تعد صناعة "
الإرهاب"
في عصر العولمة أحد أهم المنتجات الصهيونية التي شكلت بنية النظام العالمي منذ
نهاية الحرب الباردة وحلول عصر الأحادية القطبية الأمريكية، حيث اختُرع مفهوم "الإرهاب"
لمواجهة أي مقاومة تقف في طريق الهيمنة الإمبريالية الأمريكية والسيطرة
الاستعمارية الصهيونية، وأصبح "الإرهاب" مصطلحا يكافئ "الإسلام"
كعدو يمثل البريرية والهمجية والرجعية في مواجهة الحضارة الغربية وعقيدة التقدم الرأسمالية
الليبرالية.
وعقب هجمات
الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر غدت سياسة الحرب على الإرهاب قيمة مشتركة بين
الإمبريالية الأمريكية والاستعمارية
الإسرائيلية وتبنتها الأنظمة الاستبدادية
العربية. ومن المفارقة أن الولايات المتحدة الأمريكية والمستعمرة الاستيطانية الإسرائيلة تستندان فعلا على قيم مشتركة تقوم على الإمبريالية والكولونيالية وفكرة الاستعمار
الاستيطاني ونهجه القائم على الإرهاب والإبادة والتطهير العرقي، فقد قامت
المستعمرة الاستيطانية الصهيونية في
فلسطين على أسس إرهابوية عنيفة، حيث انخرط الصهاينة
اليهود بتشكيل عصابات منظمة، مارست كافة أشكال الإرهاب وارتكبت شتى أصناف الإبادة
الجماعية ونفذت عمليات قتل ممنهج واقترفت جرائم تطهير عرقي بحق الشعب الفلسطيني،
وإذا كان اختراع الإرهاب صناعة صهيونية مزدهرة ورائجة في زمن الأحادية القطبية
الأمريكية، فقد أوشكت بضاعة الإرهاب على البوار والكساد مع اقتراب حلول عصر
التعددية القطبية.
منذ اللحظات
الأولى لعملية "طوفان الأقصى" في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023
الذي شنته فصائل
المقاومة الفلسطينية بقيادة كتائب عز الدين القسام، الجناح
العسكري لحركة حماس، داخل المستوطنات الإسرائيلية في غلاف قطاع غزة المحتل، أصبحت
مفردة "الإرهاب" الكلمة السحرية الأكثر تداولا على ألسنة قادة كيان
الاحتلال الصهيوني وفي مقدمتهم رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو، وسرعان
ما ترددت كلمة "الإرهاب" على ألسنة رعاة المستعمرة الصهيونية من
الإمبرياليين الغربيين وفي طليعتهم الرئيس الأمريكي جو يايدن، وأصبحت مقولة
"حماس هي داعش" سلعة رائجة، لكن الحقيقة التي بدت واضحة للكثيرين في
العالم أن "حماس" حركة تحرر وطني تناهض كيان استعماري استيطاني صهيوني
قام على الإبادة والتطهير العرقي والإرهاب، وهو لم يتوقف عن استخدام الإرهاب في
قمع مقاومة الشعب الفلسطيني.
تمارس المستعمرة الإسرائيلية منذ الإعلان عن تأسيسها عام 1948 أسوأ أنماط الإرهاب الشمولي على الفلسطينيين، وهو أكثر أنواع إرهاب الدولة تطرفا على حد تعبير حنا أرندت، فـ"الإرهاب هو جوهر الهيمنة الشمولية"، ومعسكر الاعتقال هو "المؤسسة المركزية الحقيقية للسلطة التنظيمية الشمولية". فالكيان الاستعماري الصهيوني تشكل من مجموعة عصابات إرهابية تحولت إلى جيش بُنيت عليه الدولة وتأسس حوله المجتمع
إن الإرهاب
الصهيوني موثق بصورة جلية دون لبس، فحسب توماس سواريز في كتابه "دولة
الإرهاب: كيف خلق الإرهاب إسرائيل الحديثة"، مارس الكيان الصهيوني الإرهاب
على أساس يومي تقريبا منذ العام 1937، في الوقت نفسه الذي كان فيه البلطجية
النازيون يُرهبون اليهود الأوروبيين، حيث نفذت العصابات الصهيونية المشكلة من
الغرباء اليهود "حملات محسوبة من الإرهاب" ضد الفلسطينيين الأصليين، وفي
هذه الحملة تعرض الفلسطينيون للذبح والتشويه والترويع بلا رحمة؛ جراء التفجيرات
المتكررة أو الهجمات بالبنادق الرشاشة والقنابل اليدوية على المقاهي الفلسطينية
وعلى "المارة العرضيين"، وعلى السيارات والحافلات الفلسطينية وقطارات
الركاب ودور الأيتام والمدارس والمتاجر والأسواق والأحياء العربية. وأغارت
العصابات اليهودية على القرى العربية، وزرعت الألغام الأرضية، وأعدمت بدم بارد على
غرار النازية القرويين المحاصرين، وضاعفت عصابة الإرغون العسكرية القومية الإرهاب
من خلال التهديد بـقطع الأيدي العربية التي ترتفع ضد القضية اليهودية.
