بعد سلسلة من الجلسات المستعجلة، أعلنت
إسرائيل أنّها تنوي المثول أمام جلسة محكمة العدل الدولية في
لاهاي – هولندا، التي ستعقد الخميس المقبل للنظر في دعوى جنوب افريقيا، التي تتهم فيها الدولة الصهيونية بارتكاب جريمة «إبادة شعب»، وتطلب من خلالها اتخاذ قرار مرحلي فوري لوقف الحرب، وهو قرار ملزم يقع ضمن صلاحيات المحكمة وحدها، ولا يتطلّب بحثا ومصادقة في هيئات الأمم المتحدة، كما هي القرارات الاستشارية العادية.
ويستدل من مجمل التصريحات والبيانات والرسائل والاجتماعات الرسمية، ومن التحليلات المهنية، ومن التقارير والأخبار الصحافية أن القيادة الإسرائيلية مهمومة جدّا، ولم يسبق أن ساورها مثل هذا القلق من دعوى قدمت ضدها في المحاكم الدولية.
وبعد أن درجت الدولة الصهيونية على مقاطعة جلسات لجان التحقيق والمحاكم الدولية، وعلى الإعلان سلفا أنّ قرارتها غير ملزمة، تبدو هذه المرّة أنها تخشاها فعلا، ولم تحسم بعد ماذا تفعل إذا اتخذت المحكمة قرارا بوقف الحرب.
الأمر المؤكّد هو أنها تدرك حجم الضرر الذي سيلحق بها إن هي خسرت المعركة في لاهاي، وعليه تحضر نفسها لهذه المواجهة، وقد يشمل ذلك بيانات رسمية للتخفيف من وطأة التصريحات السابقة، وتغييرات في العمل الميداني، للادعاء بأنه لم تعد هناك حاجة لإصدار حكم بوقف الحرب، عبر جرجرة مداولات المحكمة لأسابيع، واستكمال العمليات العسكرية وصولا إلى نقطة الانتقال إلى مرحلة الحرب الثالثة، والادعاء بأن العمليات العسكرية صارت محددة ومحصورة، وهي لا تستدعي تدخل المحكمة بعد تحصيل الحاصل.
إسرائيل تدرك حجم الضرر الذي سيلحق بها إن هي خسرت المعركة في لاهاي، وعليه تحضر نفسها عبر جرجرة مداولات المحكمة لأسابيع، لاستكمال العمليات العسكرية
الدعوى والتهم
قدمت جنوب أفريقيا، الجمعة الماضي، دعوى مفصّلة (84 صفحة) إلى محكمة العدل الدولية، تطلب فيها التحقيق في جرائم إسرائيل في حربها على
غزة، ومقاضاتها بتهم ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية وبتنفيذ أعمال متواصلة تفي بمعايير «إبادة شعب»، كما نصّت عليها المعاهدة الدولية لمحاربة جرائم «الجينوسايد»، التي أقرت عام 1948، ووقّعت عليها إسرائيل سنة 1951، وكذلك، تتهم الدعوى إسرائيل باستخدام عشوائي للقوة العسكرية وبالقيام بالإبعاد القسري للسكان. ومع أن مداولات المحكمة لاتخاذ قرار نهائي، قد تستغرق سنوات، فإن جنوب افريقيا طلبت من المحكمة ممارسة صلاحيتها بإصدار أمر قضائي وقائي مؤقت ومستعجل وملزم بوقف فوري لحرب الإبادة الجماعية، لحماية
الفلسطينيين من مزيد من الأضرار التي لا يمكن إصلاحها. وطلبت كذلك أن تأمر المحكمة إسرائيل بالسماح للفلسطينيين الذين هجّروا بالعودة إلى منازلهم، وبالتوقّف عن حرمانهم من الغذاء والماء والطاقة والمساعدات الإنسانية، وبمنع التحريض على الإبادة الجماعية وبمعاقبة المحرّضين عليها، وكذلك بالقبول بإجراء تحقيق مستقل عن مجريات الحرب. ودعت جنوب افريقيا المحكمة إلى اتخاذ تدابير لضمان «التزام إسرائيل بتعهداتها بموجب اتفاقية الإبادة الجماعية بعدم التورّط في الإبادة الجماعية، وبمنعها وبالمعاقبة عليها». الدعوى المقدمة من جنوب افريقيا بالذات مهمة لسببين: الأول هو السطوة الأخلاقية لها كدولة قامت على مبدأ العدالة، والثاني، لأن فيها قدرات في القانون الدولي قل مثيلها في العالم، وفيها مختصون عملوا في المحاكم الدولية. ومن يراجع الدعوى التي قدمتها، يرى كم هي متماسكة منطقيا، وواضحة ومدعومة بأدلة دامغة. وهذا الجمع بين الموقف الأخلاقي الحازم والمستوى المهني الرفيع، جعل إسرائيل قلقة ومرتابة، وهذا بحد ذاته دليل على جدّية الدعوى.
