعلكون جلود البلاغة علكا ولا يهضمون"؟
* * *
مصطلح "التسامح" هو الوليد الشرعي للحروب
الدينية التي شهدتها أوروبا في القرنين السادس عشر والسابع عشر وبداية القرن
الثامن عشر، مع الصراعات الدموية الرهيبة بين الكاثوليك والبروتستانت، وانتهى بالكاثوليك
إلى "التسامح" مع البروتستانت ثم تسامح البروتستانت معهم.
أين هو المجال العربي الذي يعاني مما يشبه ذلك، ويحتاج إلى
نهوض فئة "مخلصة" منه "تتنادى" فيه بالتسامح، مثل ما فعل الشاعر
الفرنسي بيير دى رونسار (ت: 1524م) في كتابه الشهير "ضروب البؤس"، والذي
أهداه للملكة كاترين دي ميتشي (ت: 1589م) وقال
فيه: إذا كان الدين المسيحي نفسه يحمل بذور كل هذا العداء أو ليس من الأفضل أن
نعود للوثنية"؟!
إذا كان هناك ثمة "تسامح" مطلوبا حقيقة،
ويحتاج إلى من يتنادى به فعليا، فهو بين النظام العربي الرسمي من الخمسينيات، وبين
الشعوب العربية. إذا كان ذلك كذلك، واتخذ مسارا إلى هذا الهدف في خط سيره بين
المجال العربي العام، وقام يدعو إلى ذلك ويبشر به يرجوه، فسيكون بالفعل شيئا مفيدا
للغاية، ذاك الذي تقدمه هذه المؤسسة الوليدة للشعوب العربية.
* * *
الحديث عن "المسلّمات الفكرية" هو الملفت للنظر حقيقة في بعده البعيد عن الواقع، وانخراطه في تجارب بالية من ماضي سحيق خرج من نفس البيئة الأولى في أوروبا، والتي كانت تتنادى بأهمية زحزحة "الجسد الثقيل للكنيسة" عن موقعها القابض على الدين والدنيا
لكن الحديث عن "المسلّمات الفكرية" هو الملفت
للنظر حقيقة في بعده البعيد عن الواقع، وانخراطه في تجارب بالية من ماضي سحيق خرج
من نفس البيئة الأولى في أوروبا، والتي كانت تتنادى بأهمية زحزحة "الجسد
الثقيل للكنيسة" عن موقعها القابض على الدين والدنيا في بدايات عصر التنوير
وقيام الثورة الفرنسية (1789م).
أما أكثر كلمات الديباجة إثارة فهو الحديث عن ثغرات "المشروع
النهضوي"، وأظن أنهم يشيرون هنا إلى التطور الذي واكب بدايات "الإحياء
العربي" في منتصف القرن الثامن عشر، وزاد واتسع خلال القرنين التاسع عشر والعشرين
مع إصلاحات محمد علي باشا (ت: 1849 م) في
مصر والسودان والشام، وظهور حركات
الإصلاح الإسلامي، وانتشار ثقافة "تكوين" الجمعيات والجماعات والأحزاب السياسية،
وإحياء التراث وتحقيقه، والتفاعل الحضاري الناضج بين الأدب العربي والآدب الغربي
وتطوير الخطاب اللغوي.. الخ.
* * *
وهذ الأمر حال دون اكتماله الاحتلالُ البريطاني والفرنسي،
ثم الدولة الوطنية ما بعد خروجه. إذا كان كذلك، فالاحتلال خرج، وترك وراءه "إسرائيل"
تقوم مقام الخفير على مصالحه كما يعلم تلاميذ المدارس، وليس هناك أي إشارة من قريب
أو بعيد إلى ذلك، طبقا لما ذكره مجلس أمناء المؤسسة في رؤيتهم تلك، كما وأن معظمهم
يرحبون بوجودها، ويهاجمون من يقاومها!
والأمر نفسه فيما يتعلق بالدور الرهيب للدولة الوطنية من
الخمسينيات في إحداث وتوسيع هذه "الثغرات"، خاصة في مجال الحقوق
والحريات، والتي هي ماء وهواء "الفكر الصحيح".
* * *
إذن ما هو المقصود من كل هذه التعبئة المفاجئة لتلك المؤسسة،
خاصة وأن أغلب شخصياتها لم يُعرف عنهم أي حرص أو مشاركة فاعلة في تلك المراجعات
بالغة الضرورة، سواء فيما يتعلق بإسرائيل، أو بالنظام العربي الرسمي بعد الاحتلال؟
هكذا.. سنرى بوضوح أن الموضوع لا علاقة له بأرض الموضوع،
فإذا كنت تتحدث عن الماضي، فتاريخه ينطق به، وهذه هي عناوينه كما سبق.
وإذا كنت تتحدث عن المستقبل، فلم يجد أي "جديد"
على ما قاله لنا نزار قباني في قصيدته الشهيرة "متى يعلنون وفاة العرب"،
إلا "طوفان الأقصى"، رغم الومضة الخاطفة المختفية لأحداث "الصراخ العربي"
في 2011م.. وهو "الجديد" الهادر الذي يحمل في أحشائه ألف ميلاد وميلاد،
ليس فقط في إعادة ترسيم الواقع العربي، ولكن وهو الأهم، في إعادة تعريفه.
* * *
إنهم "الشباب" إذن، الذين رأوا في "طوفان الأقصى" الجرأة والشجاعة والقدرة، وإنه "الدين" الذي هو عماد "الفكر" الذي هدر منه هذا الطوفان
وهنا تكون الدائرة قد اكتملت، وعرفنا بما لا يدع مجالا للشك
ماذا تريد مؤسسة "تكوين الفكر العربي" وإلامَ تهدف، والتي يقول عنها أحد
مؤسسيها "إنها بداية التنوير الثقافي الذي يهدف إلى مخاطبة الشباب، مع تجديد
الخطاب الديني، ومن يعاديهم يريد أن يبقى في الظلام"!
إنهم "الشباب" إذن، الذين رأوا في "طوفان
الأقصى" الجرأة والشجاعة والقدرة، وإنه "الدين" الذي هو عماد "الفكر"
الذي هدر منه هذا الطوفان.
* * *
الحديث له تفاصيل أخرى أكثرها "سطحي" و"تافه"،
خاصة فيما يتعلق بأسماء كثير من المؤسسين، لكن الإشارة في العمل كله واضحة بل
وتقفز قفزا من عبارات أصحابه، وتشير بأصابع مريبة إلى ما تتجهز له المنطقة العربية
خلال السنوات القادمة احتواء وتحجيما للآثار الهائلة لـ"الطوفان"..
خاصة وأن "هزيمة إسرائيل" تلوح الآن بوضوح بعد
دخول رفح، هزيمة في حرب لم تعرفها من 75 سنة، كما قال وزير دفاعهم، وسيكون على
التاريخ بعدها أن يراجع كل أوراقه، متسائلا: من فعلها؟
twitter.com/helhamamy