تمارس المستعمرة
الإسرائيلية منذ الإعلان عن تأسيسها عام 1948 أسوأ أنماط الإرهاب الشمولي على
الفلسطينيين، وهو أكثر أنواع إرهاب الدولة تطرفا على حد تعبير حنا أرندت، فـ"الإرهاب
هو جوهر الهيمنة الشمولية"، ومعسكر الاعتقال هو "المؤسسة المركزية
الحقيقية للسلطة التنظيمية الشمولية". فالكيان الاستعماري الصهيوني تشكل من مجموعة عصابات
إرهابية تحولت إلى جيش بُنيت عليه الدولة وتأسس حوله المجتمع، فجوهر الأمة- الكيان
الذي أصبح دولة هو جيش/ عصابة.
وتعود جذور
الإرهاب اليهودي المعاصر إلى الحركات المتطرفة والأفراد المتشددين الذين تجولوا في
أرجاء فلسطين في ثلاثينيات وأربعينيات القرن العشرين، وهو ما وثقه كتابان، وهما:
"جنود مجهولون: الكفاح في سبيل إسرائيل،
1917-1947" لبروس هوفمان، و"تصفية الحساب: الموت والمكيدة في الأرض الموعودة-
قصة بوليسية حقيقية" لباتريك بيشوب.
مع ديمومة الحرب
الصهيونية على غزة، تذكرنا مذكرات رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق موشي شاريت أن
قادة إسرائيل عام 1955 ثبت لهم أن "احتلال غزة لن يحل أي مشكلة أمنية"،
وأن الدولة الصهيونية قامت على مبدأ القوة والإرهاب المقدّس الذي يضمن لها درجة من
التوتر من خلال افتعال حرب مع أي طرف عربي.
وتقول الكاتبة
الإسرائيلية ليفيا روكاش، في دراستها لمذكرات شاريت بعنوان: "إرهاب إسرائيل
المقدس: من مذكرات موشي شاريت"، إن أمن إسرائيل يبقى ذريعة رسمية للدولة
العبرية والولايات المتحدة لإنكار "حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره في
وطنه.. قُبلت تلك الذريعة كتفسير شرعي لانتهاك إسرائيل للقرارات الدولية التي تدعو
إلى عودة الشعب الفلسطيني إلى وطنه"، وأنّ من تصفهم بـ"القتلة
الإسرائيليين" يمارسون "منهج طرد وإبادة" ولا يترددون في التضحية
بأرواح يهودية لضمان وجود درجة من الاستفزاز تبرر العمليات الانتقامية التالية.
وتخلص روكاش إلى
أن يوميات شاريت "مدمّرة للدعاية الصهيونية.. وتفسّر لماذا لم يكن ممكنا أبدا
ظهور صهيونية يمكن أن نصفها بأنها معتدلة، وكيف تنتهي دائما بالفشل.. تشرّبت
الدولة مبادئ الإرهاب المقدس ضد المجتمعات العربية التي تحيط بها، بحيث لم يعد
ممكنا تحرير الصهيونية من الداخل".