إسرائيل تدافع عن جرائمها
لا تستطيع إسرائيل، كما فعلت سابقا في حالات مشابهة، مقاطعة وتجاهل محكمة العدل الدولية، التي تستمد صلاحيتها من معاهدة انضمت إليها. ولا يمكنها مواجهتها بالادعاءات البالية مثل افتقارها للصلاحية أو بأنّها منحازة سياسيا، خاصة أن المحكمة تتمتع بمكانة دولية وازنة. وتأخذ إسرائيل على محمل الجد «خطر» اتخاذ قرار احترازي ملزم بوقف الحرب محمّلا بثقل تهمة «الإبادة الجماعية». وتخشى الدولة الصهيونية من تبعات مثل هذا القرار على مكانتها الدولية وعلى روايتها، ومن إمكانية أن يدفع باتجاه عزلها وجعلها دولة منبوذة. وفي محاولة لمنع إصدار حكم ضدها، بدأت الدولة الصهيونية ترسم خطوات لحماية جرائمها من العدالة الدولية، وضمن ما تخططه:
أولا: البحث عن شخصية قضائية لها وزنها لضمها كقاض إضافي إلى المحكمة، المكوّنة من 15 قاضيا. ويسمح نظام المحكمة بذلك، كما يحق لجنوب أفريقيا أن تضيف قاضيا من طرفها.
ويميل رئيس الوزراء الإسرائيلي إلى تعيين صديقه المحامي الأمريكي المعروف إلين درشوفيتس، ما أثار معارضة في الطواقم القضائية، التي تذمّرت باعتبار أنه لا يعقل «توكيل محام أجنبي للدفاع عن الدولة في محكمة دولية».
ثانيا: بدأ نتنياهو بالاتصال برؤساء دول لتوجيه رسائل إلى المحكمة تساند الموقف الإسرائيلي. وقد قرر هو شخصيا ألا يحضر جلسات المحكمة لكنّه سيوجه لها رسالة باسمه.
ثالثا، تنوي إسرائيل استغلال «مكانة» المحكمة العليا الإسرائيلية، خاصة بعد استصدارها قرارا بإلغاء قانون «إبطال حجة المعقولية»، بادعاء أن القضاء «المستقل» في الدولة الصهيونية، قادر على التعامل بـ»نزاهة» مع أي خرق للقانون الدولي خلال الحرب. وقد عبّرت بعض النخب الإسرائيلية عن فرحتها بفشل مشروع تغيير القضاء، وبقرار المحكمة الأخير لأن ذلك يساهم في حماية إسرائيل دوليا.
رابعا: بدأت بعض الدوائر في المؤسسة الإسرائيلية بإطلاق تهديدات بالتوجه لمحكمة العدل الدولية ضد جنوب افريقيا بادعاء أنها تدعم حماس «التي ينص برنامجها على إبادة إسرائيل، والتي اقترفت جرائم حرب في السابع من أكتوبر، وحاولت ارتكاب جرائم إبادة جماعية». إسرائيل تعرف جيدا أن لا فرصة للنجاح في مثل هذه الدعوى، لكنّها تعتقد أن مجرد إطلاق التهديد يردع دولا أخرى.
خامسا: جاء في تصريحات وبيانات القيادة الإسرائيلية أن الدعوى هي «فرية دموية» لا سامية المنشأ. وهذه محاولة مفضوحة لهز شرعية الدعوى والمداولات في المحكمة، وربما لتمهيد الطريق لاحقا للانسحاب من الجلسات، إذا احست إسرائيل أنها ستخسر، وعندها ستقول بأنها لن تشارك في مقاضاة منحازة ومعادية لليهود.
