يبدو أن حساب حقل حرب
إسرائيل على قطاع
غزة ليس كحساب بيادرالمعارك فيه، فبعد أكثر من 150 يوما من الحرب، لم تحقق إسرائيل هدفها بسحق حماس عسكريا. ومن الواضح أن الحرب على القطاع تتجه إلى حرب استنزاف باستخدام المقاومة تكتيكات حرب العصابات في مواجهة الجيش الإسرائيلي بمدرعاته الثقيلة في مناطق مأهولة، مما يُصعِبُ حركته ويتسبب بتزايد عدد قتلاه. وتكتيك حرب العصابات هذا يعتمد على شن هجمات من قبل خلايا مكونه من اثنين إلى خمسة مقاتلين، ونصب الكمائن واستخدام القناصة، مع تجنب المواجهة المباشرة مع قوات الغزو الإسرائيلي قدر الإمكان.
عسكريا فإن حرب الاستنزاف هي سعي أحد أطراف المواجهه إلى تقويض القوة العسكرية لخصمه، باستنزافِ قدراته وتكبيده خسائر مادية كبيرة، وتدميرِ معنويات جنوده بجرهم إلى دائرة مفرغة من المواجهات المتقطعة. وتعتبر حرب الاستنزاف مقياسا لرصد قدرة طرفي الصراع على تحمل مواجهة غير محسومة تمتد لفترة طويلة، من دون آفاق واضحة للنصر، أو الهزيمة، كما يكون هدفها أحيانا، المحافظة على قدر من عدم الاستقرار في ساحات المعارك، بما يسمح برص الصفوف استعدادا لجولة جديدة من الحرب، أو لحرمان العدو من تحقيق نصر عسكري من خلال إطالة أمد المواجهة.
وبالمذابح التي ترتكبها إسرائيل في قطاع غزة، وتدميرها للعمران فيه، وتهجيرها لمئات الآلاف من الغزيين من مناطق سكناهم، ناهيك عن الكوارث الصحية والمجاعة التي أصابتهم، يمكن القول إن نتنياهو حقق نصره المطلق على المدنيين العزل، إلا أنه من الناحية العسكرية لم يزل بعيدا عن تحقيق أي نصر على المقاومة، بشهادة الكثير من القادة العسكريين الإسرائيليين السابقين، مثل الجنرال احتياط في الجيش الإسرائيلي يسرائيل زئيف بقوله للقناة 12 العبرية، "إما إن الضغط العسكري على حماس ليس كافياً، أو أن تقارير الجيش عن نجاحاته مبالغ بها". وكما صور أكثر من مسؤول سياسي وعسكري إسرائيلي الحرب التي تشنها إسرائيل 2023-2024 على أنها حرب الاستقلال الثانية، فإنها بالنسبة لحماس هي حرب وجود كذلك، ولهذا فهي تخوض حرب عصابات لاستنزاف قدرات الجيش الإسرائيلي، من خلال عدم زج كامل قواتها في المعارك في القطاع، خاصة في الأراضي المفتوحة، التي تتمكن الآليات الإسرائيلية المدرعة فيها من المناورة بسهوله، فلجأت حماس لأسلوب حرب العصابات في القتال، لكسب الوقت واستنزاف القوات الإسرائيلية، ويترافق هذا مع ضرب خطوط قوات
الاحتلال الخلفية عن طريق الأنفاق.
وبالارتكاز على مبدأ "نربح إذا لم نخسر"، فإن حماس تعمل على إطالة أمد القتال، باعتمادها تكتيك حرب العصابات، لاستنزاف قدرة جيش الاحتلال الذي يميل ميزان القوى لصالحه، باستدراجه داخل مدينة غزة وإجباره على القتال من شارع لآخر، ومن بيت لبيت، وينطلق مقاتلوها من الأنفاق وينسحبون إليها لمنع القوات الإسرائيلية من تحديد الأهداف ذات القيمة الاستراتيجية، من خلال التحولات والتبدلات السريعة في ميادين المعارك، ما يؤدي إلى خلط الأوراق الاستخباراتية الإسرائيلية.