منذ ثمانينيات
القرن الماضي بنى بنيامين نتنياهو مجده الشخصي والسياسي باعتباره الأب الحقيقي
لصناعة "الإرهاب"، كسلعة عالمية روجت "نظرية الإرهاب الدولي"
لصالح الإمبريالية الأمريكية. فحسب قول وزير الخارجية
الأمريكي الأسبق جورج شولتز: إن أنشطة نتنياهو العامة وكتبه عن الإرهاب كان لها تأثير
حاسم في صوغ السياسة الخارجية الأمريكية منذ بداية عقد الثمانينيات، أيْ تحويل حرب
الحضارات الدينية والعرقية إلى عقيدة مستقبلية لحروب الولايات المتحدة في العالم.
فمفهوم
"الإرهاب الدولي" منتج سياسي وأيديولوجي جديد ابتكره بنيامين نتنياهو
ووالده البروفيسور بنتسيون نتنياهو في أواخر سبعينيات القرن الماضي، وقد طُرح هذا
المنتج في البداية كتهديد وجودي جديد للإنسانية، تمثله شبكة دولية إسلامية تديرها
أذرع الأخطبوط السوفييتي، العدو التقليدي للولايات المتحدة. ففي عام 1976 كان
نتنياهو الأب أستاذا متقاعدا للتاريخ، وقد بدأ ابنه بنيامين (27 عاما) عمله مستشارا
اقتصاديا في القطاع الخاص. ومع أنهما هاجرا من إسرائيل قبل ذلك ببضع سنوات؛ فإن
الأمريكيين رأوهما خبيرَيْن في مسألة التفوق العسكري الإسرائيلي؛ وذلك لأن جوناثان
-الابن والشقيق- قائد وحدة النخبة في الجيش الإسرائيلي "سييرت متكال"،
تحول بين عشية وضحاها إلى أيقونة الجماهير الأمريكية، بعد أن قُتل في عملية عنتيبي
في 4 تموز/ يوليو 1976، وقد تمكنت أسرة نتنياهو من أن تستحوذ بمفردها على هذا
الحدث المأساوي، واقترحت الأسرة على الأمريكيين استغلال الإمكانيات العاطفية
الهائلة للإرهاب لصالح الإجماع على "الحرب على الإرهاب"، أي حرب علنية
على العدو الشيطاني المتمثل في الإرهاب العربي المسلم.
تزامن اختراع الإرهاب بوصفه العدو الرئيس للغرب مع صعود المحافظين الجدد في الولايات المتحدة الأمريكية في منتصف سبعينيات القرن الماضي، حيث بدأت الإدارة الأمريكية بتحويل الإرهاب إلى أيديولوجية سياسية
تزامن اختراع
الإرهاب بوصفه العدو الرئيس للغرب مع صعود المحافظين الجدد في الولايات المتحدة
الأمريكية في منتصف سبعينيات القرن الماضي، حيث بدأت الإدارة الأمريكية بتحويل
الإرهاب إلى أيديولوجية سياسية، وفصله عن دراسة العنف السياسي حسب ليزا
ستامبنيتسكي، وهي أستاذة في جامعة شيفيلد ومؤلفة حائزة على جوائز حول كتابها
"تأديب الإرهاب: كيف اخترع الخبراء الإرهاب"، حيث تحول المنهج الأكاديمي
في التعامل مع الإرهاب إلى دعاية في خدمة الحكومة. فـ"الإرهاب" ليس
تسمية محايدة للعنف السياسي، بل هو مبني اجتماعيا وتاريخيا بطرق لها آثار مهمة،
وأحد هذه الأسباب هو أن هناك ميلا إلى فهم الأفعال التي توصف بأنها
"الإرهاب" على أنها ناجمة عن شكل من أشكال الهوية الجوهرية، بدلا من
كونها ناشئة عن ظروف اجتماعية وتاريخية وسياسية معينة. إذ يتم تعريف الإسلام
والمسلمين على أنهم "سبب" الإرهاب، ويرجع ذلك جزئيا إلى الطريقة التي
يتم بها تعريف "الإرهاب"، وأنواع الأحداث التي يتم تعريفها أو عدم
تعريفها على أنها "إرهاب"، حيث من المرجح أن يتم تصنيف الهجمات التي
يرتكبها مسلمون على أنها "إرهاب" مقارنة بالهجمات المرتكبة من قبل غير
المسلمين، وإحدى نتائج هذا الخطاب، هي أن "المسلمين" أنفسهم تم تعريفهم
على أنهم مشكلة، ونحن نشهد الآن رغبة أكبر في النظر إلى جميع المسلمين باعتبارهم
مشكلة..
