لا
يزال وسيظل المثقفون مختلفين حول "
المؤامرة".. أهي نظرية أم حقيقة! ولا
أدري ما سر هذا الخلاف "السفسطائي" رغم وضوح الأمر، وضوح الشمس في رائعة
النهار..
فالمؤامرة
أمر يُدبر في الخفاء، بعيدا عن الأعين، يُحاط بسرية تامة، ويُعلن عنه فجأة، أو
بالتدريج، حسب "الخطة" التي وضعها المتآمرون، وذلك بأن يطلق أحدهم كلمة
معينة تُعرف بـ"كلمة السر".. وكل ما يدور في العلن ما هو إلا
"تمويه"، أو "خداع استراتيجي"؛ لشراء الوقت، ومباغتة الجماهير
في الوقت المحدد سلفا.. أظننا اتفقنا حول هذه "البديهية"..
على
شاشات الفضائيات، نرى الساسة يتصافحون بعد كل اجتماع، يتبادلون النظرات والابتسامات
التي يمكن أن نستشف منها بعض ما دار في هذا الاجتماع.. اتفاق.. خلاف.. رِضَى..
توتر.. إهانات متبادلة، أو من طرف واحد، حسب موقع كل طرف وقوته بالنسبة للطرف
الآخر، وهذا يحدث كثيرا بالمناسبة! غير أن الإعلام الرسمي (دائما) ما يصدر لنا
صورة "زائفة" عن هذه الاجتماعات التي تتم (حسب هذا الإعلام) في أجواء
ودية وأخوية، يتناول خلالها الطرفان "القضايا ذات الاهتمام المشترك"
التي لا نعرف ماهيتها على وجه الدقة، ويؤكد فيها الطرفان على متانة العلاقات بين
البلدين، رغم اضطرابها الذي يصل (أحيانا) إلى "تجنيد" كُتّاب البلدين "الشقيقين"
لتبادل القصف، بمختلف الأسلحة والأعيرة.. إلى آخر هذه الكليشيهات الممجوجة.. أظننا
اتفقنا حول هذه "الحقيقة"..
وفي
ظل النمط السياسي الميكافيلي السائد اليوم، القائم على المناورة والخداع، وتبرير الوسيلة
مهما كانت دناءتها ما دامت ستحقق الغاية مهما كانت بشاعتها، لا يمكننا استقبال ما
يصدر عن السياسيين بحسن نية، معتبرين أنهم يعنون ما يقولون.. بل يجب تقديم سوء
النية، إلا بضوابط معينة تَبقى ذلك الاستثناء الذي يثبت القاعدة.. أظننا اتفقنا
حول هذا المبدأ..
بالرجوع
إلى التاريخ القريب، وباستعراض أحداث العقد المنصرم، نجد من الأمثلة ما يؤكد كل ما
تقدم..
يمكنك
(عزيزي القارئ) الرجوع إلى فيلم "ناصر 56" وهو فيلم دعائي تضليلي ترقيعي
تجميلي، شأنه شأن "مسلسل الاختيار 3" الذي كتبه وأخرجه وأنتجه (بفلوس
المصريين) الفيلد مارشال ياسر جلال؛ ليُظهِر نفسه في صورة البطل المُخَلِّص الذي
أفشل "مؤامرة أخونة الدولة"، وأحبط "مؤامرة بيع أصول مصر
لقطر"، وأنقذ مصر من "حرب أهلية" وشيكة.. إلى آخر تلك الشائعات
التي ضللت المصريين، وجعلتهم يفرِّطون (بكل سهولة) في أول حاكم منتخب في تاريخهم! وها
نحن اليوم نرى بأم أعيننا من الذي اختطف مصر، وباع (ولا يزال يبيع) أصولها في مزاد
علني بأبخس الأثمان!
مما يمزق نياط القلب، أنْ رد الحضور على هذ القول المنكر المهين (وهم عسكريون) بالتصفيق! فهل فهِم هؤلاء (وعلى رأسهم كبار قادة الجيش) فصفقوا؟ أم أنهم أغبياء إلى هذا الحد فصفقوا أيضا؟ أم أنهم مبرمجون على التصفيق للقائد، حتى لو كان "متآمرا" على بلدهم المنوط بهم الدفاع عن أرضها، واسمها، وشعبها؟
أردت
من الإشارة إلى فيلم "ناصر 65" الرجوع إلى لحظة إعلان تأميم قناة
السويس.. فبمجرد أن نطق عبد الناصر اسم "ديليسبس"، صاحب فكرة شق القناة،
بدأ تنفيذ خطة الاستيلاء على مقرات هيئة قناة السويس، من جانب الكوادر المصرية
العاملة بالهيئة، الأمر الذي كلف مصر تعويضات مليونيه لأصحاب الأسهم، ومنذ ذلك
التاريخ تحولت مصر من دولة دائنة ومانحة، إلى دولة مدينة تتلقى المعونات
والمساعدات!
