من لا يزال يتذكر ذلك الشاب الذي أشعل النار في جسده بعد أن منعته عون
البلدية من بيع بضاعته في السوق بدون رخصة، وقامت بمصادرة عربته الخشبية؟ تلك
الحادثة التي غيرت وجه المنطقة وفتحت المجال أمام مرحلة جديدة عرفت بـ"الربيع
العربي". لكن بعد أربعة عشر عاما، نسي الجميع محمد البوعزيزي، لم يعد يذكره
أحد تقريبا، الأهم من ذلك أن عيد
الثورة في الرابع عشر من كانون الثاني/ يناير مر دون احتفال رسمي، ولولا المسيرة التي نظمتها جبهة الخلاص المعارضة في شارع الحبيب
بورقيبة، لضاعت الذكرى ومُسحت من الذاكرة الجماعية.
تونس اليوم مختلفة تماما عما كانت عليه تونس من قبل؛ عزوف كبير عن السياسة
والسياسيين، وتغير مزاج التونسيين؛ أصبحوا أكثر تشاؤما وأكثر قلقا وحيرة وأقل ثقة
في المستقبل. حتى شعبية الرئيس سعيد تراجعت رغم بقائه في الطليعة، وذلك حسب ما أشار
إليه استطلاع للرأي تم في شهر شباط/ فبراير الماضي. فالخطاب السياسي لم يعد مغريا؛ نظرا لكون الإنجازات العملية بقيت محدودة جدا
مقارنة بالوعود وانتظارات التونسيين.
تونس اليوم مختلفة تماما عما كانت عليه تونس من قبل؛ عزوف كبير عن السياسة والسياسيين، وتغير مزاج التونسيين؛ أصبحوا أكثر تشاؤما وأكثر قلقا وحيرة وأقل ثقة في المستقبل.
أما المعارضة بمختلف أحزابها وتياراتها، فلم
تنهض من كبوتها، ووجدت نفسها تعيش في عزلة واضحة وحصار على أكثر من صعيد؛ إذ لا
تزال قضية المساجين السياسيين تراوح مكانها وتحتفظ بأسرارها، حيث لم يكشف القضاء
حتى الآن عن المستندات والأدلة التي تثبت تآمر هؤلاء السياسيين على أمن الدولة
الداخلي والخارجي، ومنهم من لا يزال ينتظر سماعه من قبل القضاء ليرد على التهم
الموجهة إليه. كما أن إضرابات الجوع التي لجأ إليها بعضهم احتجاجا على وضعهم داخل
السجن لم تغير شيئا من أحوالهم، وبقيت دون جدوى، حتى البيانات المنددة بطول فترة
الإيقاف وظروف الموقوفين الصادرة عن هيئات الدفاع ومنظمات حقوق الإنسان المحلية
والدولية، لم يلتفت لها رئيس الجمهورية، واكتفى بالتعقيب على بعضها عرضيا في إحدى
كلماته الموجهة لبعض المسؤولين.
المسألة الرئيسية التي بقيت تشغل الرئيس سعيد، هي غلاء الأسعار من جهة
وملاحقة من يعدهم فاسدين، إذ لا يكاد يمر أسبوع دون فتح ملفات ضد مسؤولين سابقين
أو إداريين أو رجال أعمال. وبعد اعتقال العديد منهم، يُطرح عليهم اللجوء إلى الصلح
الجزائي، وهو عبارة عن دفع مقادير مالية مهمة مقابل مغادرة السجن، وفي حال رفضهم
لذلك لاعتبارات متعددة يتم الإبقاء عليهم في حالة إيقاف.
تعد سنة 2024 سنة
الانتخابات الرئاسية، التي يفترض أن تجري في شهر تشرين
الأول/ أكتوبر القادم، ولا شك في أن هذا الموعد سيكون محطة فاصلة في عملية التداول
على السلطة. ورغم أن الرئيس سعيد لم يُفصح إلى حد الآن عن رغبته في الترشح لدورة
ثانية، إلا أن عديد المؤشرات تدل على أنه سيكون أكثر المعنيين بهذه المحطة المهمة؛ فبرنامجه السياسي لم يكتمل تنفيذه، كما أن الأجزاء التي طبقت على أرض الواقع لم
تبرز جدواها بشكل ملموس من قبل المواطنين مثل البرلمان ومجلس الجهات والأقاليم، الذي تم الشروع في التهيئة له عبر الانتخابات المحلية. وكما حدث مع الانتخابات
التشريعية، لم تحظ بقية الانتخابات التي تمت أو التي ستجري في المستقبل بأي اهتمام
شعبي، وهو ما تشهد عليه النتائج الرسمية. لكن ذلك لن يمنع رئاسة الجمهورية من
الاستمرار في حرصها على تشكيل هذه الهيئات، بقطع النظر عن تمثيليتها ومدى قدرتها
على تحقيق الإضافة للمواطنين وللبلاد.
يعتقد الكثيرون بأن الاعتقالات التي حصلت، هي جزء من خطة تهدف الى إقصاء كل من لهم حظوظ في أن يكونوا مرشحين جديين في الانتخابات الرئاسية القادمة. وتتهم هذه الأوساط رئاسة الجمهورية بتفريغ الساحة ممن لهم وزن ما.
في هذا السياق، يعتقد الكثيرون بأن الاعتقالات التي حصلت، هي جزء من خطة
تهدف الى إقصاء كل من لهم حظوظ في أن يكونوا مرشحين جديين في الانتخابات الرئاسية
القادمة. وتتهم هذه الأوساط رئاسة الجمهورية بتفريغ الساحة ممن لهم وزن ما، مثل
حركة النهضة والحزب الدستوري الحر.
رغم هذه الأجواء غير المشجعة سياسيا، إلا أن أطرافا من المعارضة لم ترفع
الراية البيضاء، وبقيت متمسكة بحقها في النشاط واستعدادها لخوض الانتخابات
الرئاسية بعد مقاطعتها للمسلسل الانتخابي الذي ينفذه
قيس سعيد. لقد أكد أحمد نجيب
الشابي، الناطق باسم جبهة الخلاص، أن الانتخابات الرئاسية هي "استحقاق دستوري
لا يمكن التفريط فيه"، لكنه اشترط أن تتم حسب دستور 2014، مع ضرورة إطلاق
سراح
المعتقلين وضمان حرية الصحفيين وعودة نشاط الهيئات الدستورية. وهي شروط لا
يمكن أن يقبلها قيس سعيد، مما يعني عمليا مقاطعة الانتخابات ومواصلة تحرك المعارضة
في سياق مضاد لسياسة السلطة الحالية؛ أي سيتواصل حوار الطرشان، وبقاء الحالة
التونسية خارج دائرة الفعل: رئيس يقرر، ومعارضة ترفض، ورأي عام لا مبال، ونخبة
مستقيلة، حتى يأتي ما يخالف ذلك.