لم يكن الإرهاب
إبان الحرب الباردة سوى أثر هامشي مزعج لا يشكل تهديدا جديا للقوى الدولية، وكانت
الفكرة العبقرية لأسرة نتنياهو آنذاك مختلفة، حسب شوشانا جباي في مقال بعنوان
"نحن الراديكاليون واختلاق الإرهاب"، وذلك بتحويل العنف في العالم
الثالث الموجّه إلى الغزاة الغربيين من أمر مزعج إلى أمر شيطاني كارثي، واختراع
أيديولوجية تحوِّل هذه الشعوب الضعيفة إلى خصوم للغرب مساوية له من حيث القوة في
نظر الرأي العام. وكما هو مألوف في التصور الكولينيالي، أكَّدت أسرة نتنياهو على
كراهية هذه الشعوب للديمقراطية والحرية التي تعرض الغرب للخطر، وأن هذه الكراهية
هي السبب في إعلان الحرب عليها. وخلال عصر بوش الابن جُمع بين الفكرتين معا: يجب
شن الحرب على تلك الشعوب بسبب خطرها على الغرب، وإكراهها بالغزو والدمار على أن
تكون شعوبا ديمقراطية.
بعد نحو شهر من
قتل جوناثان نتنياهو في عملية عنتيبي، بدأ بنيامين وأبوه بنتسيون نتنياهو العمل
لإنشاء "معهد جوناثان لأبحاث الإرهاب
الدولي" في واشنطن. وقد سعى نتنياهو ووالده رئيس المعهد لتخليد اسم جوناثان،
لا بالبحث العلمي الأكاديمي للعنف السياسي، بل بتطوير مشروع دعاية أمريكي لحماية
"الدول المتحضرة" من الهمجية والبربرية، وإنقاذ الغرب من الدمار والخطر
الوجودي الذي يتعرض له، وكتب نتنياهو الابن: "جوناثان وقف حياته للدفاع عن
الوطن، لكنه عندما حارب الإرهاب رأى نفسه شريكا في صراع أوسع من ذلك بكثير: صراع بين
الحضارة والبربرية".
وعقد معهد
جوناثان مؤتمرين تغيرت بعدهما السياسة الخارجية الأمريكية، وخلال المؤتمر الأول عن
"الإرهاب الدولي"، الذي عُقد في تموز/ يوليو 1979 في فندق هيلتون في
القدس، شرح بنتسيون نتنياهو رؤيته للإمبراطورية الأمريكية والدول الغربية، وقرر أن
الإرهاب الدولي أخطر تهديد يواجه البشرية، وأن الواجب الأخلاقي يحتم محاربته. ووفقا
لرؤيته، فإن الإرهابيين يدبرون لتدمير دول "الشعوب الحرة"، ولا يمكن أن
تحل هذه المشكلة من خلال المؤسسات الدولية القائمة، لأن الأمم المتحدة تتعاون مع
الإرهابيين؛ ولذا توجد حاجة إلى تكوين جبهة من الدول الغربية تتخطى الأمم المتحدة.
وفي حين أن معظم
الأمريكيين المشاركين في المؤتمر الذي عقد في عام 1979، لم يهتموا سوى بالادعاء
القائل إن الاتحاد السوفييتي يحرك الإرهاب، حاول آل نتنياهو إثارة اهتمامهم بالجزء
الثاني من الادعاء؛ وهو الجزء الأكثر أهمية في نظرهم: الإرهابيون هم العرب
المسلمون، وبعد الانتهاء من التوترات مع الاتحاد السوفييتي وتفكيكه، لن يهتم
الأمريكيون إلا بهذا الجزء.
