يأبى عبد السند يمامة، رئيس
حزب الوفد المصري، إلا أن
يسجل حضورا في ذاكرتنا، بشخصيته المرتبكة وممارسته الرعناء!
فقد كان ظهوره في المشهد "ثالث ثلاثة" مع
الجنرال، في أحد القصور الرئاسية، مغريا لي للكتابة، لا سيما من حيث ترتيب "الوقوف"،
وقد حرص من بيدهم عقدة الأمور أن يكون الوقوف حسب الأصوات التي حصل عليها كل مرشح،
فكنا أمام إهانة جديدة تلحق بهذا الحزب العريق. وكان يمكن للوقوف ألا يكون مرتبطا
بذلك، لكن حرص القوم على ذلك له دلالته، فلا شيء بقي من الوفد إلا هذا الحضور
المخجل، على نحو يجعل من تنفيذ الحكمة البالغة "إكرام الميت دفنه"
ضرورة، بدلا من عملية التمثيل بجثته التي تحدث الآن!
وقبل أن أهُم بالكتابة من وحي هذه الصورة، نسيت الأمر،
لكن "غريب الأطوار" ظهر بعد غياب، مقترحا قيام المصريين في الخارج
بتحويل 20 في المئة من أجورهم عبر البنوك، ثم تمادى في هذا وهو يعلن أن الهيئة
البرلمانية للوفد ستتبنى هذا المقترح. ولك أن تتصور لحظة الإعلان عن رفض الأغلبية
لهذا الجنون، فيكسب حزب مستقبل وطن وتحالفه بنطا عند الناس، يمكّنهم منه حزب الوفد،
المعارض بحسب التصنيف الطبيعي للأحزاب، وإن كان الواقع يقول إنه لا معارضة في مصر
الآن، وأن كلها أحزاب مولاة، وقد ألقت التجربة الحزبية المصرية المنهكة ما فيها
وتخلت!
ترتيب نعمان جمعة:
أن يحصل الوفد على المرتبة الثالثة في الانتخابات الرئاسية لهي إهانة كبيرة للحزب، في انتخابات تم التحكم فيها، ولم تكن نتائجها وليدة الإرادة الحرة للناخبين، صحيح أن هذا هو الترتيب منذ انتخابات مبارك الأخيرة، لكني أعلم أن هذا تم على غير إرادة نظامه
أن يحصل الوفد على المرتبة الثالثة في
الانتخابات
الرئاسية لهي إهانة كبيرة للحزب، في انتخابات تم التحكم فيها، ولم تكن نتائجها
وليدة الإرادة الحرة للناخبين، صحيح أن هذا هو الترتيب منذ انتخابات مبارك
الأخيرة، لكني أعلم أن هذا تم على غير إرادة نظامه، فعندما أعلن أيمن نور ترشحه،
فإن ضغوطا مورست على رئيس الوفد (حينها) الدكتور نعمان جمعة من أجل خوض الانتخابات،
بهدف أن يكون ترتيبه الثاني، وهو أمر يليق بالعملية برأي أصحابها، فمن حصل على
الترتيب الثاني هو رئيس أكبر وأقدم حزب في مصر، لكن عند إعلان النتيجة اشترط أيمن
نور إعلان النتيجة الحقيقية من حيث الترتيب، مقابل ألا يشكك في النتائج، وقبل نظام
مبارك هذا على مضض!
كانت الضغوط الأكبر على جمعة من داخل الحزب، ولأسباب
منطقية لدى الضاغطين، تلاقت مع رغبة النظام، في أنه لا يجوز خوض أول انتخابات رئاسية
تعددية بدون الوفد، بينما ينافس على ذلك حزب وليد (الغد) ورئيسه خرج من الوفد
مفصولا بقرار من نعمان جمعة نفسه، وبدا الرجل في حملته الانتخابية كما لو كان
محمولا على أمر يكرهه. وقد تولت السلطة الدعاية له بالملصقات وغير هذا في بعض
المحافظات، لتخفي بهذا الحضور وجود هذا الشاب المتهور والطموح؛ أيمن نور، وقد وضعه
مبارك نفسه في رأسه، وقال لرجاله الثلاثة (فتحي سرور، وحبيب العادلي، وصفوت الشريف)
أدّبوه، وبانصراف مبارك انصرف الأخير وقال إنه لا شأن له بالأمر، فكانت قضية تزوير
توكيلات تأسيس الحزب!
