عاد الغموض ليلف مصير التحالفات الإقليمية في شمال وغرب القارة
الإفريقية، لا سيما بعد تراجع
النفوذ الفرنسي وتعاظم النفوذ الروسي في السنوات
الأخيرة.
وإذا كان مفهوما لدى متابعي المشهد السياسي في غالبية دول الساحل
والصحراء، لجهة نوعية
الصراع الداخلي بين مكونات دوله، أو لجهة التنافس الدولي على
اكتساب مناطق نفوذ، فإن ما يثير الاستغراب أكثر لدى مراقبي الشأن السياسي في غرب
وشمال إفريقيا، هو ما يصفونه بـ "الموقف السلبي" لدول شمال إفريقيا، وفي
المقدمة منها الجزائر حيال ما يجري من تطورات تنذر ليس فقط بحدة التنافس الدولي
على إفريقيا، وإنما بموجة من الانقلابات العسكرية في عدد من دول غرب القارة
الإفريقية.
وفي هذا السياق كشف الكاتب والإعلامي الجزائري محمد بن أحمد في تقرير
له اليوم نشره بصحيفة "الخبر" الجزائرية، النقاب عن أن نفوذ
روسيا في
دول الساحل والصحراء، عقب زيادة نشاط الشركة الأمنية "فاغنر"، يواجه تحركا
أمريكيا كبيرا، فقد قررت الولايات المتحدة غلق الطريق أمام النفوذ
الروسي في الدول الإفريقية عبر سلسلة من التحركات الإستراتيجية، تهدف في النهاية
إلى "حصار" الروس في الصحراء.
وقال: "تسارعت تحركات الروس والأمريكيين في الصحراء الكبرى وغرب
إفريقيا منذ شهر ديسمبر 2023. ففي هذه الفترة شهدت المنطقة 3 أحداث مهمة، أبرزها
قرار الولايات المتحدة إنشاء قواعد لطائرات دون طيار في 3 دول بغرب
إفريقيا، في غانا وكوت ديفوار وبينين، في ذات الفترة حذرت تقارير أمنية على أعلى
مستوى من موجة انقلابات عسكرية جديدة في منطقتي الصحراء الكبرى وغرب إفريقيا".
وذكر محمد بن أحمد أن تقارير تحدثت عن وجود مؤشرات قوية على وقوع
انقلابات عسكرية وعمليات اغتيال لقادة عسكريين في دول إفريقية، وأشارت إلى أن دولا
كبرى تحاول منذ أشهر متابعة التطورات في دول إفريقية للتعامل مع أي انقلاب عسكري
جديد. وفي شهر ديسمبر 2023 تم تداول أخبار في صحف فرنسية حول الإجراءات الأمنية
المشددة التي فرضتها السلطات العسكرية في نيجيريا ومالي وبوركينافاسو، وزيادة
الاعتماد على الأجانب من عناصر شركة "فاغنر" لتأمين الشخصيات المهمة على
رأسها القيادات العسكرية، في إطار تدابير للتعامل مع تهديدات داخلية.
وأشار إلى أنه وعلى الرغم من التشكيك في مصداقية هذه التقارير
الإخبارية، إلا أنها تتقاطع مع التحذيرات الأمنية التي توقعت موجة جديدة من
الانقلابات العسكرية في دول إفريقية.
وقال: "المنطقة هنا أمام احتمال وقوع انقلابات عسكرية مضادة في
الدول الإفريقية لإبعاد الأنظمة العسكرية المرتبطة بروسيا في دول الصحراء والساحل
أو أمام احتمال أن التحذيرات الأمنية هذه جاءت لتعميق نفوذ شركة "فاغنر"
الأمنية في المنطقة، ثم جاء الحدث الثالث المهم جدا، وهو قرار إنشاء الفيلق
الإفريقي ضمن قوة "فاغنر" العاملة الآن في 5 دول إفريقية على الأقل".
