"يَعْتَقِدُوْنَ أَنَّنَا إِذَا صَمَتْنَا لَنْ تَكُوْنَ هُنَاكَ
مُشْكِلَةٌ، وَلَكِنْ.. إِذَا صَمَتْنَا فَلَنْ يَبْقَىْ التَّارِيْخُ صَامِتَاً،
وَحَتَّى لَوْ صَمَتَ التَّارِيْخُ فَإِنّ الحَقِيْقَةَ لَنْ تَبْقَىْ صَامِتَةً..
يَعْتَقِدُوْنَ أَنَّهُمْ إِذَا تَخَلَّصُوْا مِنَّا فَلَنْ تَكُوْنَ هُنَاكَ
مُشْكِلَةٌ، وَلَكِنْ.. إِذَا تَخَلَّصْتُمْ مِنَّا فَهَلْ سَتَتَخَلَّصُوْنَ مِنْ
عَذَابِ الضَّمِيْرِ؟! وَإِنْ تَخَلَّصْتُمْ مِنْ عَذَابِ الضَّمِيْرِ فَهَلْ
سَتَتَخَلَّصُوْنَ مِنْ عَذَابِ التَّارِيْخِ؟! وَإِنْ نَجَوْتُمْ مِنْ عَذَابِ
التَّارِيْخِ، فَكَيْفَ سَتَهْرُبُوْنَ مِنْ عَذَابِ اللهِ؟!"
كانت هذه هي آخر كلمات الرجل الكبير حسن بيتماز، نائب حزب السعادة
التركي، وهو يخاطب الأمّة التركية من فوق منبر برلمانها، قبل أن يسقط، رحمه الله
تعالى، متأثراً بما يحدث في
فلسطين من قتل ودمار وجثث وأشلاء، وسط صمت حكومات
العالم أو تواطؤها، ومن بينها الحكومة التركية التي تكتفي أحزابها الحاكمة بتنظيم
الاعتصامات وإعلان دعوات المقاطعة لمطاعم كنتاكي ومحلات ستاربكس، فيما بواخر
زعمائها وسفن أبنائهم تمخر العباب جيئة وذهاباً إلى "إسرائيل"! كما قال.
لقد بلغ جنون العدوان مداه، ووحشية الجرائم منتهاها، وحجم التآمر
ومستوى الصّمت المريب حدّاً لا يطاق، ولم يكن أمام الرجل الذي يرى أمّته العظيمة
عاجزة عن قطع العلاقات مع الكيان الغاصب، أو طرد سفير القتلة، أو إيقاف تصدير
البضائع إلى جنود الاحتلال، مع رفض مجلس النّواب طلباً من كتلته
البرلمانية بزيارة
وفد برلماني إلى غزة، إلا أن يقول كلمته، بكلّ ما يمكن أن تحمله هذه الكلمة من صدق
ووفاء، وصفع وإباء.
كان ذلك الرجل الذي يعيش لفكرة تحيا به ويحيا بها، رجل لم يسكت قلبه عن النبض حباً بفلسطين وهتافاً لها، حتى رحل وهو يعلن الولاء لفلسطين وأهلها، والبراء ممّن خذلها ولم يخذّل عنها
قالها، مختزناً بها كلّ مآسي أهل غزة وآهات السّنين، وكلّ تفاصيل
الفكر والدّعوة، وخلاصات المؤتمرات والمخيمات وفعاليات الصّادقين، لتكون آخر
أنفاسه في هذه الحياة، الفكرة التي طالما نبض بها قلبه ونطق بها لسانه، فألقى
كلمته، كاملة دون نقصان، واضحة دون أيّ غموض أو لبس، ليموت، رحمه الله، على ما عاش
عليه، ويلفظ أنفاسه بما أمدّه بالحياة طوال حياته، فكان ذلك الرجل الذي يعيش لفكرة
تحيا به ويحيا بها، رجل لم يسكت قلبه عن النبض حباً بفلسطين وهتافاً لها، حتى رحل
وهو يعلن الولاء لفلسطين وأهلها، والبراء ممّن خذلها ولم يخذّل عنها، رافعاً صوته
بكلّ ثقة وكبرياء وعنفوان، حتى لكأنّي به في واحدة من تلك التجمّعات المليونية
التي كان يقف فيها خطيباً أو مترجماً في ميادين يني كابي أو تقسيم ومئات الألوف
تردّد خلفه:
Filistin ve Türkiye kardeştir فكان موته شهادة حيّة عن صدق حياته وما
عاش له:
Canlarımız Filistin'e feda
لا أذكر أني التقيته يوماً إلا وفلسطين هي الحاضر الأكبر بيننا، فمنذ
عام 1996، حين كنّا نلتقي، مع الأستاذ المجاهد نجم الدين أربكان رحمه الله تعالى
أو من دونه، في مؤتمر عامّ أو مناسبة خاصّة، كانت البوصلة الهادية لتلك اللقاءات
كلّها همّ الأمّة ووحدتها، والعالم الجديد وبناؤه، وكان القاسم المشترك بينها
جميعاً الصهيونية العالمية ومكرها، وفلسطين الحبيبة وألم احتلالها.