عندما تحدث
نتنياهو الأب والابن عن تكوين جبهة دولية تضم "الدول المتحضرة " لمحاربة
الإرهاب، فإنهما كانا يعنيان أن على المسيحيين الانضمام إلى الحرب اليهودية على
المسلمين في الشرق الأوسط، أيْ حرب حضارات. وزعم نتنياهو الأب أنه يوجد تشابه واضح
بين حرب الاسترداد المسيحية في إسبانيا التي استمرت نحو 800 سنة، وعودة اليهود إلى
فلسطين، وطالب بنتسيون نتنياهو بوجوب أن تكون حروب الاسترداد نموذجا للمسيحيين
لحرب مستمرة على المسلمين في الوقت الحاضر أيضا. وقال: "إن شيطان التهديد
العربي الإسلامي أُخرج من القمقم من جديد في عصرنا، وإن الإسلام يطمح دوما إلى
إخضاع العالم الغربي، ولو لم تصد هجماته السابقة، لكان التاريخ البشري مختلفا".
وزعم نتنياهو
الابن أيضا أن كراهية الإسلام للعالم الغربي كراهية قديمة، وأن الإرهاب منح هذه
الكراهية حياة جديدة. وفي المؤتمر الثاني لآل نتنياهو، الذي عُقد في واشنطن عام
1984؛ كان نتنياهو الابن قد أصبح سفير إسرائيل لدى الأمم المتحدة وشخصية معروفة في
الولايات المتحدة، وحضر هذا المؤتمر المحافظون الجدد بوصفهم المسؤولين الجدد في
إدارة ريغان، وفي النهاية تمكن آل نتنياهو من التركيز على أهم القضايا وفقا لرؤيتهم:
استعمال القوة العسكرية الغربية التي تعمل خارج نطاق القانون الدولي لضرب الحضارة
الإسلامية.
وركز المؤتمر
تركيزا رئيسا على ربط كلمة الإرهاب بكلمة مسلم، وقد جُمعت المحاضرات التي ألقيت في
مؤتمر واشنطن عام 1984، في كتاب حرره بنيامين نتنياهو بعنوان "الإرهاب: كيف
يمكن أن ينتصر الغرب؟"، وبعد ذلك بعامين، أصبح هذا الكتاب النظرية الرئيسة
التي تتبناها وكالة المخابرات المركزية والحزب الجمهوري، حيث بدأ مشروع آل نتنياهو
بتحويل المسلمين إلى أعداء للإنسانية، وهو المشروع الذي حقق الابن بفضله نجاحات
ضخمة في مسيرته المهنية، في وقت تعزَّزت فيه قوة إسرائيل. تولى بنيامين نتنياهو
الحكم في إسرائيل عندما أصبحت قوة عظمى في محيط دول ضعيفة.
عقب هجمات 11 أيلول/ سبتمبر تُوج مشروع نتنياهو الابن السياسي بتنفيذ جورج بوش الابن
أيديولوجيته، وأصبحت أيديولوجية الحرب على "الإرهاب الإسلامي" قيمة
أمريكية- إسرائيلية مشتركة كما بيّن ريمي برولان في كتابه "الخطاب الأمريكي
حول الإرهاب: التأسيس، والتطور وسياق التلفظ (1972-1992)، فكل ما ورد في الخطاب
الأمريكي عن "الإرهاب" بعد أحداث 11 أيلول/ سبتمبر كان حاضرا في خطاب
الرئيس الأميركي رونالد ريغان عن الموضوع في الثمانينيات، وهذا الخطاب تأثّر بدوره
إلى درجة كبيرة بالخطاب الإسرائيلي عن الإرهاب. وهذا مهمٌّ في ضوء ما نعرفه عن أنه
فيما كان مسؤولون إسرائيليون كبار يطلقون حملة دعاية "هاسبارا" التي
هدفت إلى "بيع" خطابهم إلى الغرب، وتحديدا الولايات المتحدة، كان
مسؤولون إسرائيليون آخرون ينفّذون سرا حملتهم "الإرهابية" الخاصة
والدموية للغاية، من خلال جبهة تحرير لبنان من الغرباء، وهي مجموعة إرهابية أسستها
إسرائيل أكنّت العداء لمنظمة التحرير الفلسطينية وتبنّت تنفيذ سلسلة من عمليات
تفجير سيارات مفخّخة وهجمات أخرى في لبنان بين أواخر السبعينيات وأوائل
الثمانينيات، حظيت بدرجة أكبر من الاهتمام في كتاب الصحافي الاستقصائي الإسرائيلي
رونين بيرغمان الذي يحمل عنوان: "انهض واقتل أولا: التاريخ السري لاغتيالات
إسرائيل المُوجّهة".