ولفت الانتباه إلى أن "الحدث الأبرز والأكثر أهمية ضمن سلسلة
التطورات في المنطقة هو قرار الولايات المتحدة الأمريكية تعزيز وجودها العسكري في
3 دول غرب إفريقية، هي بينين وغانا وكوت ديفوار بمبرر "مكافحة الإرهاب"
ومراقبة نشاطات الجماعات الإرهابية في الصحراء الكبرى وغرب إفريقيا. ففي الأسبوع
الأول من عام 2024 قالت "وول ستريت جورنال" الأمريكية إن الولايات
المتحدة تسعى إلى نشر طائرات عسكرية دون طيار على طول ساحل غرب إفريقيا، وذلك في
إطار جهد عاجل لوقف انتشار تنظيم القاعدة وتنظيم "داعش" في المنطقة. وفي
ذات الوقت أعلنت سفارة الولايات المتحدة الأمريكية في واغادوغو عن زيادة المساعدات
العسكرية الأمريكية الممنوحة لجيش بوركينافاسو وتسليم دفعة مساعدات عسكرية هي
عبارة عن سيارات دفع رباعي ودراجات نارية".
وأكد أن "تزايد النفوذ العسكري الأمريكي في دول غرب إفريقيا مع
وجود تسهيلات عسكرية وقواعد عسكرية أمريكية مؤقتة أو دائمة في 5 دول غرب القارة
الإفريقية لا يرتبط بمكافحة الإرهاب في المنطقة فقط، فالمنطقة تشهد حالة استقرار
أمني نسبي مقارنة مع السنوات الماضية".
وقال: "كل التقارير الصحفية فسرت التطورات الأخيرة في الصحراء
الكبرى والساحل وغرب إفريقيا أنها تحركات من روسيا وأمريكا لملء الفراغ الذي خلفه
الانسحاب الفرنسي من مستعمرات باريس السابقة في إفريقيا، وكذا رغبة الأمريكيين في
تعزيز جهود مكافحة الإرهاب في المنطقة، لكن التحرك الأمريكي يمكن تفسيره بأن صانع
القرار في واشنطن يعمل الآن على "حصار" الوجود الروسي في الصحراء.
فالدول التي تعمل بها شركة "فاغنر" الروسية باستثناء السودان هي دول
"حبيسة" لا تمتلك سواحل وتعتمد في تجارتها الخارجية وحتى في الرحلات
الجوية على دول محيطة بها، لهذا السبب تركز الولايات المتحدة الآن في تعزيز نفوذها
السياسي والعسكري في دول "الطوق" أو الدول البحرية في القارة".
ووفق بن أحمد فإن "هذا قد يفسر تحرك الولايات المتحدة الأمريكية
لإنشاء قواعد لطائرات دون طيار في 3 دول إفريقية مطلة على المحيط الأطلسي،
والتحركات الأمريكية الأخيرة باتجاه ليبيا القريبة من تشاد ووجود قواعد طائرات دون
طيار في المزيد من الدول الإفريقية تعني أيضا أن مهام طائرات الاستطلاع الأمريكية
قد لا تنحصر في مراقبة نشاط الجماعات الإرهابية في المنطقة، بل تشمل أيضا مراقبة
نشاطات وتحركات الروس في الصحراء الكبرى. الاستراتيجية الأمريكية الجديدة في
القارة الإفريقية قد تكون مبنية على أساس مجموعة من الإجراءات، منها تحذير
القيادات الجديدة في الساحل والصحراء من أن وجودها في السلطة غير مضمون دون
"موافقة أمريكية مشروطة"".
وأضاف: "قد يكون التحذير من موجة انقلابات عسكرية جديدة مجرد
إنذار أمريكي أخير للقادة في النيجر وبوركينافاسو ومالي، كما أن وجود طائرات دون
طيار أمريكية في مواقع قريبة سيسمح بمراقبة المنطقة بشكل أكثر دقة وأيضا يبرز هنا
تركيز الولايات المتحدة على الدول الإفريقية المطلة على المحيط الأطلسي والبحر
المتوسط لحصار الروس في الصحراء، وهذا يسمح بقراءة قرار إنشاء الفيلق أو اللواء
الإفريقي التابع لوزارة الدفاع الروسية، الذي يمكنه العمل في أسوأ الظروف الممكنة
ويمكنه ضمان النفوذ الروسي في المنطقة"، وفق تعبيره.
وفي لندن رأى الديبلوماسي الجزائري السابق محمد العربي زيتوت، أن منطقة
غرب القارة الإفريقية تشهد تنافسا محموما بين العديد من القوى الدولية الساعية إلى
تثبيت نفوذها في القارة الإفريقية، وفي الصدارة منها الولايات المتحدة الأمريكية
وروسيا.
