ظهر ولع
السيسي بالشاشات مبكرا؛ منذ أن كان وزيرا
للدفاع، وهذا الولع بالمجد والظهور أمر مألوف لدى المتطلعين إلى مكانة ترفع بها مستوى
الشخص، أو لدى أصحاب المواهب الذين يريدون إبرازها، وبما أن صاحبنا لا يملك موهبة،
فنعرف في أي الفريقين هو.
هذا الولع قد نفهمه بما أنه في سياق متكرر ومعتاد، لكن
ما أصاب السيسي يتجاوز الولع الطبيعي إلى الولع المرضيِّ والهوس بالظهور وإثبات الحضور
اليومي على الشاشات والمستقبل بعد ذلك؛ وهذا ما تظهره الأعمال الفنية التي طالب
بها بنفسه، مثل مسلسلات الاختيار بأجزائه الثلاثة، خاصة الجزء الأخير الذي يروي
مشاركته في أكبر جريمة حدثت في
مصر على المستوى الجنائي أولا والسياسي بعد ذلك.
بخلاف مسلسل الاختيار فهناك الأعمال السينمائية
والتلفزيونية التي تتحدث عن مواجهة نظامه لما يسميه "الإرهاب"، إما في
أعمال كاملة أو الإشارة لها ضمن أعمال، حاشدا في ذلك العديد من نجوم الصف الأول
الذين لا يجتمعون سويا في أي عمل، لأسباب متعددة من بينها ضخامة ميزانية عمل يجتمع
فيه أكثر من نجم من نجوم الصف الأول.
ما أصاب السيسي يتجاوز الولع الطبيعي إلى الولع المرضيِّ والهوس بالظهور وإثبات الحضور اليومي على الشاشات والمستقبل بعد ذلك؛ وهذا ما تظهره الأعمال الفنية التي طالب بها بنفسه، مثل مسلسلات الاختيار بأجزائه الثلاثة، خاصة الجزء الأخير الذي يروي مشاركته في أكبر جريمة حدثت في مصر على المستوى الجنائي أولا والسياسي بعد ذلك
آخر هذه الأعمال الفيلم المسمى بـ"السرب" الذي
سيُعرض مطلع مايو/ أيار لإبراز "قوة" السيسي و"غضبه"
و"قدراته" ضد تنظيم داعش المجرم، عقب جريمة ذبح 21 مصريا في ليبيا في
منتصف فبراير/ شباط 2015، وردَّ السيسي وقتها بقصف جوي لمواقع أسماها تابعة
للتنظيم، لكن منظمة العفو الدولية اتهمته وقتها بقتل سبعة مدنيين، وفق شهادات
جمعتها من سكان منطقة مدنية؛ نفوا وجود منشآت عسكرية في المنطقة التي استهدفتها
الضربة الجوية الأخيرة في ذلك اليوم، كما ذكرت المنظمة أنها لم تجد أهدافا عسكرية
في تلك المنطقة.
ثم أعاد السيسي قصف الشرق الليبي عام 2017، عقب جريمة قتل
28 مصريا في محافظة المنيا بصعيد مصر، بذريعة أن مدينة درنة الليبية كانت مقرا
لتدريب مرتكبي الجريمة، وأعلن الجيش وقتها استهداف المدينة التي يسيطر عليها مجلس
شورى المجاهدين المعادي لحفتر وداعش أيضا، فالسيسي الداعم لحفتر قرر استهداف مقرات
مجلس شورى المجاهدين وقتها، مستغلا حدثا طائفيا في صعيد مصر يبعد عن درنة أكثر من
1200 كم.
يأتي فيلم السرب للدعاية للسيسي في سياق أنه قوي في
مواجهة التهديدات، في حين أن السيسي نفسه أكبر تهديد لمصر وأمنها وحاضرها
ومستقبلها، ويأتي في سياق محاولة صنع صورة يخلد بها نفسه في التاريخ المصري، باعتباره
صاحب "قناة السويس الجديدة"، وأنه الذي يبني "مصر الحديثة"،
وأنه "بطل الحرب والسلام"، فيحارب في مواجهة المخاطر ضد مصر، ويحافظ على
السلام مع العدو الصهيوني.
