الكتاب: "تطوّر المرجعية الشيعية: من الغيبة إلى ولاية الفقيه"
الكاتب: د. هيثم أحمد مزاحم
الناشر: دار المحجة البيضاء للطباعة والنشر والتوزيع بيروت- لبنان، 14 فبراير 2017
(عدد الصفحات: 391 من القطع الكبير)
تتعدد الآراء بين المراجع الشيعية الكبار حول مسألة ولاية الفقيه،
والسبب في ذلك أنه من الناحية التاريخية كانت المرجعية الشيعية ولا تزال تعيش
تعقيدات المسألة السياسية في كل من العراق و إيران، وتتأثر بها، وتؤثر فيها وهذا
قديم قدم المرجعية نفسها. ومنذ انتصار الثورة الإسلامية في إيران، دب الخلاف بين
المراجع الشيعية الكبار حول مسألة ولاية الفقيه للإمام الخميني، وبرز ما يمكن
تسميته بالمرجعية السياسية، كما ظهرت في الوقت عينه في بلدان ذات الأكثرية الشيعية:
إيران والعراق ولبنان، قيادات ومرجعيات حققت شهرتها وأهميتها على صعيد حركة الواقع
من دورها السياسي أساساً، لا من خلال دورها في الفقه الإسلامي الذي يمكن أن يمنح
الفقيه حركية في الواقع بحيث يستطيع أن يوجه الناس إلى أن يدخلوا في صميم الواقع،
كما كان التقليد غالباً في العصور الماضية.
تشكل المراجع عند الشيعة عالماً مستقلاً بذاته لها أتباع يدينون لها
بالولاء ويتجاوزون حدود الدولة التي وجدت فيها، وينتشرون في العديد من الدول
الأخرى. و تلعب المراجع دوراً تاريخياً مزدوجاً عقيدياً وسياسياً في حياة الشيعة
في العراق وإيران خصوصاً، و لا يمكن تجاهل النفوذ السياسي للمراجع بهدف المحافظة
على تماسك وترابط اتباع المذهب الشيعي، الذين عاشوا سنين طويلة ملاحقين، الأمر
الذي دفعهم إلى التوزع والانتشار في العديد من البلدان العربية و في بلدان آسيا.
وقد ظهرت قضية المرجعية عند الشيعة بعد غيبة الإمام الثاني عشر محمد
بن حسن العسكري الذي دخل في الغيبة الكبرى عام 329هـ، بعد غياب الغيبة الصغرى
واستمرت حتى بلوغه 74 عاماً.
وبعد الغيبة الكبرى توزعت مرجعيات الشيعة على البلدان التي ينتشرون
فيها، وظهرت مرجعيات إلى النجف في العراق، وفي قم والري في إيران. ويمكن القول إن
الدولة البويهية الشيعية التي تأسست في إيران عام 320هـ قد أعطت دفعاً قوياً لحركة
المرجعية في إيران، استمر إلى أيامنا هذه. غير أن ظهور الشيخ المفيد في بغداد
(336- 413)هـ وتنوع نشاطه وتفوقه العلمي أكسب مرجعية العراق بعداً متميزاً خاصاً
واستمر من بعد الشريف المرتضى. وبعد المرتضى تولى زعامة الشيعة تلميذه أبو جعفر
محمد الطوسي (385- 460) هـ وهو إيراني من مدينة طوس في خراسان.
إذا كان الشيعة الإمامية في عصر غيبة الإمام المعصوم (ع) لا يطرحون قيام دولة إسلامية، نظراً لعدم مشروعيتها لأسباب حددها الفقه الشيعي، فإن الإمام الخميني ينطلق من مبدأ الولاية المطلقة للفقيه لتأسيس دولة دينية شيعية، باعتباره الحاكم الأعلى
نستنتج من خلال هذا
العرض الموجز لمحاضرات الإمام الخميني حول ولاية
الفقيه ما يلي:
أولاً ـ إذا كان الشيعة الإمامية في عصر غيبة الإمام المعصوم (ع) لا
يطرحون قيام دولة إسلامية، نظراً لعدم مشروعيتها لأسباب حددها الفقه الشيعي، فإن
الإمام الخميني ينطلق من مبدأ الولاية المطلقة للفقيه لتأسيس دولة
دينية شيعية،
باعتباره الحاكم الأعلى "بمفهوم" أن الفقيه هو من أحاط بالعلوم الشرعية
و جميع الأحكام الإسلامية". و هذا يعني دعوة صريحة إلى الشيعة لإنهاء عصر
انتظار الإمام المعصوم الغائب، والشروع في إقامة الدولة والحكومة الإسلامية.