وقال زيتوت في تصريحات خاصة لـ
"عربي21": "حدة الصراع
الروسي الأمريكي المتنامي للسيطرة على شمال وغرب القارة الإفريقية في تصاعد مستمر،
لكنه ليس صراعا ثنائيا فحسب، فهناك نفوذ صيني اقتصادي قديم يتعاظم ويتطور، وهناك مساع تركية أيضا لامتلاك نفوذ في القارة السمراء، فضلا عن النفوذ الفرنسي القديم الآخذ
في التلاشي".
وذكر زيتوت أن "النظام الجزائري الذي بدأ يفقد الثقة تدريجيا في
صلابة وقوة العلاقة بالنظام الروسي لم يعد يخفي رغبته في البحث عن غطاء دولي جديد
أكثر قوة وصلابة في مواجهة ليس فقط القوى الكبرى الساعية إلى إعادة رسم خارطة
المنطقة الإفريقية بناء على تأمين مصالحها، وإنما أيضا في مواجهة النظام المغربي
المدعوم إماراتيا وإسرائيليا".
وقال: "النظام الجزائري في طريقه للارتماء مجددا عند الأمريكيين،
خصوصا بعد أن رفض الروس التدخل لصالحهم في مالي، وفشلوا في تأمين منطقة عازلة
بينهم وبين مالي، وبعد جرأة النظام المالي على قتل ثاني أكبر قيادي في التنظيم
العسكري الأزوادي على بعد 500 متر من الحدود الجزائرية".
ووفق زيتوت فإن سياسة النظام الجزائري الإفريقية تبدو مرتبكة وهي في
طريقها للبحث عن حليف بديل لروسيا يمكنها ليس فقط من حماية أمنها الإقليمي، وإنما
في الحصول على السلاح أيضا.
وقال: "علينا أن نتذكر أن النظام الجزائري هو الذي أتى بفاغنر إلى
مالي في أكتوبر 2021 حين ساءت علاقاته بماكرون وبدأ في مضايقة الأزوديين منذ ذلك التاريخ.. الآن أعاد العلاقة مع الأزواد وهو يبحث عن حليف إقليمي خصوصا
بعد أن دخلت تركيا على الخط وبدأت في خطة لبناء قواعد عسكرية في مالي".
وأشار زيتوت إلى أن ما يؤكد خطورة الصراع الدائر في غرب القارة
الإفريقية، هو هذه الزيارات المتتالية لعدد من القادة السياسيين الغربيين، وعلى
رأسهم وزير الخارجية الأمريكي بلينكن، الذي زار المنطقة الأسبوع الماضي بسبب
شعورهم بأن الصين والروس يتعاظم نفوذهم في إفريقيا عبر التجارة والعنف.. وخصوصا في
بوركينافاسو والنيجر ومالي ودول أخرى.
وأضاف: "أمريكا عندها قواعد عسكرية في النيجر مولتها الإمارات
وتستخدمها أيضا، وهي تقع على بعد حوالي 300 كلم من الجزائر.. ولكن دخل الأتراك على
الخط فقد زار نائب وزير الخارجية التركي باماكو.. واتفقوا على بناء قاعدتين لإنشاء
طائرات بدون طيار.. وهناك أنباء عن أن الأتراك أتوا بمئات المرتزقة من المعارضة السورية من جهة الشمال
في مالي، كما لو أنهم يريدون تأسيس ميليشيات شبيهة بفاغنر، التي أتت بدورها بمرتزقة من السوريين الموالين للنظام السوري.. علما أن لتركيا نفوذا قديما في إفريقيا، وهو نفوذ ديني صوفي، وأحيانا اقتصادي".
وتابع: "دخول تركيا على الخط سيجعل النظام الجزائري في حرج
كبير، لأن تركيا أصبحت حليفا منذ وصول الرئيس تبون إلى الرئاسة، فكيف سيتعامل معها.. هذا فضلا عن استقبال وزير
الخارجية الإيراني قبل أسبوع في الجزائر، والحديث عن إمكانية تزويد إيران للجزائر
بالسلاح، كل ذلك يجعل الموقف الجزائري أكثر دقة".
وذكر زيتوت أنه لا يمكن نسيان الدور الإماراتي الإسرائيلي الفاعل في
غرب القارة الإفريقية، وأشار إلى أن "الإمارات التي تسعى لتفكيك دول المنطقة تريد أن تنفذ خيارها الخشن في السودان على الجزائر كما تريد أن تنفذ خيارها الناعم في مصر على المغرب، وبالتالي فهي تحرض على الجزائر حاليا في انتظار أن يأتي دور المغرب"،
وفق تعبيره.