سؤال يطرح نفسه من المحيط إلى الخليج ومن المغرب إلى المشرق في لحظة
فارقة من مسيرة كدح الأمة نحو التحرر الوطني والاستئناف الحضاري، حيث تكمن أهمية
المراجعات فيما يمكن استخلاصه من دروس من فشل الموجة الأولى من
الثورات
العربية ومسارات انتقالها الديمقراطي وكذلك من زلزال الأقصى وارتداداته
المنتظرة.
لكن لسائل أن يسأل لماذا الإسلاميون دون غيرهم؟ أليست كل القوى والأطراف
الفكرية والسياسية مطالبة بالمراجعات؟
نعم إلا أن التركيز يقع على الإسلاميين دون غيرهم في هذا الموضوع
لعدة اعتبارات لها علاقة بفكرتهم المرجعية وعمق تجذرها في وجدان الأمة وفشل
المنظومات الفكرية الأخرى ومشاريعها.. ثم لدورهم المتقدم في مقارعة الاستبداد والاحتلال وكذلك للثقة
التي وضعتها الشعوب فيهم عبر الصناديق لقيادة الانتقال الديمقراطي .
هذا بالإضافة إلى تأكيد المنهج القرآني القويم والتجارب التاريخية
العملية على أهمية المراجعة الفورية عند المصاعب والأزمات وجدواها في قوله تعالى
"قل هو من عند أنفسكم" في غزوة أحد ردا على تساؤلات الصحابة.
إن الهروب من المراجعة والتقييم الفوري فضلا عما يفوته من فرص للتدارك والمعالجة الحينية فإنه يراكم الأخطاء ويعمقها ثم يؤبدها ويؤبد المسؤولين عنها في مواقعهم ويؤدي أحيانا ودون إدراك إلى الشخصنة والتقديس الذي ما أنزل الله به من سلطان .
إلا أن ما تتطلبه المراجعة من تقييم وربما محاسبة فردية وجماعية لا
يعني تحولها إلى محاكمات وأحيانا تصفية حسابات داخل الكيان الواحد بل إن إنجازها
يحتاج إلى منهجية واضحة وآليات محددة أساسها المرونة دون التعويم والصرامة دون القسوة حتى تؤدي غرضها في استخلاص الدروس
والعبر من الأخطاء، فالعيب ليس في السقوط ولكن في العجز عن القيام منه وليس في الأخطاء
ولكن في الإصرار عليها.
إن مشكلة الإسلاميين ليست في مبادئهم وقيمهم وأخلاقهم إنما في عدم
قدرتهم على ابتكار آليات لتجسيدها في
ممارستهم العملية وإدارة شؤونهم العامة.. بل وعدم الاستفادة مما توصل إليه العقل
البشري المعاصر من معايير للتعاطي مع مثل هذه الاستحقاقات. لينتهي بهم الأمر إلى الهروب من مواجهتها بالتأجيل حينا وبالرفض
القاطع أحيانا.. وفي هذه الحالة يكتسبون قدرة فائقة على التبرير بمسوغات مختلفة مثل
المحافظة على الوحدة والخوف من الاختلاف إلى
عدم توفر الوقت المناسب إلى الظروف الاستثنائية وغياب بعض القيادات أو الشخصيات
وغيرها.
إن الهروب من المراجعة والتقييم الفوري فضلا عما يفوته من فرص
للتدارك والمعالجة الحينية فإنه يراكم الأخطاء ويعمقها ثم يؤبدها ويؤبد المسؤولين
عنها في مواقعهم ويؤدي أحيانا ودون إدراك إلى الشخصنة والتقديس الذي ما أنزل الله
به من سلطان .