تهدف السردية الخطابية الإمبريالية الصهيونية لنزع صفة الإنسانية عن الفلسطينيين إلى تبرير عمليات القتل والإبادة، لكن الأمر المدهش أن الأنظمة الاستبدادية العربية تبنت السردية الإمبريالية الصهيونية حول الإرهاب، فبعد الانقلاب على انتفاضات الربيع العربي وإعادة بناء الدكتاتوريات العربية ظهرت تصورات جديدة حول مهددات الاستقرار السلطوي في المنطقة اختزلت بالإسلاميين على اختلاف توجهاتهم السياسية الديمقراطية السلمية والجهادية الثورية، وتبلورت عن رؤية تقوم على تصفية القضية الفلسطينية وإدماج المستوطنة الاستعمارية الإسرائيلية في نسيج المنطقة
لم تكن الإمبريالية
الأمريكية بحاجة إلى خطابات الاستعمارية الصهيونية حول الإرهاب، لتبرير خطاب
استعلائي عنصري تجاه الفلسطينيين ومن خلفهم العرب والمسلمون، فالكراهية الغربية
العميقة المتأصلة للإسلام والمسلمين عموما والعرب خصوصا، تستند إلى سياسات الهوية
الصلبة، إذ يعرّف الغرب العلماني نفسه بنسخته المسيحية- اليهودية المحدثة كنقيض
للإسلام كدين وشكل حياة، فالإسلام إبان قوته ولا يزال راهن ضعفه يشكل للغرب هاجسا
مقلقا باعتبار الإسلام كينونة مناهضة للغرب كنقيض إبستمولوجي وتحد جيوسياسي.
إذ تهدف السردية الخطابية الإمبريالية
الصهيونية لنزع صفة الإنسانية عن الفلسطينيين إلى تبرير عمليات القتل والإبادة،
لكن الأمر المدهش أن الأنظمة الاستبدادية العربية تبنت السردية الإمبريالية
الصهيونية حول الإرهاب، فبعد الانقلاب على انتفاضات الربيع العربي وإعادة بناء
الدكتاتوريات العربية ظهرت تصورات جديدة حول مهددات الاستقرار السلطوي في المنطقة
اختزلت بالإسلاميين على اختلاف توجهاتهم السياسية الديمقراطية السلمية والجهادية
الثورية، وتبلورت عن رؤية تقوم على تصفية القضية الفلسطينية وإدماج المستوطنة
الاستعمارية الإسرائيلية في نسيج المنطقة، من خلال تأسيس تحالف بين الإمبريالية
الأمريكية والدكتاتوريات العربية والاستعمارية الإسرائيلية تحت ذريعة مواجهة الخطر
المشترك المتمثل بالحركات الإسلامية؛ التي تقوم أيديولوجيتها على مناهضة
الإمبريالية والاستبدادية والاستعمارية، وأصبحت الأنظمة الاستبدادية العربية شريكة
للإمبريالية الأمريكية والمستعمرة الصهيونية في التصورات الأساسية للمنطقة، وهي
تتبنى السردية الأمريكية الإسرائيلية حول ماهية الإرهاب وهوية الإرهابي، وعلى
ضوئها تتشكل نظرتها للقضية الفلسطينية ومستقبل الشرق الأوسط.
في ظل تنامي
التأييد العالمي لتحرير فلسطين ومناهضة الاستعمارية الصهيونية، صادق الكونغرس
الأمريكي في السادس من كانون الأول/ ديسمبر 2023، على مشروع قرار ينص أحد بنوده
على المساواة بين معاداة الصهيونية ومعاداة السامية، وأشار مشروع القرار غير
الملزم قانونيا إلى تنامي تصاعد معاداة اليهود في الولايات المتحدة وحول العالم،
كما تطرق إلى الهجوم الذي نفذته حركة "حماس" على المستوطنات الإسرائيلية
في السابع تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، لكن مهما حاولت الصهيونية والإمبريالية
والاستبدادية من مارسة القمع وتزييف الحقائق، فلن تغير من حقيقة الواقع والتاريخ.
