قبل أيام، أصدرت حركة التحرير الوطني
الفلسطيني (
فتح) بيانا شديد اللهجة
غريب المضمون؛ هاجمت فيه انتقاد حركة المقاومة الإسلامية (
حماس) وبعض الفصائل
الأخرى لقرار الرئيس الفلسطيني محمود عباس، قبول استقالة حكومة محمد اشتية وتكليف
محمد مصطفى بتشكيل حكومة جديدة.
قال البيان؛ إن "من تسبب بإعادة احتلال إسرائيل لقطاع
غزة وتسبب بوقوع
النكبة التي يعيشها الشعب الفلسطيني، وخصوصا في قطاع غزة، لا يحق له إملاء الأولويات
الوطنية"، كما دعت فتح في بيانها حماس "لوقف سياساتها المرتهنة لأجندات
خارجية والعودة للصف الوطني".
من نافلة القول؛ إن بيانا بهذا التوقيت والمضمون من المستبعد أن يعبر عن
حركة فتح بكاملها، قيادات وكوادر، حتى ولو كانت الخلافات بينها وبين حماس في
ذروتها، من باب الحكمة والذكاء السياسي، إن لم يكن من باب الموقف الوطني والأخلاقي
المبدئي. ومما يعزز هذا الانطباع حديث عضو المجلس الثوري لفتح بسام زكارنة الذي
نفى أن يكون البيان قد نوقش في اللجنة المركزية أو المجلس الثوري كما جرت العادة،
فضلا عن كلام قيادات سابقة في الحركة مثل ربحي حلوم وحلمي البلبيسي.
لكن البيان صدر في نهاية المطاف باسم فتح، ولم يصدر لاحقا نفي له أو تنصل
منه أو اعتذار عنه، ولا حتى توضيح يمكن أن يخفف من حدة الانطباعات التي ولّدها، ما
يبقيه في نهاية المطاف "بيانا لحركة فتح" بغض النظر عما إذا كان من أصدره
شخص أم جهة أم تيار داخلها، بل وبغض النظر عن مدى صحة التقارير التي تحدثت عن
خلافات حادة نشبت داخل الحركة بعد صدوره.
لو كان الأمر متعلقا بالطرف الذي وقف خلف البيان، لكان كافيا مهاجمته
والتحذير من خطورة توقيته ومضمونه وأسلوبه، بل وربما السخرية منه، لكن القاعدة
الواسعة من قيادة فتح وقاعدتها التي نظن أنها لا ترضى عن البيان (فضلا عن عموم
الشعب الفلسطيني)، تستحق نقاش البيان وتبيان مدى خطورته وتماهيه مع سردية الاحتلال
وخططه، ومدى ما يمثله ذلك من خطورة على فتح نفسها.
ثمة الكثير مما يمكن نقاشه وردّه في البيان، من قبيل انتقاد "عدم
استشارة حماس للسلطة" قبل عملية طوفان الأقصى في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر
(استشارة الأجهزة الأمنية التي تجرّم المقاومة وتلاحقها؟)، وادعاء "خروج حماس
عن الصف الوطني" (بيان انتقاد تشكيل الحكومة صدر عن فصائل حماس والجهاد
الإسلامي والجبهة الشعبية والمبادرة الوطنية)، وما عدّه البيان "حياة الرخاء
التي تعيشها قيادة حماس في الفنادق" (إغفال متعمد لواقع القيادة التي تقود
المعركة)، واتهام حماس بالتفرد في القرار (ماذا عن أوسلو وما تلاها وإلغاء
الانتخابات؟).
صدور بيان بهذا المضمون والأسلوب بعد ما يقرب من ستة أشهر على العدوان، ومدة من الصمت الطويل من الحركة، وبعد كل ما اقترفه الاحتلال من مجازر، يثير علامات استفهام وجيهة حول مقاصده ومراميه. محنة كهذه يفترض أن تدفع كلَّ وطنيٍّ غيور إلى نبذ الخلافات وتوحيد الصف في وجه الاحتلال، وليس فتح معارك جانبية والاستقواء على المقاومة وفصائلها بالوضع الإنساني الصعب في القطاع.
لكن كل هذا، على أهميته، ليس ذا أولوية في نقاش خطورة البيان، ويمكن -بل
ينبغي- تأجيله، إذ هو هوامش خطأ على متن خطايا كبرى، كما أنه يمكن أن يُفهم في
إطار المناكفات الداخلية، مما لا يليق خلال عدوان بهذه الوحشية.
يهمنا من البيان حاليا، ما يرتبط بالبعد الوطني العام ومسار القضية
الفلسطينية ككل، وبشكل أدق توقيته، ثم المغالطات المنهجية التي انطوى عليها، وصولا
للخطيئة الوطنية التي ارتكبها.
ذلك أن صدور بيان بهذا المضمون والأسلوب بعد ما يقرب من ستة أشهر على
العدوان، ومدة من الصمت الطويل من الحركة، وبعد كل ما اقترفه الاحتلال من مجازر، يثير علامات استفهام وجيهة حول مقاصده ومراميه. محنة كهذه يفترض أن تدفع كلَّ وطنيٍّ
غيور إلى نبذ الخلافات وتوحيد الصف في وجه الاحتلال، وليس فتح معارك جانبية والاستقواء
على المقاومة وفصائلها بالوضع الإنساني الصعب في القطاع، واستغلال ذلك لتسجيل نقاط
ضدها.
