نبهت الانتفاضات العربية في 2011 المسؤولين في الدول العربية
إلى بعض الأمور، ولطبيعة عمل
السيسي في جهاز معلوماتي حساس، فقد أدرك قيمة الحكم
في
مصر وفقا لقواعد لا تتجاوز المحددات والشروط الإقليمية والدولية، ومع وصول تنظيم
من خارج منظومة الحكم المعتادة ودوائرها المرتبطة بالتفاهمات الإقليمية والدولية،
بدأت المناكفات تظهر أمام هذا التنظيم خاصة، وأمام مسار الديمقراطية بشكل عام،
فانكشفت مساحة جديدة من التفاعلات الدولية أمام السيسي وقرر خوض معركة بالوكالة
لقوى إقليمية ودولية. وكان من البديهي أن يكون للوكالة ثمن، فتدفقت
المساعدات
الأولية عام 2013 سواء كانت مالية أو عينية، ومن هنا بدأ يفهم جانبا جديدا ساعده على
البقاء في الحكم طوال عقد حتى الآن.
فَهِم السيسي، وربما يكون هذا الذي استغرقه
خمسين عاما ليفهمه، أن حيوية مصر غير مرغوبة في محيطها، وهناك من
يستعد لبذل المليارات مقابل كبت نموها وتطورها، فتحدث وقتها عن "الرز
الخليجي"، وأن مصر في حربها على "الإرهاب" تحتاج إلى دعم مالي،
ودعم سياسي، فكان العطاء الإقليمي بلا حدود. ثم بدأت عمليات الدعم تخفت مع الإخفاق
المستمر للاقتصاد المصري، والإدارة السيئة لشؤون الدولة المصرية ومواردها المالية،
خاصة ما يسمى بالصندوق السيادي، أو صندوق تحيا مصر، أو الصناديق الخاصة، فأطلق
وزير المالية السعودي، محمد الجدعان تصريحه الشهير مطلع عام 2023 الذي قال فيه إن
بلاده غيّرت طريقتها في تقديم المنح والمساعدات إلى الدول المجاورة، وأنها ستكون
مشروطة بحدوث إصلاحات.
رغم ما قدمه السيسي من ضمانات تضيع حقوق الأجيال القادمة وتكبل حركتهم للتقدم والازدهار، فقد وصل العالم كله إلى قناعة بأن مصر أصبحت عبئا دوليا، وفي المقابل كان السيسي يراهن على فكرة تبلورت على مدار سنوات حكمه، وهي أن "مصر أكبر من أن تسقط"، فالعالم لن يحتمل موجة هجرة أو لجوء إذا سقطت مصر اقتصاديا وانتابتها الفوضى الأمنية، ودول الإقليم كذلك لن ترضى أن تقوم ثورة في مصر تطيح بحكمه
وقد سبقت تصريحات الجدعان، تصريحات للسيسي في تشرين
الأول/ أكتوبر 2022، قال فيها: "حتى الأشقاء والأصدقاء أصبحت لديهم قناعة بأن
الدولة المصرية غير قادرة على الوقوف مرة أخرى، وأن الدعم والمساندة عبر السنوات
شكَّل ثقافة الاعتماد عليها لحل
الأزمات والمشاكل". وكانت تصريحاته بعد فترة
من توقف الدعم دون مقابل، وأصبح الدعم مرهونا بشراء أصول، أو قروض بفوائد أو ما
إلى ذلك من الضمانات للدولة المقدِّمة للمبلغ أو الاستثمار.
رغم ما قدمه السيسي من ضمانات تضيع حقوق الأجيال القادمة
وتكبل حركتهم للتقدم والازدهار، فقد وصل العالم كله إلى قناعة بأن مصر أصبحت عبئا
دوليا، وفي المقابل كان السيسي يراهن على فكرة تبلورت على مدار سنوات حكمه، وهي أن
"مصر أكبر من أن تسقط"، فالعالم لن يحتمل موجة هجرة أو لجوء إذا سقطت
مصر اقتصاديا وانتابتها الفوضى الأمنية، ودول الإقليم كذلك لن ترضى أن تقوم ثورة
في مصر تطيح بحكمه، وستتدخل تلك الدول في الوقت المناسب للحفاظ على استقرار حكمه،
لا استقرار مصر.
