مع
الترحيب بأي جهد لإنقاذ
مصر والمصريين من أزماتهم، إلا أن الفهم الحقيقي للأزمة
المصرية بجوانبها المتعددة وخاصة
الاقتصادية لن يحلها دخول 24 مليار دولار أو حتى
35 مليار دولار؛ هي كامل قيمة صفقة رأس الحكمة الأخيرة والتي قدمت إسعافا أوليا
فقط لا يكفي لإنهاء الألم، وإبراء المرض بشكل دائم.
وحتى
لو حصلت مصر على ضعف هذا المبلغ أو حتى ثلاثة أضعافه فإن ذلك سيظل في خانة
المسكنات المؤقتة، خاصة إذا نظرنا إلى بعض جوانب الأزمة الصعبة، ومنها مديونية
خارجية تبلغ 166 مليار دولار، تحل آجال سداد 42 مليارا منها (أي ربعها) هذا العام،
بالإضافة إلى دين داخلي يتجاوز 4 تريليون جنيه (حوالي 135 مليار دولار وفقا لسعر
الدولار الرسمي)، ما يعني أن الدين الخارجي والداخلي يبلغ 300 مليار دولار، ناهيك
عن فاتورة الاستيراد البالغة حوالي 100 مليار دولار سنويا (يجري حاليا تخفيضها
بأساليب مختلفة).
التعاون
الدولي لمساعدة بعض الدول في أزماتها هو أمر معتاد، لكنه لا يتم في الغالب لوجه
الله، أو بلا أثمان باهظة تصل أحيانا إلى المس بسيادة الدول المحتاجة، وهل نسينا
نحن في مصر أن تراكم ديون مصر للدول الكبرى في عهد الخديوي إسماعيل ونجله توفيق
كانت سببا لاحتلال مصر لمدة 70 عاما؟!
التعاون الدولي لمساعدة بعض الدول في أزماتها هو أمر معتاد، لكنه لا يتم في الغالب لوجه الله، أو بلا أثمان باهظة تصل أحيانا إلى المس بسيادة الدول المحتاجة، وهل نسينا نحن في مصر أن تراكم ديون مصر للدول الكبرى في عهد الخديوي إسماعيل ونجله توفيق كانت سببا لاحتلال مصر لمدة 70 عاما؟!
وحتى مشروع مارشال لتنمية دول أوروبا بعد
نهاية الحرب العالمية الثانية، ورغم أنه بدا مشروعا صديقا من واشنطن، إلا أنه دشن هيمنته
على القرار السياسي الغربي منذ ذلك التاريخ وحتى الآن، وقد رفضت روسيا الاستفادة
من ذلك المشروع كما دعت الدول التابعة لها في شرق أوروبا لرفضه لإدراكها بما
يتضمنه من هيمنة أمريكية.
ولا
يستثنى مما سبق الدعم الذي يقدمه بعض من يوصفون بالأصدقاء أو الأشقاء، فنحن في
عالم لا يعرف سوى لغة المصالح والمنافع، فمن يدفع دولارا يتوقع أن يسترده دولارين،
أو يحقق به مكاسب أخرى بضعف قيمته. ومن هنا، فرغم الزفة الإعلامية التي صاحبت صفقة
رأس الحكمة في المنابر الإعلامية التابعة للسلطة، إلا أن الشكوك ظلت هي سيدة
الموقف لدى العديد من القوى السياسية والخبراء الاقتصاديين المصريين تجاه الصفقة
التي اعتبروها صفقة سياسية لإنقاذ النظام وليس لإنقاذ الدولة، وهي على ما بها من
غموض في الكثير من تفاصيلها فإنها واضحة في اقتصارها على جانب التنمية العقارية
والسياحية التي تحقق عوائد سريعة لأصحابها، وليس التنمية الصناعية أو التكنولوجية
والتعليمية التي تبني الأوطان وتبني اقتصادا حقيقيا.