ثانياً ـ إن الإمام الخميني من خلال التنظير لولاية الفقيه و إخراجها
من حيز الفقه ومسائله العبادية العملية إلى حيز علم الكلام ووسائله الاعتقادية،
قد جعل "ولاية الفقيه" جزءاً من أصول الدين لا من فروعه، و هذا يعني أنه
لا يوجد أي فرق بين ولاية المعصوم وولاية الفقيه، بل إن الإمام الخميني يذهب إلى
المطابقة بين ولاية الفقيه وولاية الإمام المعصوم. وهذا ما دفع الشيخ محمد مهدي
شمي الدين إلى إنكار هذه المطابقة، وهو إنكار يتم داخل المجال الأيديولوجي الشيعي
نفسه وبواسطته، حيث يرد على اجتهاد "كنيسة الدولة" (المؤسسة الفقهية
الحاكمة في إيران) بأن "ولاية الفقيه" هي عبارة أخرى عن صيغة
"الإمامة المعصومة"، بتأكيده أن هذا الاعتبار غير صحيح من الناحية
الفقهية والكلامية معاً، بل هي (ولاية الفقيه) صيغة مستقلة ومختلفة عن صيغة
(الإمامة المعصومة) وكانت تستمد شرعيتها منها، بحسب دعوى القائلين بها.
"ووجه عدم صحة هذا الاعتبار أن الحكومة الإسلامية على صيغة
ولاية الفقيه الثابتة باعتبار كون الفقيه (نائباً عن الإمام)، ليست حكومة الإمام
المعصوم، ولا تثبت لها عمومية ولاية الإمام المعصوم، وإن كان البعض يحاول ذلك
ويدعيه، لاعتبارات يدعي أنها فقهية، وهي في حقيقتها اعتبارات سياسية ليس لها سند
فقهي معتبر. بل هي حكومة المنوب عن الإمام في ممارستها، وإعمال الولاية بشأنها.
والمعيار في ذلك هو دليل نيابة الفقيه عن الإمام المعصوم في الشأن السياسي السلطوي
والتنظيمي".
ثالثاً ـ لما كانت ولاية الفقيه بحسب قول معظم فقهاء الشيعة
الكلاسيكيين هي أضعف وأضيق من ولاية المعصوم، فإن المساواة بين ولاية المعصوم
والفقيه من حيث العموم والشمول، حسب التأويل الخميني لها، يجعل الفقيه
"نائباً للإمام" لا "الأمة".
وهو ما يفسر الأسس النظرية لحذف نظرية ولاية الفقيه للأمة، وإلغائها
من شأن الحكومة الإسلامية. ولم تلق نظرية "ولاية الفقيه" الخمينية
ترحيباً من داخل المؤسسة الشيعية الكلاسيكية. فقد انتقد الخوئي في النجف فكرة
الولاية المطلقة للفقيه، والدعوة إلى إقامة الدولة الإسلامية انطلاقاً منها، وسجل
اعتراضاته وتحفظاته في رسالة بعنوان "أساس الحكمة الإسلامية". كما نشر
الفقيه الشيعي البارز الدكتور محمد جواد مغنية كتاباً بعنوان "الخميني
والدولة الإسلامية" انتقد فيه مبدأ التوسع في ولاية الفقيه. لقد حدد الدكتور
مغنية موقفه في الكتاب على النحو التالي : عن الدولة الإسلامية قال : "إنها
لا تعني سيطرة الشيوخ على الحكم، واحتكارهم لسلطان السياسة، وإنما تعني أن الشريعة
الإسلامية هي الإطار والمعيار لقوانين الدولة وتصرفاتها. فكل ما يتفق و هذه
الشريعة، يجب تنفيذه و لا يجوز الطعن فيه.
وما ثبت تعارضه يحكم ببطلانه و إلغاء آثاره (ص). وفي تعريف الولاية
قال : السلطة على أمور معينة (بواسطة الفقيه المجتهد العادل في زمن غيبة الإمام
المعصوم). والأصل عدم ولاية أي إنسان على آخر إلا ما خرج بأية محكمة أو رواية
قائمة. وقد ثبت بالإجماع والنص الواضح أن للمجتهد العادل ولاية الفتوى والقضاء،
وعلى الأوصاف العامة وأمال الغائب وناقد الأهلية، مع عدم الولاية الشخصية، وارث من
لا وارث له. وعلى الممتنع في بعض الحالات. والتفصيل في كتب الفقيه.
إن الإمام الخميني من خلال التنظير لولاية الفقيه و إخراجها من حيز الفقه ومسائله العبادية العملية إلى حيز علم الكلام ووسائله الاعتقادية، قد جعل "ولاية الفقيه" جزءاً من أصول الدين لا من فروعه
وفي معرض رده على كتاب الخميني "الحكومة الإسلامية الذي قال فيه
لا فرق بين ولاية المعصوم وولاية المجتهد العادل من حيث العموم والشمول.. عقد
الدكتور مغنية على هذه النقطة بقوله إن التفاوت في المنزلة تستدعي التفاوت في
الآثار لا محالة. ومن هنا كان للمعصوم الولاية على الكبير والصغير، حتى على
المجتهد العادل ولا ولاية للمجتهد على البالغ الراشد. ما ذلك إلا لأن نسبة المجتهد
إلى المعصوم، تماماً كنسبة القاصر إلى المجتهد العادل.
