استقبلت الأراضي
الفلسطينية عاما جديدا، بعد أن ودعت عام 2023، الذي يعتبر العام الأكثر دموية في قطاع
غزة والضفة الغربية، التي تحولت الجنازات في مدنها وقراها ومخيماتها، إلى مشهد يكاد يكون يوميا، نتيجة لهجمات الجيش الإسرائيلي والمستوطنين المتزايدة، ما أسفر عن سقوط أكثر من 500 فلسطيني، واعتقال أكثر من 5000 شخص بعد السابع من أكتوبر.
ومع إعلانه حالة الحرب، فرض الجيش الإسرائيلي حصارا عسكريا على المدن والقرى في
الضفة، بإغلاقه مداخلها بالمكعبات الإسمنتية والبوابات الحديدية، مقيدا بذلك حركة الفلسطينيين، على نحو لم تشهده الأراضي الفلسطينية منذ تفجر الانتفاضة الثانية عام 2000، الأمر الذي أثر سلبا على الاقتصاد الفلسطيني الهش، وبخسائر تصل إلى 5 ملايين دولار يوميا، ناهيك عن اقتطاع نحو 140 مليون دولار، من إجمالي العائدات الضريبية الشهرية، البالغة نحو 190 مليون دولار شهريا، بذريعة منع وصول تلك الأموال لحركة حماس في قطاع غزة.
وبينما تنشغل وسائل الإعلام بتغطية أحداث القتال في قطاع غزة، والتدمير المنهجي الذي ترتكبه آلة الحرب الإسرائيلية في القطاع، لم تولِ وسائل الإعلام، خاصة الدولية منها، اهتماما كبيرا بهجمات الجيش الإسرائيلي والمستوطنين، على الفلسطينيين في الضفة الغربية، إلا ما رحم ربي. ومنذ تشكيل بنيامين نتنياهو لحكومته اليمينية المتطرفة في نهاية ديسمبر 2022، ضاعف الإسرائيليون جهودهم لإنشاء مستوطنات جديدة، وطرد الفلسطينيين الذين يعيشون بالقرب منها، وبعد هجوم 7 أكتوبر ازدادت وتيرة هذه العملية على نحو واسع وعنيف.
تهجير الفلسطينيين من الضفة الغربية إلى الأردن، ومن قطاع غزة إلى مصر، عاد للواجهة من جديد بعد الغزو البري الإسرائيلي لقطاع غزة 2023
لقد أستغل المستوطنون هجوم 7 أكتوبر وما تلاه، لتنفيذ هجمات منظمة وحملات تهديدية، ضد الفلسطينيين في الضفة الغربية. وفي اليوم التالي للهجوم على مستوطنات غلاف غزة، نشر المستوطنون منشورات ورقية، وأخرى عبر شبكات التواصل، تتوعد الفلسطينيين بالجحيم إذا لم يرحلوا من الضفة، تضمنت عبارات تذكرهم بنكبة عام 1948، جاء في بعضها «أنتم من بدأتم الحرب لذا فلتستعدوا لمواجهة نكبة جديدة.. ابحثوا عن مكان آخر للعيش.. نحن نمنحكم فرصة الهروب إلى الأردن الآن على نحوٍ منظَّم، لأننا سنُبيدكم ونطردكم بالقوة من أرضنا، لذا يُستحسن أن تحزموا أمتعتكم بسرعة، ولا تنسوا أننا حذرناكم!».
مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا)، أشار في تقرير صدر عنه في ديسمبر 2023، إلى أن «حوادث عنف المستوطنين تضاعفت منذ هجوم السابع من أكتوبر، حيث اعتبر المستوطنون الهجوم فرصة لارتكاب جرائم، طالما كانوا عاقدي العزم على ارتكابها… نحن نتحدث عن أعداد كبيرة من المسلحين العدوانيين، الذين يستغلون الوضع في أوقات الحرب لتعزيز أجندتهم السياسية».
وأضاف تقرير المنظمة الدولية، أن نحو ألف مواطن فلسطيني أجبروا على مغادرة منازلهم في قرى بالضفة الغربية، منذ هجوم المقاومة الفلسطينية المباغت على إسرائيل في 7 أكتوبر، فيما قال تقرير لمنظمة «بتسيلم» الإسرائيلية «إن المستوطنين في الضفة الغربية، يستغلون الحرب على غزة لتهجير الفلسطينيين من ديارهم، بدعم وغطاء من عناصر في الشرطة والجيش الإسرائيلي».
وأشارت مجلة «فورين بوليسي» في تقرير، إلى أنه «في وقت ينصب فيه التركيز العالمي على ما يحدث في قطاع غزة، يستغل المستوطنون الإسرائيليون، المدعومين من الجيش الإسرائيلي، بتكثيف نشاطاتهم، في محاولات لتهجير مجتمعات فلسطينية ضعيفة في الضفة الغربية، في أكبر حملة طرد منذ عقود.