وهناك محاولات لإقناع خالد محيي الدين، أحد الضباط
الأحرار ورئيس حزب التجمع الوطني التقدمي، باءت بالفشل، وكان يقوم بها -كما جرت
العادة- الرجل المقرب منه تاريخيا رفعت السعيد، فما زال يلح عليه حتى خرج عن
شعوره، وصرخ فيه: "رفعت". وكان يعرف عنه أن إذا وصل غضبه منه الذروة
خاطبه باسمه مجردا غير مسبوق بلقب "دكتور"!
ولأنها مرحلة عناوين لا متون، فمنذ الانتخابات الثانية،
والمرشح العسكري لديه رغبة في أن يعطي تصورا جادا للانتخابات بأن من ينافسه ليس
نكرة، ولكنه رئيس حزب الوفد، تماما كما فعل مبارك، وفشلت المحاولة مع رئيس الحزب
السيد البدوي شحاتة، لأن شباب الحزب حاصروا المقر واحتشدوا فيه فحملوا الهيئة
العليا للحزب على رفض قبول أن يكون رئيسهم مجرد "محلل" مستدعى للقيام
بمهمة، نظرة الشعب المصري لمن يقوم بها سلبية للغاية!
وكان واضحا لي أن التخطيط لهذه المنافسة الصورية مع اسم
الوفد سيتم الإعداد له مبكرا ومنذ بداية الولاية الثانية في عام 2018. ومن هنا
كان واضحا، وكتبته في حينه، أن إرسال المحامي بهاء أبو شقة لرئاسة الوفد بديلا
للبدوي هو لهذا الهدف، وهو الوسيط الذي كُلف بإقناع الهيئة العليا على قبول
المهمة، وفشلت وساطته، وهو وكيل برلمان المرحلة، كما أن نجله هو المستشار القانوني
للسيسي، وحامل ملفه بالوكالة للجنة العليا للانتخابات!
منذ الانتخابات الثانية، والمرشح العسكري لديه رغبة في أن يعطي تصورا جادا للانتخابات بأن من ينافسه ليس نكرة، ولكنه رئيس حزب الوفد، تماما كما فعل مبارك، وفشلت المحاولة مع رئيس الحزب السيد البدوي شحاتة، لأن شباب الحزب حاصروا المقر واحتشدوا فيه فحملوا الهيئة العليا للحزب على رفض قبول أن يكون رئيسهم مجرد "محلل" مستدعى للقيام بمهمة، نظرة الشعب المصري لمن يقوم بها سلبية للغاية!
وكان واضحا لي أن التخطيط لهذه المنافسة الصورية مع اسم الوفد سيتم الإعداد له مبكرا ومنذ بداية الولاية الثانية في عام 2018
"نكرة" يخوض الانتخابات:
وبدأت هندسة الأمر مبكرا، ولهذا فعندما أجريت الانتخابات
الأخيرة فإن المنافسين الطبيعيين على رئاسة الحزب أحجموا عن خوض الانتخابات ضد
مرشح السلطة، وجاء عضو نكرة في الحزب من الأقاليم لينافس من أجل الشهرة ولاستيفاء
الشكل!
وأمثاله كثيرون في كل انتخابات، وكثيرا ما يفرز التصويت
العقابي فائزين من هذه "العينة"، بشكل يمثل مفاجأة للناخبين أنفسهم.
وحدث هذا الأمر في الانتخابات البرلمانية سنة 1990، وقد قاطعت أحزاب المعارضة
الرئيسية هذه الانتخابات لاشتراطها ضمانات بالنزاهة لخوضها، وفي بيان إعلان
النتيجة نفى وزير الداخلية عبد الحليم موسى أن تكون المعارضة قد قاطعت الانتخابات
فعلا، فكيف وقد نجح لحزب الأحرار مرشح في إحدى الدوائر بمحافظات الوجه البحري،
وذكره اسما!