ادعاءات إسرائيل
جرت في الأسبوع المنصرم اجتماعات عمل كثيرة لتحضير الرد الإسرائيلي في محكمة العدل الدولية، شارك فيها مسؤولون ومختصون قضائيون من وزارة الخارجية ووزارة القضاء والجيش ومجلس الأمن القومي، وبدأ البحث عن «أفضل» المحامين للدفاع عن الدولة الصهيونية في وجه العدالة. وتتلخص الادعاءات الإسرائيلية، التي جرى تداولها علنا حتى الآن، بما يلي:
أولا: ادعاء الدفاع عن النفس، وتقوم إسرائيل بالتأكيد عليه لأنه مقبول دوليا من حيث المبدأ، ولأنه حظي بدعم أمريكي وأوروبي، ولكنها تتجاهل أن قرار محكمة العدل الدولية ذاتها عام 2004، بشأن جدار الفصل العنصري، أكّد في حينه على أن ليس لسلطة الاحتلال حق الدفاع عن النفس.
ثانيا: ادعاء الدرع الواقي، وهو كذبة تكررها إسرائيل ليل نهار، وهو مناقض للقانون الدولي، الذي لا يسمح بالمس بالمدنيين حتى لو كان بينهم مسلحون، إلّا في حالة التعرض لخطر أكيد وقريب ومباشر، ضمن تقييدات لا تجيز ما قامت به اسرائيل بأي حال. من المهم الإشارة إلى أن الجيش الإسرائيلي استعد سلفا للمحكمة، وقام بتجهيز «إجازة» قضائية بتوقيع محام، قبل كل قصف أو عملية عسكرية، بالادعاء (الكاذب طبعا) بأن الهدف هو المسلحون وليسوا المدنيين.
ثالثا: ادعاء مسؤولية حماس عن كل ما عانى منه أهل غزة من قتل ودمار وترحيل، لأنها ـ وفق ما تقوله إسرائيل- تحتمي بالمدنيين وتقوم بـ»سرقة المعونات الإنسانية»، وهناك أجوبة شافية مسبقة على هذا التزوير في الدعوى التي قدمتها جنوب أفريقيا.
رابعا: عدم استكمال الإجراءات من قبل جنوب أفريقيا، لأنها «لم تتوجه إلى إسرائيل» بشأن الإبادة الجماعية، وبالتالي لم يحصل الخلاف اللازم للتوجه للمحكمة. وتكفي الإشارة هنا إلى أن جنوب افريقيا توجهت مع دول أخرى إلى المحكمة الجنائية الدولية بطلب التحقيق في جرائم الحرب الإسرائيلية وهي سحبت كل ممثليها الدبلوماسيين من إسرائيل، ولم تتوقف عن المطالبة بوقف حرب المجازر والإبادة الجماعية.
خامسا: الادعاء بأن تصريحات المسؤولين الإسرائيليين لا تدل على النية. والأقوال التي تستند إليها دعوى جنوب افريقيا لإثبات تهمة التحريض على الإبادة الجماعية وتوفّر النية لارتكابها، لا تدل – وفق ما تقوله إسرائيل- على نية بارتكاب جريمة الإبادة الجماعية وقيلت «بعيدا» عن مراكز اتخاذ القرار الملزم في الحرب، ولم يكن لها تأثير يذكر.
ويخيف هذا الموضوع إسرائيل كثيرا، وحذر مسؤولون من المستوى القضائي المهني من أن «الحديث عن محو وتسطيح غزة، الذي طلع به سياسيون غير مسؤولين لم يواجه بردود قوية من الأطراف الرسمية، وهذ يجبر إسرائيل على إعطاء تفسيرات». كما سطّرت شخصيات مهمة، وبينها ثلاثة سفراء سابقين، رسالة إلى المستشارة القضائية حملت تحذيرا بأن «عدم اتخاذ إجراءات ضد تصريحات المحو والتدمير الشامل، يدعم القناعة في العالم بأن إسرائيل ترتكب جرائم الإبادة الجماعية».
سادسا، ادعاء «أين العرب؟»، وقد بدأت الأبواق الإسرائيلية بترويج الادعاء بأن دليل عدم جدية دعوى جنوب افريقيا هو أن الدول العربية، ولا حتى السلطة الفلسطينية، لم تنضم للدعوى. ما يشير، برأي إسرائيل، إلى أن الأمور ليست كما تصفها جنوب افريقيا، وإلّا لشاركها العرب رسميا في دعواها.
لقد فتحت جنوب افريقيا جبهة جديدة ضد الجريمة والعدوان، وحشرت إسرائيل في الزاوية، كما حصل مع بورما (ميانمار)، حين أصدرت محكمة العدل الدولية، عام 2020، قرارا بوقف حرب الإبادة ضد الروهينغا، ما عرض المجرمين للعزل والحصار. في كل الأحوال، دخلت إسرائيل مأزقا في مواجهة معركة غزة في لاهاي.