وتجاوزا لمعيقات الفهم والتنزيل المتعلقة بالمراجعات وضرورتها
الفكرية والسياسية والحركية في هذه المرحلة وبعد النظر والتحقيق في تجارب الإسلاميين
بالاستئناس بتجربة حركة المقاومة الإسلامية حماس في فلسطين رغم خصوصية القضية التي
تحملها، وطبيعة المرحلة التي تمر بها المتمثلة في مقاومة الاحتلال بدل بناء الدولة
وإن كان في الأمر شيء من الازدواجية، حيث أدارت حماس قطاع غزة منذ سنوات في ظروف
صعبة إلا أنها كانت مساعدة فيما وصلت إليه الآن بالكفاح الفلسطيني. وكذلك التجربة
الماليزية والتجربة التركية كنموذج في إدارة الدولة من منظور وطني إسلامي فإن
المراجعة يمكن ان تتجه إلى الإخلالات التالية :
1 ـ الرؤية والمشروع
تمثل محدودية الرؤية وعدم وضوحها وأحيانا غيابها مع هلامية المشروع
قاسما مشتركا لدى الإسلاميين في مختلف تجاربهم وخاصة العربية منها .
والرؤية في جوهرها خطة طويلة المدى تتمحور حول أهداف كبرى تتحدد
بالاعتماد على المنطلقات المرجعية الفكرية والسياسية وتقدير المصالح الوطنية
والقومية والحضارية وفق أولويات واضحة وبتدرج محسوب وصرامة في التنزيل .
لقد وقعت جل التجارب في الخلط بين الأهداف والوسائل الشيء الذي جعلها
تفشل في إدارة الدولة مع أول فرصة لتحقيق الحرية والديمقراطية لأن الأهداف لم تكن
مرتبطة بمهام كبرى على أساسها تتم تعبئة طلائع الأمة وشعوبها من أجل تحقيقها وتتعلق
بها الهمم وتتحد حولها الإرادات تمثلا لما ورد في الأثر مجازا "لو تعلقت همة
المرء بما وراء العرش لناله".. بمعنى المبالغة في تعظيم ما يتحقق بعلو الهمة،
إذ لا خلق ما وراء العرش كما قال أهل العلم.
ومن المهام الكبرى تحرير فلسطين والمسجد الأقصى في تجربة حماس أو
تحقيق الريادة الحضارية والتقدم في التجربتين التركية والمالزية .
2 ـ العلاقة بالمجتمع
لقد اتسمت علاقة الإسلاميين بمجتمعاتهم في المجمل بالعزلة وأحيانا
بالتوتر رغم ما ظهر لديهم من انتشار إلا أنه لم يتحول إلى حاضنة اجتماعية صلبة
قادرة على الصمود والثبات معهم على طريق تحقيق الأهداف الكبرى مثلما يحدث الآن في
فلسطين بين الشعب والمقاومة وما حدث في تركيا أثناء محاولة الانقلاب على
الديمقراطية في تموز / يوليو 2016.
ولا يعود الأمر فقط الى حملات الدعاية الممنهجة والتشويه لتكريس
العزلة بين الشعوب ونخبها الأصيلة وإنما
يعود أيضا إلى خلل في الرؤية للمجتمعات ومنهجية التفاعل معها لخدمتها وتعبئتها من أجل
قضاياها والتي كانت فيها كثيرا من التعالي والفوقية والاستعجال واللامبدئية خاصة
في القضايا الدينية والحضارية الضاربة في العمق الوجداني للمسلمين مثل قضية فلسطين
وغيرها.
3 ـ العلاقة بالدولة الوطنية الحديثة
انطلاقا من سياق نشأتها التي انبنت على سقوط الخلافة العثمانية
كرابطة جامعة للمسلمين على علاتها في أواخر عهدها ومن تجزئة وتقطيع خبيث لأوصال الأمة
بمفهومها الحضاري والسياسي فقد انطبعت علاقة الإسلاميين المعاصرين مع الدولة
الحديثة بالرفض والصراع والصدام زادها تيار التغريب والإلحاق الحضاري تأجيجا
واستعارا حولها من دولة وطنية إلى دولة وظيفية لضرب تطلعات الأمة للتحرر والنهوض
خدمة للغرب رغم أن منطلقاتها التأسيسية لم تكن معادية لهوية الشعوب وعمقها الحضاري
وأن دورها كأدة للتحديث القسري كان في بعض السياقات ضروريا لإحداث صدمة في
الوعي لتجاوز عصور التخلف والانحطاط الذي
تردت فيها الأمة.. ولا عجب إن أصبحت الدول الأكثر تأهلا للإصلاح الديمقراطي هي
تركيا وتونس.