كتبت
من قبل عن أسباب غير اقتصادية للأزمة، وعلى رأسها الظلم المؤذن بخراب العمران
بتعبير ابن خلدون، وبتعبير ابن تيمية "إن الله يقيم الدولة العادلة ولو كانت
كافرة، ولا يقيم الدولة الظالمة ولو كانت مسلمة". ولا يخفى على أحد حجم الظلم
الذي عاناه المصريون أو شطر منهم على الأقل خلال السنوات العشر الماضية، وكان من
نتائجه آلاف القتلى وعشرات الآلاف من المعتقلين والمشردين، والثكالى، والميتمين، والآلاف
ممن جمدت أو صودرت ممتلكاتهم، وطوردوا في أرزاقهم، وفصلوا من وظائفهم.. الخ، وهذه
مظالم كفيلة بخراب العمران.
كالعير
في البيداء يقتلها الظمأ والماء فوق ظهورها محمول.. بيت شعر يشير إلى وجود الحل
لكن صاحب المشكلة لا يراه، مثل تلك العير التي يقتلها الظمأ بينما تحمل الماء على
ظهورها، وعلاج
أزمات مصر موجود داخلها لا خارجها، يحتاج فقط إلى إرادة حقيقية
للتداوي به، لا استسهال الأدوية الأجنبية.
علاج
أزمات مصر يبدأ بمصالحة وطنية شاملة، تنتهي بعقد اجتماعي جديد، يتضمنه دستور جديد
للبلاد، يضع أسس حكم مدني رشيد، ويتضمن مرحلة انتقالية لخروج الجيش من الحياة
المدنية (السياسية والعسكرية) ويفتح الباب لانتخاب رئيس وحكومة جديدة من بين
متنافسين حقيقيين..
مصالحة تعيد الحقوق لأصحابها، وتفرغ السجون من نزلائها السياسيين، وتفتح الباب لإعلام حر يعبر عن هموم الوطن والمواطن وليس هموم السلطة والحاكم.. مصالحة تعيد الأموال المنهوبة من رجال الأعمال وغير رجال الأعمال بغير وجه حق، مصالحة تفتح أبواب مصر أمام أبنائها المهجرين
مصالحة تعيد الحقوق لأصحابها، وتفرغ السجون من نزلائها
السياسيين، وتفتح الباب لإعلام حر يعبر عن هموم الوطن والمواطن وليس هموم السلطة
والحاكم.. مصالحة تعيد الأموال المنهوبة من رجال الأعمال وغير رجال الأعمال بغير
وجه حق، مصالحة تفتح أبواب مصر أمام أبنائها المهجرين..
حين
يتحقق ذلك ستحلق الروح المعنوية للشعب في عنان السماء بدون الحاجة إلى إنفاق
المليارات على مشروعات لتحسينها، وستنفتح شهية المستثمرين المحليين الذين حبسوا
أموالهم تحت البلاط خوفا عليها من المصادرة والتأميم، وسيتهافت المستثمرون
الحقيقيون من أنحاء العالم إلى مصر لاقتناص الفرص الواعدة في سوق كبير يضم 110
ملايين نسمة بخلاف انفتاحه على أسواق أفريقيا الأخرى، وستنافس المؤسسات المالية
الدولية على التغني بالاقتصاد المصري، وسيتوافد ملايين السياح من كل أنحاء العالم
بعد أن يشعروا بالاطمئنان الكامل على سلامتهم في مصر، وستستطيع مصر إسقاط جزء كبير
من ديونها (وربما غالبيتها) باعتبارها ديونا فاسدة غير واجبة السداد، وستتدفق
الأفكار والإبداعات العلمية والفنية والأدبية، لتستعيد مصر ريادتها في تلك
المجالات، ولتصبح عاصمة الشرق فيها.
هذا
هو الحل الحقيقي والمستدام، والذي يضع نهاية للأزمة بشكل كامل، بل يفتح المجال
لازدهار اقتصادي وسياسي واجتماعي شامل، يشعر به كل مواطن، وتعود به مصر واحة
للحرية والكرامة والعدالة، وستصبح بشكل سريع إحدى دول مجموعة العشرين الاقتصادية
الكبرى.
twitter.com/kotbelaraby