نشرت صحيفة "
فورين أفيرز" الأمريكية، مقالا حول التحديات التي تواجه
الشرق الأوسط، والدور الذي يمكن أن تلعبه الولايات المتحدة في إحلال الاستقرار في هذه المنطقة، معتبرة أن التركيز على التعاون الإقليمي هو السبيل الأمثل لمواجهة المخاطر الأمنية والاقتصادية المتزايدة.
وقالت الصحيفة في المقال الذي ترجمته "عربي21"، إن الحرب المدمرة في قطاع
غزة أنتجت توترات عالية في الشرق الأوسط، وبات الاستقرار مهددا في كامل المنطقة، التي عادت لتتصدر اهتمامات السياسة الخارجية الأمريكية.
وأضافت أنه في الأيام الأولى بعد هجوم حماس في السابع من أكتوبر، فقد حركت الإدارة الأمريكية اثنتين من حاملات الطائرات وغواصة نووية نحو منطقة الشرق الأوسط، فيما كثف المسؤولون الأمريكيون زياراتهم للمنطقة.
وذكرت أنه مع تصاعد التوترات وصعوبة احتواء الموقف، قامت واشنطن بخطوات إضافية، حيث إنها ردت على هجمات على مواقع عسكرية تابعة لها في العراق وسوريا نفذتها مجموعات تابعة لإيران، ونفذت ضربات جوية على مواقع في هذين البلدين تابعة للحرس الثوري الإيراني، كما أنها اغتالت في بداية العام مسؤولا رفيع المستوى في هذه المجموعات في بغداد، وأطلقت أيضا سلسلة من الضربات ضد مواقع الحوثيين في اليمن.
ورأت الصحيفة أنه على الرغم من استعراض القوة الذي تمارسه الولايات المتحدة، فإنه سيكون من غير الحكيم المراهنة عليها كلاعب محوري في المشهد الدبلوماسي والأمني في الشرق الأوسط على المدى الطويل. إذ إنه حتى قبل انفجار الأوضاع في السابع من أكتوبر، فقد كانت مختلف الإدارات الأمريكية قد أرسلت إشارات تفيد بنيتها النأي بنفسها عن هذه المنطقة وصرف انتباهها نحو صعود الصين.
وأشارت إلى أن إدارة
بايدن دخلت في صراع محموم مع روسيا في أوكرانيا، وهو ما قلص من الموارد الموجهة نحو الشرق الأوسط. كما أنها تخلت عن إحياء الاتفاق النووي مع إيران، واتجهت نحو الاكتفاء بترتيبات غير رسمية لتجنب التصعيد. وفي نفس الوقت سعت الإدارة الأمريكية لتعزيز القدرات العسكرية لحلفائها الإقليميين على غرار المملكة العربية السعودية، في مسعى للتخلص من المسؤوليات الأمنية في المنطقة.
وأضافت الصحيفة أن إدارة بايدن رغم ترددها في البداية بشأن التعاون مع الرياض، في ظل وجود معطيات من جهاز وكالة الاستخبارات الأمريكية حول ضلوعها في اغتيال الصحفي جمال خاشقجي في 2018، فإنها فضلت في النهاية العمل على تطبيع العلاقات بين المملكة وإسرائيل، ومن أجل تحقيق هذا الهدف قدمت تشجيعات ضخمة لكلا البلدين، متجاهلة بشكل كبير القضية
الفلسطينية.
ولاحظت الصحيفة أنه رغم الحرب في غزة، فإن سياسة واشنطن تجاه المنطقة لم تطرأ عليها تغييرات كبيرة، حيث إنها لا تزال تدفع السعودية نحو التطبيع رغم إصرار إسرائيل على رفض إقامة دولة فلسطينية، وهو الشرط الذي وضعه السعوديون لأي اتفاق مع الدولة العبرية.