فضلا عن إصراره الشديد على أنه يخوض حربا ضد ما يسميه
"الإرهاب" في سيناء وربوع مصر وخارجها أيضا، ليخلد صورته كزعيم يبني
ويحارب، فإنه يستخدم في سبيل ترسيخ تلك الصورة موارد الدولة كافة، دون حساب أو
رقيب على النفقات المهدرة في بلد مفلس اقتصاديا، تضيع موازنته في سداد القروض
وفوائدها.
هذه الحملات الإعلامية تقف عاجزة عن صناعة صورة قوية
للسيسي، نظرا لموقفه في التهديدات الوجودية الحقيقية لمصر، مثل موقفه من سد النهضة
الإثيوبي الذي وضع مصر في أزمة مياه، مع التنبيه على أننا نعاني شحا مائيا قبل
إنشاء السد، وكعادة السيسي ألقى باللوم على ثورة 2011 ونسب لها بناء السد، وهو نفس
ما يفعله في كل فشل أمني، فإما أن يلقي به على الثورة، أو يلقي به على الجيران
الحدوديين وضعف التأمين لديهم.
كذلك لم يقم السيسي بأي إجراء يقف حائلا أمام وقف
العدوان على الفلسطينيين، رغم أنه صاحب عبارة "مسافة السكة" إذا تهدد
الكفيل الخليجي من إيران، دون اعتبار لأن التهديد في فلسطين تهديد لجارة حدودية، وأنه
تجري في الأراضي الفلسطينية أكبر مذبحة في التاريخ، إذ وصل عدد الضحايا إلى ما
يقرب من 6 في المئة من أهل القطاع بين شهيد وجريح، كما وصلت المباني السكنية
المدمرة إلى 65 في المئة بخلاف المباني التعليمية والحكومية والمستشفيات.
هذه المواقف المضرة لمصر لا يصح معها وصف مواقف السيسي بالضعف أو التخاذل، بل يجب وصفها بالتواطؤ الصريح، دون أي شعور بالمبالغة في هذا التوصيف، فهو لم يترك شيئا يمكنه أن يضر المصريين إلا وفعله، عن عمد وقصد لا تخطئهما عين، بل إن إغلاق الحدود البرية بالتزامن مع الإسقاط الجوي وإنشاء الرصيف البحري في غزة، يجعل الاحتياج إلى الدور المصري أقل أهمية وربما منعدما
حتى عمليات الإسقاط الجوي التي يقوم بها في القطاع، مجرد
لقطة سينمائية شديدة الرداءة، إذ الحدود البرية للقطاع موجودة إذا أراد إدخال
مساعدات حقيقية، أو إخراج حالات طبية وإنسانية، لكن الهوس بالشاشات وأخذ اللقطات،
أعمياه عن التعليقات الطبيعية التي ستخرج من فم أي طفل يتساءل عن جدوى الإسقاط
الجوي المصري، بينما المعبر مغلق.
هذه المواقف المضرة لمصر لا يصح معها وصف مواقف السيسي
بالضعف أو التخاذل، بل يجب وصفها بالتواطؤ الصريح، دون أي شعور بالمبالغة في هذا
التوصيف، فهو لم يترك شيئا يمكنه أن يضر المصريين إلا وفعله، عن عمد وقصد لا
تخطئهما عين، بل إن إغلاق الحدود البرية بالتزامن مع الإسقاط الجوي وإنشاء الرصيف
البحري في غزة، يجعل الاحتياج إلى الدور المصري أقل أهمية وربما منعدما، وهذا الواقع
الجديد الذي تحاول الأطراف الدولية والإقليمية تشكليه، مطلوب لكل أعداء وحدة
الشعوب التي تحاول التماسك والتكاتف في الهموم، رغم انقسام الحكام منذ سنوات بعيدة.
إن محاولة صنع بطولة تاريخية يمجدها الناس في كتبهم
وذكراهم لن تفلح إلا إذا كان العمل خادما لهم، ومتوافقا مع ثقافتهم ومشاعرهم
وآمالهم، ولهذا مجَّد التاريخ أناسا مرت قرون على وفاتهم، كما حفظ التاريخ أسماء
آخرين من باب الخسة والوضاعة، لا من باب المجد، وصاحبنا لا ريب سيكون من الخالدين
في الباب الثاني، لا بوابة المجد.