رابعاً ـ وتعود إشكالية التوصيف عند الإمام الخميني إلى رغبته في
التماثل مع التعريف الشيعي الكلاسيكي لولاية الفقيه، لجهة تأويل رؤيته للولي
الفقيه الذي هو بمنزلة القائد الديني/السياسي للأمة في حال غيبة الإمام المعصوم،
وهو مسؤول أمام الله ولسي امام الأمة. فالولي الفقيه يمتلك صلاحية الإمام المعصوم
في السلطة العامة، أي الولاية المطلقة للفقيه في كل الشؤون العامة التي تحتاجها
الحكومة الإسلامية لإقامة نظام حياة الناس في قضاياهم الخاصة، وفي إقامة المؤسسات
الدستورية المتحركة في شرعيتها انطلاقاً من موافقة الولي الفقيه عليها. فالولي
الفقيه لا ينطلق من انتخاب الأمة له، بل إن الإمام الخميني في نظر القائلين بولاية
الفقيه، هو ولي جميع المسلمين، لأنه القائم بالأمر، المتصدي لحركة الإسلام في
الواقع المعاصر، فعلى المسلمين أن يطيعوا أمره إذا عمل على تحريك ولايته في شؤونهم
العامة، من موقع الولاية الشرعية ومن موقع التبعية للحكومة الإسلامية في إيران.
فتبدو بالتالي "طاعة الفقيه" من جنس طاعة الإمام المعصوم، أي من جنس
طاعة الله. لأنه "حجة الله على خلقه في زمن غيبة الإمام المعصوم، فتقضي
ولايته الطاعة المطلقة كما لو أن الإمام المعصوم نفسه على رأس الدولة".
وهكذا، فإن ولاية الفقيه الخمينية لا تلتزم بأي دور للأمة، انطلاقاً
من التماهي ما بين نظرية ولاية الفقيه والإمامة المعصومة، وهو ما يقود إلى أن
يتمتع الولي الفقيه ـ بمقتضى ذلك ـ بجميع سلطات الإمام المعصوم، مع الفارق أن
"ولاية الإمام المعصوم تكوينية إلهية في حين أن ولاية الفقيه اعتبارية".
وبذلك فإن "إن مسألة ولاية الفقيه هي بديل لإمامة الإمام المعصوم نفسها في
عصر الغيبة، فجميع الأدلة القائمة عقلاً حول النبوة العامة والإقامة العامة هي
قائمة أيضاً في زمن الغيبة حول ولاية الفقيه".
ويذهب العلامة محمد مهدي شمس الدين إلى القول إنه في ظل غياب
"سند فقهي معتبر" للمطابقة ما بين نظرية ولاية الفقيه والإمامة
المعصومة، فـ "أن مقتضيات سيطرة الدولة" و مأسستها لـ
"الفقهاء" في أجهزتها، هي التي تدفع إلى الإيهام بهذه المطابقة، وهي هذه
الحالة تكون أمام مشروع "دولة" ملوّن بالتشيع، يعيد باسم
التشيع إنتاج
دولة تيوقراطية تستمد شرعيتها من الله لا من الأمة، وتمأسس "الفقهاء"
بالتالي كجهاز "كهنوتي" لمقتضياتها ومتطلباتها بوسع مساحة "ولاية
الفقيه" حتى يساوي في المهمات بينها وبين النبوة و"الإمامة".
وعلى نقيض ولاية الفقيه التي شكلت الأساس الأيديولوجي الذي يقوم عليه
نظام الجمهورية الإسلامية الإيرانية، طور العلامة محمد مهدي شمس الدين نظرية ولاية
الأمة على نفسها، التي تقتضي في حال عدم حضور الإمام المعصوم و ظهوره "على
نحو تستطيع الأمة الاتصال به بأي شكل من الأشكال، بحيث يمارس قيادة فعلية
مباشرة" أن يشرع لكل شعب من الأمة الإسلامية، وأن يقيم لنفسه نظامه الإسلامي
الخاص في نطاق وحدة / الأمة.
اقرأ أيضا: قراءة فقهية وتاريخية وسياسية لنظام ولاية الفقيه.. دور الثورة الإيرانية
اقرأ أيضا: نشأة التشيع خلال المراحل التاريخية ونظرية الغيبة الكبرى.. قراءة في كتاب
اقرأ أيضا: نظرية الولاية العامة للفقيه.. ولادتها منشؤها وحاضرها
اقرأ أيضا: نهاية الانتظار السلبي للإمام الغائب.. ولاية الفقيه منذ الثورة الإسلامية في إيران