ورأت الصحيفة أن المسؤولين الأمريكيين من غير المرجح أن يتراجعوا عن سياسة فك الارتباط مع صراعات الشرق الأوسط، والحرب الدائرة حاليا يمكن أن تؤدي إلى مزيد إضعاف شهية واشنطن نحو الانخراط في هذه المنطقة، ولذلك فإن الحكمة تقتضي الآن عدم توقع أي شيء من هذا القبيل من المسؤولين الأمريكيين، خاصة مع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية.
بحسب الصحيفة، فإن القوات الأمريكية ستظل دائما مستعدة للرد على أي هجمات تستهدفها في الشرق الأوسط خاصة عندما توقع وفيات في صفوفها، ولكنها في نفس الوقت لن تلعب دورا قياديا في ملفات مثل إدارة قطاع غزة أو تحقيق سلام دائم في المنطقة.
وقالت الصحيفة إن تعقيد الوضع الحالي يصعب على واشنطن لعب دور مهيمن، ولكن هذا لا يعني بالضرورة أن قوى أخرى عالمية سوف تحل محلها، فالأوروبيون والصينيون أيضا لم يبدوا رغبة كبيرة أو يكشفوا عن قدرات تمكنهم من الاضطلاع بهذا الدور، حتى في ظل تراجع النفوذ الأمريكي.
وفي ظل هذه الحقيقة التي بدأت ملامحها تتضح، فإن القوى الإقليمية، وخاصة جيران إسرائيل؛ مصر والأردن، إلى جانب قطر والسعودية وتركيا والإمارات، شرعت في التنسيق منذ بداية الحرب، في ظل الحاجة الماسة للتحرك وإيجاد مقاربة جماعية للتعامل مع الوضع.
وأشارت الصحيفة إلى أنه حتى خلال السنوات التي سبقت انفجار الوضع بين غزة وإسرائيل، فقد كانت الدول العربية وغير العربية في الشرق الأوسط قد أظهرت قدرة على إيجاد أطر جديدة للتعاون وإعادة صياغة العلاقات في المنطقة، وهو أمر تواصل خلال الأشهر الماضية للحرب في غزة، والآن يجب على حكومات هذه الدول أن تتحد لبناء آليات دائمة للتوقي من الصراعات.
وذكرت أن هذه القوى الإقليمية مدعوة لدعم مسار سياسي بين إسرائيل والفلسطينيين، إلى جانب اتخاذ خطوات حاسمة لمنع تفجر الأوضاع مرة أخرى. وبشكل خاص يجب عليها الاتفاق على ترتيبات أمنية إقليمية جديدة أكثر صلابة، توفر الاستقرار حتى في غياب القيادة الأمريكية.
كما أن الوقت حان ليكون للشرق الأوسط منتدى دائم للأمن الإقليمي يمثل منصة للحوار بين هذه القوى، وبهذه الطريقة يمكن تحويل نقمة الأزمة الحالية إلى نعمة، ولكن بشرط الالتزام والعمل المكثف من أعلى المستويات السياسية في هذه الدول. ورغم أن الأمر قد يبدو من الوهلة الأولى صعبا، فإن قادة الشرق الأوسط لديهم القدرة على وضع حد لدوامة العنف، وأخذ المنطقة نحو وجهة أكثر إيجابية، وفقا للصحيفة الأمريكية.
وقالت الصحيفة إن تبعات تضاؤل النفوذ الأمريكي في الشرق الأوسط لم تقتصر على الحرب الدائرة حاليا في غزة. إذ إنه حتى في السنوات السابقة، كانت القوى الإقليمية تسعى لتشكيل ترتيبات أمنية فيما بينها. ومنذ العام 2019، اتجهت هذه الحكومات لإصلاح العلاقات المتوترة فيما بينها، ليس فقط بدافع المصلحة الاقتصادية، بل أيضا بسبب تراجع الدور الأمريكي.