العديد من المسؤولين العسكريين والسياسيين الإسرائيليين أعلنوا أنهم سيواصلون الحرب على غزة حتى تحقيق الهدف بالقضاء على حماس عسكريا، وعلى سلطتها السياسية في قطاع غزة، ما يعني أن حرب الاستنزاف هي أحد السيناريوهات الواردة في حسابات القيادة العسكرية والسياسية الإسرائيلية. ولكن هل بإمكان إسرائيل خوض حرب استنزاف طويلة الأمد، من دون دفع أثمان باهظة في مواردها الاقتصادية والبشرية وعلاقاتها الدولية؟ ومن المؤكد أنه في حالة حرب استنزاف طويلة الأمد، ومع تفاقم فاتورة الحرب اليومية، فإن الاقتصاد الإسرائيلي سيواصل تكبد خسائر فادحة في القطاعات السياحية والصناعية والخدمية، ويترافق ذلك مع هروب العمالة الأجنبية، كما أن المستثمرين يتخوفون من ضخ أموال في أسواق دولة تخوض حربا على عدة جبهات. وفضلا عن ذلك فإن القطاع الخاص في حالة إطالة أمد الحرب سيتعرض لهزة وشلل، نتيجة لاستدعاء قوات الاحتياط من فئات عمرية تشكل العمود الفقري لسوق العمل الإسرائيلي. وحسب تقديرات محافظ بنك إسرائيل أمير يارون، فإن خسائر الاقتصاد المتوقعة خلال 2024 ستصل لنحو 10% من الناتج المحلي الإجمالي الإسرائيلي، وهو ما يعادل 52 مليار دولار، وذلك بالاستناد إلى افتراضين الأول، إذا استمرت الحرب حتى نهاية 2024. والثاني، أن تكون معظم العمليات العسكرية على جبهة غزة فقط دون فتح جبهات أخرى. ويتوقع البنك أن الناتج المحلي الإجمالي سينمو بنسبة 2 في المئة في 2024 وبنسبة 5 في المئة في عام 2025. إن تحول الحرب في غزة لحرب استنزاف يطول أمدها يلحق الضرر بالولايات المتحدة على صعيد سياستها الخارجية، وفي الداخل الأمريكي، خاصة أن أيا من أهداف إسرائيل لم يتحقق في حربها على غزة، وعلى الرغم من دعم إدارة بايدن العسكري والدبلوماسي والمادي لها، فإن إسرائيل لم تأخذ بنصائح أو طلبات بايدن المتعلقة بإدارة الحرب، التي يبدو أنها تتجه إلى حرب استنزاف طالت أم قصرت، ما عرّضه ويعرّضه لضغوط من الخارج والداخل. وما يزيد الطين بِلّه بالنسبة لأمريكا الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل بحق
الفلسطينيين بأسلحة أمريكية، والدمار الشامل الذي ألحقته وتلحقه في القطاع، بحيث أصبح مكانا لا يصلح للعيش، كل هذا يجري تحت سمع وبصر العالم.
إن تحول الحرب في قطاع غزة إلى حرب استنزاف، له تداعيات سلبية على مصالح الولايات المتحدة في العالم وتحديدا في الشرق الأوسط،، بل كانت لها تداعيات في الداخل الأمريكي خلال الخمسة أشهر الماضية، حيث ارتفعت وتيرة الانتقادات لسياسة الإدارة الأمريكية، ليس فقط في دوائر الحزب الديمقراطي من التيار التقدمي، بل حتى في أوساط وزارة الخارجية الأمريكية أيضاً، حسب مجلة "فورين بوليسي" التي أفادت بأن العديد من الدبلوماسيين الأمريكيين يعربون في أحاديثهم الخاصة عن شعورهم بالغضب والصدمة واليأس، بسبب التأييد الأمريكي الأعمى لإسرائيل. ورغم انتصار بايدن في الانتخابات التمهيدية للحزب الديمقراطي في ولاية ميشغان ذات الأغلبية العربية والإسلامية، إلا أنه كان انتصارا بطعم الهزيمة، بعد أن خسر أكثر من 100 ألف ناخب فيها صوتوا بـ"غير ملتزم" على خلفية دعمه الكامل لحرب إسرائيل على قطاع غزة، ولرفضه الضغط على إسرائيل لوقف إطلاق النار فيه. وبعد أقل من عام على موعد الانتخابات الرئاسية، تبدو فرص بايدن لانتخابه لفترة رئاسية ثانية تتضاءل أمام دونالد ترامب، بسبب تخبط وتناقض إدارته بين دعمها اللامحدود لإسرائيل بما فيها استخدام الفيتو في مجلس الأمن لإحباط مشاريع قرارات تدعو لوقف إطلاق النار، ودعوتها لاحقا لوقف لإطلاق النار وعدم شن هجوم على رفح قبل إجلاء مئات آلاف النازحين الفلسطينيين من منطقتها، وكذلك محاولة إظهار"إنسانيتها" بإنزالها مساعدات غذائية على مناطق في قطاع غزة جوا.
القدس العربي