ما يعتقده السيسي حقيقة فعلية، بقدر نفس حقيقة أن نظامه
عبء دولي في أوقات الاستقرار، لكن طوق النجاة الذي لم يتوقعه السيسي كان معركة
طوفان الأقصى، فبعد تعنت صندوق النقد، وتوقف "الأشقاء" عن الدعم، وظهور
نبرة انتقادات دولية غير معتادة للأوضاع المصرية، جاءت معركة طوفان الأقصى لتلقي
بطوق نجاة للسيسي، فجرت الانتخابات الرئاسية دون أن ينشغل الإعلام الدولي بها،
وأصبحت المنح والعطايا تقدم إلى مصر لدور نظامها في تضييق الخناق على المقاومة،
وأصبحت الوفود الدولية تتقاطر على قصر الحكم في الاتحادية لتوجيه مسارات الحرب وما
بعدها. وبالطبع لم يكن السيسي ليترك فرصة كهذه تمر من بين يديه دون اشتراط عطاء
سخي يعينه على البقاء، فأصبحت الأموال المقدمة إلى مصر، سواء وصلت بالفعل أو ستستقبلها،
تتجاوز 50 مليار دولار، وهو رقم سيمثل مسكنا قويا للأوضاع المصرية، لكنه لن يكون
سببا للتعافي الاقتصادي.
إن مصر أكبر من أن تسقط في نظر العالم، لكن السيسي ليس
أكبر من أن يسقط، ومشكلته الأساسية أنه يخلط دوما بين النظام والدولة، صحيح أنه
استطاع أن يمزج نفسه بالدولة بصورة كبيرة، لكن هذا الارتباط يمكن فصله إذا دعت
الحاجة، أو أصبحت مصر مرة أخرى عبئا في ظل استقرار في الإقليم، وهذا هو العامل
المتغير.
لقد كانت مصر قبيل الطوفان تحوم حولها أمارات الاضطراب
السياسي، وسط محيط إقليمي متوتر لكنه مستقر ويمكن التحكم فيه، وكانت القضية
الفلسطينية تسير نحو حتفها، وفجأة أصبحت فلسطين عامل اضطراب قوي في الإقليم وقد يؤدي
العدوان الصهيوني إلى مواجهات أوسع، وأصبح الاضطراب المصري أقل أهمية من الدور
المصري الممكن تأديته في الأحداث الجارية، فكان هذا المعطى الجديد عامل دعم للسيسي.
وبالفعل قَمَعَ التظاهرات، واعتقل المشاركين في التظاهرات المستقلة عن أجهزته
وأنصاره، وبعض المعتقلين لا يزال محتجزا، وأغلق معبر رفح في وجه المساعدات
والجرحى، وطالت تصريحات وزير خارجيته المقاوَمة بالانتقاد، وهو الوزير الذي كانت
أكبر معركة خاضها مع ميكروفون قناة عربية، وأصبحت المحصلة أن أزمة غزة هي طوق
النجاة للنظام في مصر.
وصلت السيسي وسيلة إنقاذ جديدة، لكنها ستظل مؤقتة، وهو يدرك أنها مؤقتة، وسيظل بانتظار فرصة أخرى تجعل أساريره منفرجة كما هي هذه الأيام التي أعاد الإطلال فيها علينا بسماجته المعهودة، وسنظل نحن ندعو لمصر ألا تسقط، وعلى نظامه بأن يسقط
رغم الدعم السخي المقدم إلى مصر هذه الأيام، فالملاحظ أن
الإماراتيين لم يقدموه دون مقابل هذه المرة، بل سيأخذون أمامه أرباحا طائلة من أحد
أجمل شواطئ المنطقة كلها، فضلا عما يثار عن تحمل مصر لتكاليف مد الخدمات الأساسية
إلى الحدود الخارجية للمشروع كالكهرباء والصرف الصحي، والإمدادات الداخلية ستكون
مسؤولية المستثمر، وأيضا ما يقال عن أن الصفقة هي بيع للمنطقة، في استمرار لتنازل
السيسي عن الأراضي المصرية كما فعل مع جزيرتي تيران وصنافير، وربما لو كانت
السودان دولة ثرية لأعطاها مثلث حلايب وشلاتين مقابل مبلغ مالي يعطيه دَفعة ما للبقاء
على كرسيه.
كذلك فعل الأوروبيون، فالمليارات الثمانية المقدمة إلى
مصر ستكون استمرارا لسياسة عسكرة الحدود الجنوبية لأوروبا بغرض حمايتها من موجات
المهاجرين غير النظاميين، الذي يريدون الخروج من أوطانهم الأفريقية والانتقال إلى
أوروبا، ويحتل المصريون نسبة معتبرة من هذه الأفواج الهاربة من جحيم نُظُمها، ورغم
أن هذه الشراكات قديمة، لكنها تعززت هذه الأيام دون اكتراث بانتهاكات حقوق الإنسان
من قبل السلطات المصرية بحق النازحين أو محاولي الهجرة واللجوء إلى أوروبا.
إذا، وصلت السيسي وسيلة إنقاذ جديدة، لكنها ستظل مؤقتة،
وهو يدرك أنها مؤقتة، وسيظل بانتظار فرصة أخرى تجعل أساريره منفرجة كما هي هذه
الأيام التي أعاد الإطلال فيها علينا بسماجته المعهودة، وسنظل نحن ندعو لمصر ألا
تسقط، وعلى نظامه بأن يسقط.