وكان السؤال داخل الحزب حول من هذا الشخص؟ والإجماع أن
أحدا لا يعرفه، بمن في ذلك أمين المحافظة نفسها، لكن وزير الداخلية كثيرا ما كان "يسوق
الهبل على الدروشة"، وطلب الحزب من الفائز الحضور، فجاء ليتفرج عليه الجميع،
وكان القرار بالاعتراف به رغم عدم إثبات أنه ابن الحزب أصلا!
بيد أنه كان شخصية غريبة فعلا وتافهة، ولم يصدق نفسه فكان يدخل
المطاعم والمتاجر ويرفض دفع الحساب، لأنه "عضو مجلس شعب"، وبعد عدة شهور
زهد فيه الحزب ووجده عبئا عليه فأطلق سراحه. وقد كان أحد الصحفيين في "الأحرار"
متخصصا في دفعه لإثارة جلبة داخل المجلس، وبعد الانتهاء من التعليق على بيان
الحكومة يقف طالبا إعلان موقف حزب الأحرار وهو كل هيئته البرلمانية، وعندما يحتد
عليه رئيس المجلس فتحي سرور بأن هذا مخالف للائحة بعد التصويت بغلق باب المناقشة،
يصرخ، ويهتف، ويولول، وذات مرة انتبه سرور لحاله، فعندما طلب الكلمة بعد صراخ،
أعطاها له، فنظر حوله ثم جلس ولم يتكلم!
وله صورة نشرتها الصحف وكان يقف في مجلس الشعب، وقد تحدث
إليه وزير شؤون البرلمان كمال الشاذلي، طالبا منه أن يتوقف عن الضوضاء والشغب في
الجلسة، وكان يتحدث بيده، فإذا بالنائب المحترم يتصور أنه تلميذ في المدرسة فيشيح
بوجهه بعيدا ويغطي خده بصفعة اتقاء لصفعة اعتقدها من الشاذلي!
وأمام الشكاوى الكثيرة ضده من المطاعم ومحطات الوقود
لرفض دفع حساب أكله والخدمات لأنه "عضو مجلس شعب"، أسقط المجلس عضويته
بالتصويت، فوقف يصرخ كطفل فقد أمه في السوق!
التصويت العقابي:
عندما سألت كيف نجح؟ كان الرد إنه التصويت العقابي، فمن تنافس على الانتخابات وشوّه كل مرشح الآخر، وخاض كل مرشح في عرض الآخر بما لا
يليق بمجتمع محافظ، فاستفزا الناخبين الذين قرروا حرق أصواتهم فاختاروا دون اتفاق
المرشح للشهرة!
وعلى ذكر انتخابات سنة 1990، فقد كانت هناك ذكرى في نفسي
بينما أشاهد عبد السند يمامة في هذا الترتيب المهين للوفد، والذي توقعته على أي
حال!
عندما سألني صديق عن ترتيب النتائج قبل إعلانها، فكرت
بمنطق القوم، وأنه على الرغم من أنهم يتوحمون على أن يكون "المحلل" هو
رئيس الوفد، إلا أنهم لن يعطوه فرصة أن يكون كذلك، خشية أن يكون هذا تعزيزا لمكانة
الوفد في المستقبل، وهناك من يقولون إن الوفد لو كان عظما في قفّة سيكون مؤهلا لأن
يكون شيئا معتبرا في المستقبل، وأهل الحكم يصادرون الحاضر والمستقبل، لذا فلا بد
من إهانة الحزب فلا تقوم له قائمة!
وبالمقارنة بين حازم عمر وفريد زهران، فإن الأخير في
النهاية له انتماءات سياسية قديمة لليسار، ولم يتراجع عن هذا الانتماء، وهو ابن
عائلة يسارية؛ فوالده هو القطب اليساري الكبير سعد زهران، وكان هو من جيل مارس
النضال السياسي في الجامعة، ويجيد الحديث والتنظير، وإذا كان مضطرا لهذه
الانتخابات فقد يمثل له الترتيب نقلة في المستقبل، إذ سيكون ترتيبه الثاني!