ومن الأمثلة على ذلك هناك التقارب الحاصل بين دول الخليج وإيران، وانتهاء الحصار الذي فرضته البحرين ومصر والسعودية والإمارات على قطر، والمصالحة بين الإمارات والسعودية وتركيا. ثم في العام 2023، وجه القادة العرب دعوة للرئيس السوري بشار الأسد لتستعيد سوريا مقعدها في الجامعة العربية.
وأضافت الصحيفة أن عملية إعادة صياغة العلاقات في الشرق الأوسط، شملت أيضا تطبيع العلاقات بين إسرائيل والعديد من الأنظمة العربية، في إطار اتفاقات أبراهام في العام 2020، التي شملت البحرين والمغرب والإمارات. وكانت الإدارة الأمريكية تأمل في انضمام السعودية إلى هذه الاتفاقات، بصفتها عضوا هاما في العالم العربي.
ولكن بقي الغائب الأبرز عن اتفاقيات التطبيع هو القضية الفلسطينية التي تم تهميشها، وكنتيجة لذلك فإن الأردن على سبيل المثال رفض المشاركة في قمة النقب، مع تزايد التوترات في الضفة الغربية. والآن مع الحرب المدمرة في غزة، فإن أي تقدم في هذا المسار لن يكون فقط مشروطا بإنهاء الحرب، بل أيضا بوجود خطة ملموسة لإقامة دولة فلسطينية.
ورأت الصحيفة أنه من الناحية النظرية، كان يفترض بالحرب في غزة أن تشكل تهديدا جديا لعملية إحياء العلاقات في الشرق الأوسط، باعتبار أن هذا المسار لا يزال جديدا والعلاقات فيه تكون هشة ومتعثرة أمام الملفات الشائكة.
ولكن بشكل مفاجئ يبدو أن هذه العملية أثبتت صلابتها رغم حساسية الموقف، إذ إنه عوضا عن توتير الأجواء بين الرياض وطهران، فقد أدت الأزمة في غزة إلى تمتينها. وفي تشرين الأول/ نوفمبر 2023 حضر الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي لقاء مشتركا للجامعة العربية ومنظمة التعاون الإسلامي، في ضيافة ولي العهد السعودي محمد بن سلمان في الرياض. ثم في الشهر الموالي التقى الإيرانيون والسعوديون في بكين مرة أخرى لمناقشة حرب غزة. ويخطط البلدان لتبادل الزيارات الرسمية بين رئيسي وابن سلمان، لإضفاء صبغة رسمية على الاتفاقات الاقتصادية والأمنية الجديدة.
وأكدت الصحيفة أن الحرب خلقت عقبات جديدة أمام التعاون الإقليمي، إلا أن كل المؤشرات الحالية تؤكد أن قادة الشرق الأوسط مصممون على تجاوز الخلافات. وأمام الغضب الشعبي المتزايد حول الحرب في غزة، ومخاطر تنامي الحركات المتطرفة في المنطقة، فإن هؤلاء سعوا لتنسيق مواقفهم تجاه الصراع الفلسطيني الإسرائيلي. فقد اجتمعوا على المطالبة بوقف إطلاق نار فوري، ومعارضة أي مخططات لتهجير الفلسطينيين خارج غزة، والتشديد على ضرورة فتح ممر إنساني لتوفير المساعدات، مع الدعوة للدخول في مفاوضات للإفراج عن الرهائن الإسرائيليين في مقابل إنهاء الحرب.
وفي الختام، أكدت الصحيفة أن الدول العربية التي تقود الشرق الأوسط، إلى جانب قوى إقليمية أخرى مثل تركيا، مطالبة باغتنام اللحظة لتثبيت خطوات التقارب التي تحققت قبل حرب غزة، وقنوات الاتصال والتنسيق التي تم الاعتماد عليها منذ اندلاع هذه الحرب. ويواجه الشرق الأوسط اليوم لحظة حاسمة أمام خياري الدخول في حالة شلل كاملة أمام حمام الدم في قطاع غزة والاستسلام لدوامة الأزمة والصراع، أو بناء مستقبل جديد مختلف كليا.