المغزى..
أن اسم ديليسبس بدا أنه ورد في خطاب "التأميم" بصورة عادية جدا، ولم ينتبه
له أحد سوى أولئك المكلفون بتنفيذ "خطة الاستيلاء" على مقرات الهيئة!
"قالوا
لي: خُد دي"!
قبل
أيام معدودات، وفي ندوة تثقيفية بمناسبة أطلقوا عليها "يوم الشهيد"، جمع
الجنرال المنقلب ياسر جلال حشدا من قواته المسلحة؛ ليخطب فيهم بوجه مكفهر، ولهجة
زاجرة، وكلمات مرَّت على فلاتره، انتقى منها ما يَفُتُّ في عضد المصريين، ويحطم
معنوياتهم، ويشعرهم بالصَّغار والهوان، ويجعلهم يحتقرون أنفسهم، ويلعنون اليوم
الذي ولدوا فيه على أرض مصر، أو "دي" كما سماها جلال!
فماذا
قال الجنرال ياسر جلال للمصريين؟
قال:
"والله العظيم، أنا ما لقيتش بلد.. أنا لقيت أي حاجة.. وقالوا لي خُد
دي"!
ومما
يمزق نياط القلب، أنْ رد الحضور على هذ القول المنكر المهين (وهم عسكريون)
بالتصفيق! فهل فهِم هؤلاء (وعلى رأسهم كبار قادة الجيش) فصفقوا؟ أم أنهم أغبياء
إلى هذا الحد فصفقوا أيضا؟ أم أنهم مبرمجون على التصفيق للقائد، حتى لو كان
"متآمرا" على بلدهم المنوط بهم الدفاع عن أرضها، واسمها، وشعبها؟
مصر
بعد أن كانت "أم الدنيا وهتبقى أد الدنيا" أصبحت "أي حاجة"،
وأصبحت "دي"! هكذا بكل بساطة.. هكذا بكل بساطة!
ليست
المرة الأولى (ولن تكون الأخيرة) التي يوبخ فيها الجنرال المنقلب المصريين، ويحاول
إقناعهم بأن مصر ليست سوى "كُهنة" (خِرقة قماش بالية تستخدم في مسح
البلاط)، وأنها "أشباه دولة" مش دولة! وأن 95 في المئة من مساحتها صحراء
جرداء معدومة الفائدة! وأنهم "فُقرا أوي"، وأنه يعمل ليل نهار لينتشلهم
من هذا الفقر و"العَوَز"، ولكن لأنهم ناكرون للجميل، فإنهم يقابلون "إنجازاته
الخارقة" التي لا يراها إلا هو وأبواقه الإعلامية، بهاشتاجات تجعله
"يزعل"، و"يتقمص"، و"ياخد على خاطره"، فتخنقه
العبرات الكاذبة!
إن متابع
"توبيخات" ياسر جلال للمصريين سيلاحظ أنها بدأت مع شروع المصريين في
التذمر، والهمهمة، والغمغمة، و"الزختمة"؛ بسبب سوء الأحوال الآخذ في
الحدة والشدة!
لقد مرت
سنة وراها سنة، حتى اكتمل عِقد من الزمن، ولم يرَ المصريون إنجازا واحدا أحدث فرقا
(إيجابيا) في حياتهم، في أي مجال، رغم المليارات التي انهمرت على الجنرال، منذ
انقلابه على رئيسه المنتخب وقائده الأعلى، سواء من داعميه الخليجيين، أو عن طريق
الاقتراض النَّهِم..
لم يرَ
المصريون ولم يلمسوا (خلال هذه العشرية السوداء) إلا هبوط الجنيه القياسي أمام
الدولار (من 7 جنيهات إلى 50 جنيها)، والارتفاع الجنوني للأسعار، والتضخم الذي
يبتلع الرواتب الزهيدة أصلا، والخدمات التي تلتهم أكثر من نصف الراتب (الغاز،
الكهرباء، الماء)، والديون الخارجية والداخلية التي تتراكم على مدار اليوم، والأفواه
المكممة، والأقلام المقصوفة، وشوية "آلاتية" يعزفون نفس اللحن النشاز كل
ليلة (دون ملل) على الفضائيات المؤممة.. رخاء.. تقدم.. مشاريع عملاقة.. أطول..