تكشف المسألة
الفلسطينية وحالة حماس عن ذاتية مصطلح "الإرهاب" وغير موضوعيته، إذ يشكل
مصطلح "الإرهاب" دالا مبنيا سياسيا، لا تجمعه بالضرورة علاقة تناسب
طبيعية بالمدلول، ويرتبط بإرادة المعرفة وإرادة الهيمنة، وهو خطاب أدائي للسلطة
السيادية في علاقات القوة، يرتبط بالمصالح الجيوسياسية كتوظيف سياسي، إذ تستخدم
الولايات المتحدة مصطلح "الدولة الراعية للإرهاب"، ضد الكيانات السياسية
المعارضة للتوجهات الأمريكية، وهوية الإرهابي رهن التسمية وليس الفعل في سياق
خطابي تحدده المصالح القومية.
وفي الوقت الذي
يصعب من الناحية النقدية وصف حماس بالإرهابية، يمكن بسهولة وصف إسرائيل دولة
إرهابية، وكانت بوليفيا قد أدرجت فعلا الكيان الإسرائيلي على قائمتها للدول
الإرهابية، فـ"الإرهاب" تسمية مفروضة وغير مفترضة واستراتيجية القوى
الغاشمة للهيمنة والسيطرة وترتبط بهوية الفاعل وليس الفعل. وتنفرد الحالة
الفلسطينية بالإجماع والتوافق الأمريكي حول هوية "الإرهابيين"، فلطالما
اتفق الديمقراطيون والجمهوريون على أن الفلسطينيين هم مرتكبو الأعمال الإرهابية،
وليسوا أبدا ضحاياها، فيما اعتبروا أن الإسرائيليين هم دائما ضحايا الإرهاب. وقد تحول
"الإرهاب" الذي اخترعه الغرب الإمبريالي والاستعمار الصهيوني كما يقول جاك
دريدا "إلى مصطلح متداول يطلقه كل فاعل على أعدائه، إلى اتهام متبادل، استفاد
من الخلط والفوضى اللذين واكبا نشأة وتطور استخدام المفهوم، ومعلوم أن "من يطلق
الأسماء على الأشياء فهو يمتلكها".
إن الإصرار الأمريكي
والأوروبي والصهيوني على تصنيف حركة "حماس" منظمة إرهابية يهدف إلى نزع
الصفة السياسية عن عملها، ونزع الحصانة الإنسانية عن أعضائها، فوصف مقاومي حماس
يالإرهابيين يضع جنود حماس في قائمة "محاربون لا شرعيّون"، بل إن حشر
الفلسطيني في هوية جوهرانية إرهابية هي الأصل، ففي الصّحافة الإسرائيليّة والغربية
كلّما تعرّض الجيش الإسرائيليّ لمقاومة غير منتظرة من الفلسطينيّين، اعتبرتها
الصّحافة دليلا على عملهم الإرهابيّ. فحسب الرؤية الإمبريالية الغربية
والاستعمارية الصهيونية لا يحقّ للإرهابيّ أن يقاوم، وهذه المفارقة تقع في صميم
الفكرة الّتي ينهض عليها برنامج "الحرب ضدّ الإرهاب"؛ هذه الحرب الغريبة
الّتي يضحى فيها العدوّ مجرما بسبب دفاعه عن نفسه أو مقاومته.
فهذا الانقلاب في
مقولة العدوّ إنّما هو انقلاب بيوسياسيّ لأنّه لا يمكن أن يُختزل في شخص الجنديّ
العدوّ أو المجرم العاديّ، فمقاتلو حماس باعتبارهم "إرهابيون" ليسوا
جنودا أعداء، وليسوا كذلك مجرّد مجرمين، وإنّما هم "محاربون لا
شرعيّون". وهذا الصّنف الجديد من المحاربين يمثّل في نهاية المطاف وجه العدوّ
السّياسيّ الجديد، أو وجه العدوّ البيوسياسيّ الذي أُقصي من فضاء المدينة
السّياسيّ، وزُجّ به في فضاء "المعتقل" الاستثنائيّ في غزة، أي الفضاء
السّياسيّ الجديد الذي انقلبت فيه السّياسة إلى بيوسياسة، وانقلب فيه المجرم الّذي
يعاقبه القانون إلى "إنسان مقدّس"، وتحول الآخر إلى "حياة عارية"، لا يشمله القانون لأنّه بلا حقوق، تماما كالمواطن المجرّد
من حقوق المواطنة لأنّه "بلا أوراق".