ونقلت المجلة عن درور إيتكس مدير منظمة (كيريم نافوت) الإسرائيلية، التي تراقب أنشطة الاستيطان قوله «إن المستوطنين يستغلون ستار الحرب، من أجل إعادة رسم الخريطة الديموغرافية في الضفة الغربية، والفكرة تكمن في إجبار الفلسطينيين على الخروج من المنطقة (جيم)، ومحاصرتهم في أماكن أخرى في المنطقة (ألف)». وكان بتسلئيل سموتريتش رئيس حزب الصهيونية الدينية المشارك في ائتلاف حكومة نتنياهو، قد وضع خطة عام 2017 سمّاها «خطة التسوية الحاسمة»، ووصفها بأنها ليست ميثاقا دينيا، وإنما وثيقة جيوسياسية واستراتيجية «واقعية»، لإنهاء الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي عن طريق الاستيطان.
والخطوط العريضة لهذه الخطة: الدعوة إلى إنشاء مدن ومستوطنات إسرائيلية جديدة في الأراضي الفلسطينية، واستقطاب مئات الآلاف من المستوطنين اليهود للسكن فيها.. وتشير خطته إلى أنه ليس أمام الفلسطينيين سوى خيارين: إما العيش بوصفهم سكانا داخل دولة يهودية، لا يتمتعون بأي حقوق سياسية، وإما الهجرة إلى إحدى الدول العربية، أو لأي وجهة أخرى في العالم، بحصول من يريد الهجرة طوعا على حوافز مالية.. إلا أنه يمكن قراءة التهديد بين سطور خطة سموتريتش، بالتدخل العسكري لفرضها على الذين لا يختارون أحد الخيارين، أو بمعنى آخر، فإن خطته أقرب إلى ما تكون دعوة لتنفيذ عمليات
تهجير وتطهير عِرقي للفلسطينيين في الضفة الغربية.
تهجير الفلسطينيين من الضفة الغربية إلى الأردن، ومن قطاع غزة إلى مصر، عاد للواجهة من جديد بعد الغزو البري الإسرائيلي لقطاع غزة 2023، حيث أجبرت آلة الدمار العسكرية الإسرائيلية البرية والجوية والبحرية، مئات آلاف الفلسطينيين من شماله ووسطه، إلى النزوح إلى جنوبه، تمهيدا لإجبارهم للنزوح في هجرة جديدة إلى شمال سيناء، كما أشارت لذلك تصريحات أكثر من مسؤول سياسي وعسكري إسرائيلي، مستدلين بالنموذج السوري للتهجير، لتركيا ولمناطق في شمال سوريا والأردن، وطالبوا مصر بتوطينهم في سيناء، كما طالبوا المجتمع الدولي ودول عربية بتمويل هذا التوطين، وعلى الفور أعلنت مصر عن رفضها للمشروع، وشددت من إجراءات الدخول إلى أراضيها عبر معبر رفح.
ولإدراكه أن إسرائيل تحاول تهجير فلسطينيي قطاع غزة اليوم، فإنها ستحاول تهجير الفلسطينيين من الضفة الغربية في الغد، أعلن الأردن على لسان رئيس وزرائه بشر الخصاونة، «أن التهجير من الضفة الغربية خط أحمر بالنسبة للأردن، ويعد إخلالا جوهريا بمعاهدة السلام الموقعه بين إسرائيل والأردن، التي تنص على ضرورة التحصين من أي تحركات قسرية للسكان بأي اتجاه من الاتجاهات، وإذا تم ذلك، فإنه يشكل تصفية للقضية الفلسطينية، وتهديدا للأمن القومي الأردني وإعلان الحرب على الأردن».
إن فكرة تهجير الفلسطينيين من الضفة الغربية، مرتبطة بفكرة الوطن البديل في الأردن، التي لا تزال تعشش في عقول وأذهان الكثير من السياسيين الإسرائيليين، على اختلاف انتماءاتهم الحزبية. وكانت فكرة الوطن البديل قد طرحها آرييل شارون ويغئال آلون في سبعينيات القرن الماضي، كما يتضمنها البرنامج السياسي لحزب (حيروت) اليميني المتطرف، الذي خرج من رحمه حزب الليكود الحالي، الذي يترأسه بنيامين نتنياهو اليوم.
هل هدف إسرائيل من شن هجماتها على مدن وقرى ومخيمات الضفة الغربية، هو للتضيق على الفلسطينيين فيها معيشيا، لجعل حياتهم مستحيلة؟ وهل تسعى إسرائيل بذلك لدفعهم لتفجيرهم انتفاضة ثالثة، التي تتوفر كل عوامل تفجرها، لتكون مبررا لها لبطش دموي، كما في قطاع غزة لتنفيذ خططها لطردهم من فلسطين بالقوة