وإنّي لأشهد
أنّ الرجل بقي ثابتاً على الحقّ الذي آمن به، لم يغير ولم يبدّل، فما بين لقائنا
الأول في تموز عام 1996 في أحد مقرّات حزب الرفاه بمدينة إسطنبول، ولقائنا الأخير
في جلسة برلمانية لكتلة حزب السعادة في إحدى قاعات البرلمان التركي بمدينة أنقرة
في شهر تشرين الثاني عام 2023 كان الخطاب نفسه والمضمون ذاته.
في اللقاء الأول دعا الشيخ يوسف القرضاوي رحمه الله تعالى ممثّلين
لمنظمات طلابية عربية وإسلامية إلى الانتصار لفلسطين التي تعاني من مؤامرات
الأعداء وتآمر الإخوة والأصدقاء، وفي اللقاء الأخير تحدّث رئيس الوزراء التركي
السابق داوود أوغلو عن فلسطين التي يقصفها العدو الصهيوني بكلّ أنواع الحقد
والبارود والنار، وواجب نصرتها والدفاع عن المستضعفين فيها. وما بين اللقاءين حياة
طويلة كنّا نتواصل فيها عبر الهاتف، أو نلتقي في اجتماعات متنوّعة على مائدة
فلسطين ومعاناة أهلها، والأمل الحادي بذلك الجيش الذي نراه في الأفق القريب قادماً
لتحريرها.
التقينا في بورصة عام 2005 تحت مظلّة اتحاد المنظمات الطلابية ورعاية
الأستاذ مصطفى الطحان رحمه الله تعالى، لتأسيس المنتدى الشبابي الدولي (آيفو)
بحضور قيادت شبابية يمثّلون خمس حركات إسلامية عالمية هي حركة الإخوان المسلمين،
وحزب الرفاه التركي أو حركة المللي غورش Millî Görüş، والجماعة الإسلامية في باكستان، والحزب
الإسلامي الماليزي، والجماعة الإسلامية في أندونيسيا.
يومها تحدّث الأستاذ المجاهد نجم الدين أربكان رحمه الله تعالى عن
الصهيونية العالمية التي تشكّل أكبر تحدّيات العالم الجديد والنّظام العادل الذي
ينبغي أن يسود ليعلي قيمة السلام بدلاً من الحرب، والحوار بدلاً من الصراع،
والعدالة بدلاً من المعايير المزدوجة، والتعاون بدلاً من الاستغلال، والمساواة بدل
الاستعلاء، وحقوق الإنسان بدل القمع والهيمنة، وكان حسن بيتماز ذلك الشاب الذي
يتّقد حركة وحيوية، ونشاطاً لا يهدأ وحماساً لا يفتر، وهو يدعو شباب الأمّة إلى
تجسيد هذه الأفكار في حمل الهمّ، والتقدّم لإنقاذ العالم وإحياء المجد التليد.
توالت لقاءاتنا في ظلّ المنتدى الشبابي الدولي IYFO، ومركز البحوث الاقتصادية والاجتماعية ESAM، واحتفالات الفاتح في
إستانبول، ثمّ لقاءات الاتحاد العالمي للمنظمات الطلابية الإسلامية (إيفسو) في
إستانبول وجاكرتا والخرطوم ولبنان، وصولاً إلى لقاءات أنقرة في منزله كما في مركز
حزب السعادة، وموضوع هذه اللقاءات كلّها أهمية التنسيق بين مكوّنات الحركة الإسلامية
العالمية من أجل نهضة الأمّة الواحدة، واسترداد فلسطين السليبة، والقدس المحتلة،
ومسجدها الأسير.
لا أستطيع أن أتحدث عن الرجل الكبير حسن بيتماز دون استحضار صورة
أستاذه نجم الدين أربكان الذي غرس حب فلسطين في جيل رأى في القدس قبلة، وفي المسجد
الأقصى أملاً، وفي العمل لفلسطين سعياً على طريق إحياء أمجاد العثمانيين. ولا غرو
فأربكان هو الذي تقصّد أن يخاطب الصهيونية العالمية عام 1997 من قاعة المؤتمرات
التي عقدوا فيها مؤتمرهم الأول قبل مائة عام في مدينة بازل بسويسرا، ليقول لهم:
"لقد حاولتم أن تقضوا على الإسلام فلم تنجحوا ولن تنجحوا"، ومعه صورة
سيد قطب رحمه الله تعالى وهو يقول: "كلماتنا عرائس من الشمع، حتى إذا متنا في
سبيلها دبت فيها الروح وكتبت لها الحياة". وهكذا كان حسن بيتماز رحمه الله في
حبه لفلسطين ومحاربته للصهيونية، رجلاً يعيش كلماته ويحياها، ويموت من أجلها ويقضي
في سبليها، فهل تبعث كلماته فينا الحياة، وهو شهيد فلسطين بالموقف والكلمة، كما
نأمل أن يبعث شهداء غزة في أرضها الحرية والحياة، وهم شهداء النار والرصاص.