بذريعة الحرب على الإرهاب تلغي الحرب الحديثة عموما والنسخة الأمريكية الإسرائيلية من الحروب، خصوصا الحدود الفاصلة بين "ضحايا أبرياء" من جهة وإصابة مقاتلين "ليسوا أبرياء" وتم تقوض أسس القانون الدوليّ الإنسانيّ ومبادئ معاهدة جنيف، باختراع مصطلحي "دروع بشرية" و"أضرار جانبيّة"
بذريعة الحرب على
الإرهاب تلغي الحرب الحديثة عموما والنسخة الأمريكية الإسرائيلية من الحروب، خصوصا
الحدود الفاصلة بين "ضحايا أبرياء" من جهة وإصابة مقاتلين "ليسوا
أبرياء" وتم تقوض أسس القانون الدوليّ الإنسانيّ ومبادئ معاهدة جنيف، باختراع
مصطلحي "دروع بشرية" و"أضرار جانبيّة"، حيث تتهم المقاومة
دوما باستخدام المدنيين "دروعا بشريّة" وأن قتل المدنيين مجرد "أضرار
جانبيّة" مقبولة.
فبالنسبة لجيش
الاحتلال الإسرائيلي يتحول جميع المدنيّين الفلسطينيين إلى دروع بشريّة ورهائن لدى
منظمات "إرهابية"، وهكذا يصبح كل مدني فلسطيني هدفا مشروعا للقتل، ويبرر
قصف الملاجئ والمستشفيات والمدارس والمساجد باعتبارها أماكن لإيواء
"الإرهابيين" وتخزين السلاح ومنصات لإطلاق الصواريخ في إطار حروب غير
متكافئة، حيث تقوم فكرة "الأضرار الجانبية" بتغطية كافة الجرائم غير
الأخلاقية التي ترتكب في الحروب الأمريكية- الإسرائيلية. وكانت وزيرة الخارجية
الأميركية السابقة مادلين أولبرايت قد علقت على وفاة 500 ألف طفل عراقي بعد حرب
الخليج الأولى، بالقول: "أعتقد أنّ ذلك كان خيارا بالغ الصواب، لكن الثمن
مناسب باعتقادي".
خلاصة القول أن اختراع الإرهاب شكّل صناعة صهيونية مزدهرة ورائجة في زمن الأحادية
القطبية الأمريكية، تولت نشرها والتنظير لها عائلة نتنياهو، وبنى على أساسها
بنيامين نتنياهو مجده الشخصي والسياسي. وتوشك بضاعة الإرهاب على البوار والكساد مع
اقتراب حلول عصر التعددية القطبية، وقد عصفت عملية طوفان الأقصى بصناعة الإرهاب
وأعادت أطروحة المقاومة إلى الصدارة، ودفعت بنتنياهو إلى دركات الخزي والعار،
وستنهي وجوده السياسي، وما يقوم به مجلس الحرب الصهيوني للرد على الهزيمة المذلة
من جرائم إبادة في غزة يعبر عن حقيقة الاستعمار الصهيوني الإرهابية، فعقل
الكيان الإرهابي أصيب بعطب مس الذات النرجسية الجريحة لعقل صهيوني إرهابي تأسس على
غطرسة القوة والاستعلاء والنزعة التفوقية العنصرية.
فالكيان
الاستعماري اليهودي عبارة عن مجموعة عصابات إرهابية تحولت إلى جيش بنيت عليه
الدولة وتأسس حوله المجتمع، فجوهر الأمة- الكيان الذي أصبج دولة هو جيش/ عصابة
أصيب بمقتل، فقد انهارت أسسه وأركانه بعد صدمة السابع من تشرين الأول/ أكتوبر، واهتزت
عقيدته العسكرية والأمنية من الردع، والإنذار المبكر، والدفاع، والنصر الحاسم.
وقد فشل مخترعو
الإرهاب وصناعه في مساواة المقاومة بالإرهاب، وعادت القضية الفلسطينية إلى صدارة
الأجتدة الدولية، وعادت المقاومة كنهج شرعي لمقاومة الاستعمار الاستيطاني
الصهيوني. فالاستعمار هو الإرهاب والمقاومة هي التحرر.
twitter.com/hasanabuhanya