لقد بات من الضروري أن يتصالح الإسلاميون مع الدولة الوطنية الحديثة
وأن يعملوا من خلالها على أساس رؤية وطنية حضارية منطلقة من هوية الشعوب وخصوصيتها
الثقافية وتنوعها الفكري والسياسي ضمن استراتيجية تتجنب الصدام معها دون التخلي عن
العمل من أجل إصلاحها في اتجاه الديمقراطية وتبنيها لرؤية تنموية وطنية ذات عمق
حضاري على غرار التجربة الماليزية.
4 ـ بناء الإنسان
لا شك أن أي مهمة تحتاج إلى من يحملها ويناضل من أجلها وعلى حجم
المهمة تكون همة حامليها أي على قدر اهل العزم تأتي العزائم كما يقال.. ومن هذا
المنطلق تحتاج مهمة البناء الوطني الحضاري بناء متكاملا لإنسان معاصر واع ومسؤول
وقدوة في ذاته ولمن حوله ونافعا لنفسه ولمجتمعه قولا وفعلا، وهذا ما حصلت فيه إخلالات
فادحة لدى الإسلاميين في مختلف تجاربهم منذ بداياتهم وتفاقمت مع اختبار إدارة الحكم أو المشاركة فيه وإغراءاته فتحول التنظم
وبناء الإنسان إلى مجرد تهيكل إداري لا روح فيه ولا معنى له ولا رؤية ولا مناهج
معاصرة لإدارته ولا علاقة له ببناء حاضنة اجتماعية قادرة على حمل المشروع الوطني
الحضاري، وهو عكس ما باحت به تجربة حماس وغيرها من متانة في بناء الإنسان وقدرته
على العطاء والتحمل تمثلا لقول سعد بن معاذ لرسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر
نيابة عن الأنصار "فو الذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر لخضناه معك
ما تخلف منا رجل واحد ".
لقد بات من الضروري أن يتصالح الإسلاميون مع الدولة الوطنية الحديثة وأن يعملوا من خلالها على أساس رؤية وطنية حضارية منطلقة من هوية الشعوب وخصوصيتها الثقافية وتنوعها الفكري والسياسي ضمن استراتيجية تتجنب الصدام معها دون التخلي عن العمل من أجل إصلاحها في اتجاه الديمقراطية وتبنيها لرؤية تنموية وطنية ذات عمق حضاري على غرار التجربة الماليزية.
5 ـ ديمقراطية البناء الداخلي
لقد نشأت تجارب الإسلاميين في بنائهم الداخلي لأحزابهم وحركاتهم
حاملة في طياتها بذور موروث عصور الانحطاط والتخلف من سوء إدارة للاختلاف وفردية
وتشبث بالسلطة خارج الشرعية والصراع من أجلها بدل الانضباط لآليات الإدارة
الديمقراطية ومستلزماتها من تداول وحوكمة وشفافية وتخطيط استراتيجي والتزام
بالقرار الجماعي.. وغالبا ما حصل انفصام بين التنظير والتدبير على عكس تجربة حماس
وغيرها التي أثبتت وعيا متقدما في الالتزام بمعايير الإدارة الديمقراطية العصرية والالتزام
بمواعيد الاستحقاقات الداخلية والتجديد في الوجوه والسياسات.
6 ـ العلاقات الدولية
لقد بينت معركة طوفان الأقصى بما لا يدع مجالا للشك حقيقة الخلفية
الحضارية التي يتعامل بها الغرب مع الأمة العربية الإسلامية بكل مكوناتها والقائمة
على تكريس الإلحاق والتبعية والهيمنة بدل التعايش والتعاون والتعامل بندية.
والإسلاميون اليوم في حاجة إلى مراجعة ما حصل ويحصل من ارتباك في
علاقاتهم بالغرب وخاصة مؤسساته الرسمية التي بدت وكأنها داعمة للتحولات
الديمقراطية وتحرير إرادة شعوب الأمة، وهذا لا يعني بالضرورة الاستعداء والدفع نحو
الصراع وصدام الحضارات كما نظر لذلك هنتنغتون إنما يعني جعل مبدإ التعويل على
الذات والأخذ بأسباب التطور والتقدم أساسا لأي رؤية أو مشروع لبناء وطني حضاري
مستقبلي استئناسا بتجربة حماس.