صحيح أن حازم عمر شاب، وقد يداعب خياله الأمر مستقبلا،
لكنه ابن شرعي للسلطة، ومن السهل الحذر منه ولو أدى الأمر لإنهاء وجوده السياسي
بأي طريقة، ولن يقاوم!
ولم يكن مفاجئا لي أن تصدق توقعاتي، فقد علمنا منطق
القوم، وتم إلقاء عبد السند يمامة بعيدا إمعانا في الازدراء، ولأن المصريين والغرب
لم تنطل عليهم فكرة الحزب التاريخي والكبير، وقد فقد ترشحه معناه، فلا يجوز أن
يستفيد الحزب من هذه الخطوة!
قد علمنا منطق القوم، وتم إلقاء عبد السند يمامة بعيدا إمعانا في الازدراء، ولأن المصريين والغرب لم تنطل عليهم فكرة الحزب التاريخي والكبير، وقد فقد ترشحه معناه، فلا يجوز أن يستفيد الحزب من هذه الخطوة!
هذا المشهد البائس ذكرني بما كان عليه الحال، فقد انزعج
مبارك من فكرة مقاطعة المعارضة للانتخابات. وقد شهد برلمانا عهد مبارك في الفترة
من (1984-1987) و(1987-1990) حيوية كبيرة، لذا فقد اعتبر هذه المقاطعة إدانة لحكمه،
وتواصل هاتفيا مع رئيس حزب الأحرار مصطفى كامل مراد ليقنعه بالعدول عن قرار
المقاطعة، لكنه قال إنه لن يتراجع عن قرار المعارضة إلا بوجود ضمانات لنزاهة
الانتخابات، ولم يكن مبارك مستعدا لذلك (الحقيقة أن مراد لم يكن مؤيدا للمقاطعة
لكنه رضخ لقرار الأحزاب)، وبعد يومين من هذه المقابلة التقى مبارك برئيس الوفد
فؤاد سراج الدين، ونُشرت صورة اللقاء في الصحف الرسمية، وحاول إقناعه بخوضها لكنه
رفض!
وغضب مراد لتفاوت التقدير، فيكتفي الرئيس بالاتصال
الهاتفي به، ويلتقي فؤاد سراج الدين، وحاول وحيد غازي رئيس تحرير الأحرار تهدئة
غضبه بأن قال إن السبب في اللقاء وجها لوجه أن سراج الدين قد لا يتمكن من سماعه
هاتفيا لكبر سنه وضعف سمعه، وصمت مراد برهة ليستوعب ذلك، ثم قال بأسى: لا يا وحيد!
فمصطفى مراد يعاني أيضا من ضعف السمع، بعد أن انفجرت
دانة بالقرب من أذنه في حرب 1948 وأثر هذا على أعصابه، فكان لا يمكن السيطرة عليه
إذا غضب، وقال لي أبو الفضل الجيزاوي إنه عندما عاد من الحرب، رفض عدد من قيادات
الجيش أن يلتحق بالخدمة تحت رئاستهم، وقالوا إنه مجنون، لكن أبو الفضل الجيزاوي وافق
عليه وقال أنا مجنون مثله، وبعد ذلك ضمه للضباط الأحرار. وذكر الجيزاوي لي كيف أنه
صبيحة يوم الثورة رفع مصطفى كامل مراد رشاشه ليفرغه في قيادات الجيش وقد كانوا
يتعاملون معهم باحتقار، لأنهم من صغار الضباط، ولم يجد وسيلة لمنعه من تصفيتهم إلا
أنه ألقى بنفسه عليه فسقط الرشاش من يده!
إن اللقاء المباشر بين مبارك وفؤاد سراج الدين هو لقيمة
الوفد وقيمة الشخص، وهي قيمة أهدرها مرشح الغفلة، والحقيقة أنها أُهدرت قبله ومنذ
أن أصبح الحزب العريق جزءا من حسابات السلطة، لكن الأمر لم يصل إلى هذا المنحدر
إلا مع السيد يمامة.
فكم من الجرائم ترتكب بسبب التصويت العقابي!
twitter.com/selimazouz1