أعرض.. أكبر.. أوسع.. أسخم.. إلخ!
وبدلا
من أن يعترف الجنرال المنقلب بأنه فشل في إدارة البلاد (هو لم يفشل في الحقيقة،
وإنما قام بأكبر عملية تخريب ممنهجة لم تعرفها مصر)، ويفي بوعده الذي قطعه على
نفسه أكثر من مرة، بصيغ مختلفة: "لو عايزيني امشي.. همشي".. "لو
الدولار وصل خمسين جنيه.. أنا مقعدش في مكاني ده".. بدلا من الرحيل الذي وعد
به إذا وقع ما يبرره، وقد وقع وتكرر وسيتكرر، نجده يلجأ إلى الدفاع عن نفسه، بالهجوم
على المصريين، وتوبيخهم، وتسفيههم، والحط من شأن بلادهم: أشباه دولة.. كُهنة.. ما
لقيتش دولة.. لقيت أي حاجة.. قالو لي خد دي.. إلخ! ونسي أنه قال عكس ذلك تماما، في
خطاب "ترشحه" للاستيلاء على السلطة في 2014:
بدلا من أن يعترف الجنرال المنقلب بأنه فشل في إدارة البلاد (هو لم يفشل في الحقيقة، وإنما قام بأكبر عملية تخريب ممنهجة لم تعرفها مصر)، ويفي بوعده الذي قطعه على نفسه أكثر من مرة، بصيغ مختلفة: "لو عايزيني امشي.. همشي".. "لو الدولار وصل خمسين جنيه.. أنا مقعدش في مكاني ده".. بدلا من الرحيل الذي وعد به إذا وقع ما يبرره، وقد وقع وتكرر وسيتكرر، نجده يلجأ إلى الدفاع عن نفسه، بالهجوم على المصريين، وتوبيخهم، وتسفيههم، والحط من شأن بلادهم
"شعب
مصر العظيم.. أيها الشعب الأبي الكريم (...) أنا قضيت عمري كله جندي في خدمة هذا
الوطن، وخدمة تطلعاته وآماله، وسأستمر إن شاء الله (...) السنوات الأخيرة من عمر
الوطن، أكدت إن مفيش حد يستطيع أن يصبح رئيسا لهذه البلاد دون إرادة الشعب
وتأييده.. لا يمكن على الإطلاق أن يجبر أحد المصريين على انتخاب رئيس مش عايزينه..
الموضوع ده انتهى خلاص.. لذلك وبكل تواضع.. أنا أتقدم لكم معلنا اعتزامي الترشح
لرئاسة جمهورية مصر العربية.. تأييدكم هو الذي سيمنحني هذا الشرف العظيم.. أنا أقف
أمامكم مباشرة عشان أقول إنني أمتثل لنداء جماهير واسعة من الشعب المصري طلبت مني
التقدم لنيل هذا الشرف.. أنا بعتبر نفسي كما كنت دائما جنديا مكلفا في خدمة
الوطن.. أي موقع تأمر بيه جماهير الشعب هكون موجود فيه".. انتهى الاقتباس.
لاحظ
(عزيزي القارئ) الفرق الشاسع بين هذا الأسلوب "العاطفي الاستجدائي" في
أول العشرية، والأسلوب "التوبيخي الاستهزائي" الذي بات يستخدمه في آخرها؛
في الرد على تذمر المصريين من سوء الأحوال الذي تسبب فيه، عن سابق قصد وتصميم!
ماذا
تعني "دي"؟
"دي"
اسم إشارة عامي يعني "هذه".. ويعني أي شيء لا اسم له.. ويعني التحقير
لمعلوم الاسم.. ويعني عند "أخصائيي التعذيب" مسح شيء أو اسم شيء من
الذاكرة؛ بغرض استبداله وتسميته (لاحقا) باسم آخر، عبر أسلوب منهجي مدروس! وقد عنى
ياسر جلال كل ذلك بكلمة "دي"، وأخطرهم هو المعنى الأخير!
أؤكد
للمرة المليون.. إن ياسر جلال ليس فاشلا، ولا "عبيطا"، ولا يُطلق الكلام
على عواهنه كما يتعمد أن يبدو كذلك أمام الناس، فينصرفون إلى السخرية منه ومن
كلامه عن المعنى الذي يريد هو أن يترسخ في أذهانهم!