ثمة مغالطتان منهجيتان في منطق البيان المذكور، إن كنا سنأخذه على محمل
الجد:
الأولى، أنه ليس ثمة تلازم بين دوافع المعارك ونتائجها، فالمخرجات ليست
حاكمة على المنطلقات، والنتائج ليست معيار تقييم مشروعية أي عمل. فليس كل منتصر في
حرب أو معركة على حق فيها، ولا كل معركة أو حرب تمت خسارتها معدومة المشروعية
والأحقية. وهذه من البديهيات التي يصعب على الإنسان التدليل عليها أو حتى مجرد
الإشارة لها، فقد قالوا قديما؛ إن توضيح الواضحات وتسهيل السهل من أصعب الصعب.
والثانية، أن منطق حركات التحرير لم يقم يوما ولا يمكن أن يقوم على
المقارنات المادية المباشرة مع الاحتلال أو الاستعمار، لا من حيث القوة المادية، ولا من حيث أعداد الضحايا (الشهداء في حالتنا) والدمار وما إلى ذلك. ففلسفة
المقاومة وحركات التحرر هو استنزاف المستعمر الأكثر قوة وتسليحا وإجراما، ولكن
الأقل صبرا على التضحيات والخسائر حتى يرحل، وهذا ما حصل مع كل البلاد المحتلة، وأثبت نجاعته رغم الخسائر الفادحة التي ما زال التاريخ يسجلها لمختلف الشعوب
المحتلة.
من جهة ثانية، لا يناقض البيان المذكور المنطق وفلسفة حركات التحرر وحسب،
ولكنه يناقض تاريخ حركة فتح نفسها، وهي التي قادت النضال الفلسطيني لعقود، وخاضت مع
الاحتلال معارك ومواجهات عديدة، كانت النتائج المباشرة والظاهرية لبعضها لصالح
الاحتلال. فهل ينبغي، مثلا، أن نحمل حركة فتح أو منظمة التحرير مسؤولية اجتياح
الاحتلال للبنان وحصار بيروت في 1982، وما تخلل ذلك من دمار ومجازر وقتل، فضلا عن
الانعكاسات السياسية اللاحقة؟ وهل ينبغي أن نسلم برواية الاحتلال بأن محاولة
اغتيال سفير "إسرائيلي" أو إطلاق عدة صواريخ من جنوب لبنان هو السبب
الرئيس والوحيد والمباشر لهذا الاجتياح وما ترتب عليه؟ وهل أتت نتائج المعركة كما
كانت تخطط فتح/المنظمة وتشتهي؟ وهل هي المسؤولة المباشرة عما حصل؟
إن الخطيئة الوطنية الكبرى التي ارتكبها البيان هو ترديد وتأييد السردية
"الإسرائيلية" التي تحمّل المقاومة الفلسطينية مسؤولية الإبادة الحاصلة
في قطاع غزة، وتخلي مسؤولية الاحتلال، حين تُقدّم الجرائم التي يرتكبها وكأنها رد
فعل عادي ومنطقي ومتوقع لعملية طوفان الأقصى كان ينبغي للمقاومة أن تحسب حسابه،
وإلا فتقع على كاهلها مسؤولية كل المجازر والدمار والحصار والتجويع الحاصل ضد
أهلنا في غزة!
الخطيئة الوطنية الكبرى التي ارتكبها البيان هو ترديد وتأييد السردية "الإسرائيلية" التي تحمّل المقاومة الفلسطينية مسؤولية الإبادة الحاصلة في قطاع غزة، وتخلي مسؤولية الاحتلال، حين تُقدّم الجرائم التي يرتكبها وكأنها رد فعل عادي ومنطقي ومتوقع لعملية طوفان الأقصى كان ينبغي للمقاومة أن تحسب حسابه.
أي منطق أخلاقي أو وطني أو سياسي أو حتى مصلحي (بما في ذلك الخلاف مع حماس)، يمكن أن يسوّغ التماهي مع سردية الاحتلال وتأييدها خلال ارتكابه جريمة الإبادة
ومحاولة تصفية القضية الفلسطينية برمتها؟ وأي فائدة يمكن أن ترجى من بيان كهذا، إلا
تسويق بعض الأطراف أو الشخصيات غير الوطنية نفسها للاحتلال، على أنها خيار ممكن له
في "اليوم التالي في غزة" أو "اليوم التالي بعد حماس" على ما
يأمل الاحتلال ويتوهم؟
إننا حين نسأل ونسائل: ماذا يمكن تسمية بيان يتماهى مع سردية الاحتلال إلى
هذه الدرجة؟ إنما ندعو الشرفاء في حركة فتح، الذين نعرف يقينا أن بيانا كهذا لا
يمثل رأيهم وموقفهم، لتبيان موقفهم علنا وبقوة؛ حرصا على القضية الفلسطينية وعلى
مستقبل حركة فتح نفسها، إن لم يكن من أجل أهل غزة ومقاومتها. ولعلنا نذكّرهم
بالمقولة الشهيرة للشهيد صلاح خلف (أبو إياد)، حين حذّر من "يوم تصبح فيه
الخيانة وجهة نظر"، ينبغي أن تُقبل وتُناقش وكأنها أمر عادي.
إن واجب ومسؤولية مواجهة هذا البيان/الخطيئة، تقع على كاهل قيادات وكوادر
وأنصار حركة فتح قبل غيرهم، كما أن مسؤولية الإبادة يتحملها حصرا الاحتلال ومن
يدعمه ويسانده. ولا يتعارض ذلك مع مبدأ التقييم والمراجعات والنقد لحركات المقاومة،
لكن ضمن ضوابط من بينها الوقوف على أرضية حق المقاومة، وتوقيت النقد بما لا يضر
بمسار المعركة، وعدم الخضوع لمنطق كي الوعي الذي يريده الاحتلال من ضمن أهداف
الإبادة الجارية.
twitter.com/saidelhaj