أقولها
بيقين تدعمه الأدلة الدامغة والشواهد المحسوسة.. ياسر جلال "متآمر" على
مصر وشعبها، وعلى الأمة كلها، وما رأى المصريون منه (خلال عشر سنوات) إلا كل شر، وإفساد،
وتخريب، وتدمير، وإهانة، وإذلال.. إنه يشتري الوقت بالشكوى تارة، وبالتوبيخ تارة،
وبطلب الصبر تارة ثالثة، وبمسح ذاكرة المصريين تارة رابعة، إلى أن يحقق مراد الذين
قالوا له: "خُد دي"!
"دي"
هي مصر التي نعرفها وضحينا ونضحي لأجلها، أما "دي" عند المطور العقاري
ياسر جلال، فهي أرض مساحتها مليون كيلومتر مربع، ستصبح يوما (على طريقة المقاول
القاتل هشام طلعت مصطفى، صاحب المدن المنعزلة) ووفق مخطط المستشرق البريطاني
الأمريكي برنارد لويس أربع مناطق إدارية، تفصلها بوابات وحدود لكل منها "اسم
جديد": دويلة "مسيحية" في الصحراء الغربية، دويلة "نوبية"
في جنوب "دي"، ودويلة "إسلامية" في الدلتا، أما سيناء
والصحراء الشرقية فسيتم ضمهما إلى "إسرائيل الكبرى"..
هكذا
يفكرون، وهكذا يخططون، أما تنفيذ هذا المخطط التفتيتي "التآمري" فمرهون
بمدى استعداد الشعب المصري للقبول به أو مقاومته.. فالأمر ليس قدرا مقدورا لا راد
له، ولا حيلة معه، ولا قدرة على دفعه!
"دي" ليست مجرد كلمة قصد بها ياسر جلال "حرق دم" المصريين وإهانتهم فحسب، ردا على تذمرهم من سياساته التخريبية، وإنما كان يعنيها، ولها ما بعدها، كما عنَى أشياء كثيرة (من قبل) عبَّر عنها بكلمات بدت (في وقتها) وكأنها "زلة لسان"، وما كانت كذلك!
اليوم،
ظهر أمامي (قدرا) موضوع منشور على منصة "اليوم السابع" الموالية
للانقلاب، في أيار/ مايو 2019، عنوانه "في ذكرى رحيله.. هل خطط برنارد لويس
لتقسيم مصر؟".. السؤال: لماذا تحيي "اليوم السابع" ذكرى رحيل
برنارد لويس؟! ماذا يعني برنارد لويس للمصريين؟! وما الهدف من موضوع كهذا من
الأساس؟!
مؤخرا،
بدأت في الانتشار "نعرة كِمِيت"، على يد نفر من المؤثرين المصريين يطلق
عليهم معارضوهم اسم "الكمايتة".. بالتزامن مع دعوة محمومة إلى إحياء
اللغة المصرية القديمة (الهيروغليفية) قراءة وكتابة.. يقول "الكمايتة":
إن "كميت" هي الاسم الذي كان يُطلق على مصر القديمة، ومصر تنتمي إلى تلك
الحضارة حصرا، لذا فمصر يجب أن تكون "كميت" وليس مصر! محاولة أخرى
لتجريد مصر من اسمها وهويتها!
وفي
ظل الأزمة المالية الخانقة، وشح الموارد الدولارية، واضطراب الملاحة في البحر
الأحمر، يعلن رئيس هيئة قناة السويس الفريق أسامة ربيع عن مشروع "ازدواج القناة
بالكامل" الذي سيزيد (بالقطع) من عزل سيناء عن وادي النيل، ويصبح الدفاع عنها
من رابع المستحيلات، في ظل معاهدة "كامب ديفيد" المكبِّلة لمصر،
والمقيدة لحجم قدراتها العسكرية في سيناء، بينما يمكن للعدو الصهيوني اجتياحها في
بضع ساعات، كما حدث في عام 1967..
"دي"
ليست مجرد كلمة قصد بها ياسر جلال "حرق دم" المصريين وإهانتهم فحسب، ردا
على تذمرهم من سياساته التخريبية، وإنما كان يعنيها، ولها ما بعدها، كما عنَى
أشياء كثيرة (من قبل) عبَّر عنها بكلمات بدت (في وقتها) وكأنها "زلة
لسان"، وما كانت كذلك!
twitter.com/AAAzizMisr
aaaziz.com