منذ دخولنا الشهر
الأخير من العام 2023 والإشارات الصادرة عن وسائل الإعلام الغربية حول استعداد
روسيا لوقف الحرب في أوكرانيا لم تهدأ. صحيفة "نيويورك تايمز" كانت آخر
تلك الوسائل التي نقلت قبل أيام عن مسؤولين غربيين وآخرين روس، أنّ موسكو منفتحة
على خيار وقف إطلاق نار في أوكرانيا، يكون قادرا على تجميد القتال على طول خطوط
المواجهة بين البلدين.
وقالت الصحيفة الأمريكية
إنّها استقت معلوماتها من اثنين من بين كبار المسؤولين الروس السابقين، وأكدت
أنهما مُقربان من الكرملين. كما نقلت الأمر نفسه عن مسؤول أمريكي وآخر دولي، وكشفت
أنّ جلّ هؤلاء قد تلقوا إشارات من مبعوثين للرئيس الروسي فلاديمير
بوتين منذ شهر
أيلول/ سبتمبر الماضي.
لم تنكر الصحيفة
أنّ تلك الإشارات بُعثت من موسكو "بهدوء"، وقالت كذلك إنّ الرئيس بوتين
"مستعد حقا للتوقف عند الخطوط الحالية"، لكنّه في المقابل "ليس على
استعداد للتراجع مترا واحدا إلى الوراء"، وذلك في إشارة إلى تقدم الجيش
الروسي الميداني.
هذه المعلومات لم
تنفها موسكو ولم تؤكدها، إذ ردّ المتحدث باسم الكرملين دميتري بيسكوف، على تقرير
الصحيفة الأمريكية بعد ساعات بالقول، إنّ موسكو مستعدة للتفاوض بالفعل، لكن
"من أجل تحقيق أهداف العملية العسكرية الخاصة".
ويبدو أنّ تلك
الإشارات التي يتناقلها الإعلام الغربي هدفها تمهيد الطريق إلى حلّ النزاع بالفعل،
خصوصا أنّ إشارات مقابلة صدرت من جانب واشنطن أيضا تجاه موسكو، لكن هذا ما لم
يكشفه الإعلام الغربي ولم يتحدث عنه إطلاقا، وذلك لأنّ الظروف ربما لم تعد تناسب
واشنطن من أجل الاستمرار في دفع الحرب قدما.
أمّا أكثر ما
يعزز هذه الفرضية، فهما عاملان:
1- اقتراب
الولايات المتحدة من دخول فترة حملة الانتخابات الرئاسية التي تبدأ عادة قبل يوم
الاقتراع بنحو سنة، وبالتالي فإن الاستمرار في تمويل أوكرانيا بلا طائل قد يعود
بالضرر على الإدارة الديمقراطية.
2- حرب غزة بين
حركة "حماس" وإسرائيل، التي أجبرت الولايات المتحدة على تكبّد المزيد من
الأعباء العسكرية والمالية، وكذلك على اتخاذ مواقف داعمة لإسرائيل في أروقة الأمم
المتحدة وخارجها، جلبت لواشنطن الإحراج وكانت بغنى عنه في هذا التوقيت على مقربة
من الانتخابات.
أمّا الإشارات
على استعداد الولايات المتحدة للانخراط في حوار مع موسكو من أجل وقف الحرب والسير
بتسوية، فبدورها ظهرت من خلال التالي:
1- أظهرت
البيانات الملاحية للموقع المتخصص برصد الرحلات الجوية "flightradar24"،
هبوط طائرة روسية في واشنطن من بين سرب الطائرات الخاصة بالكرملين، التي تُستخدم
لنقل كبار المسؤولين، وذلك في 20 كانون الأول/ ديسمبر في تمام الساعة 12:50، قادمة
من مدينة سانت بطرسبرغ الروسية، حيث بقيت
في العاصمة الأمريكية قرابة ساعة، من دون ذكر أي تفاصيل حول تلك الرحلة، التي
ربّما يعني
أنّ الولايات المتحدة على تواصل مع القيادة الروسية وربما تحاورها من أجل بلوغ تفاهم
ما حول وقف الحرب.
2- ترجيح عدد من
الصحافيين الأمريكيين في أكثر من وسيلة إعلامية أمريكية، أن تكون إدارة الرئيس الأمريكي
جو
بايدن قد أجرت "محادثات سرية" بالفعل في حضور دبلوماسيين روس، وذلك
خصوصا بعد تأجيل مناقشة المساعدات الأمريكية إلى أوكرانيا للعام المقبل (2024).
3- التمهيد الذي
تعتمده أبرز الصحف الأمريكية، أمام تخفيف الاحتقان مع موسكو من خلال خفض منسوب الحملات
الإعلامية المركزة ضدها. وأبرزها كان حذف صحيفة "واشنطن بوست" خانة
"الحرب في أوكرانيا" من واجهة موقعها وكذلك ترويجها، لأن موقف كييف يبدو
اليوم صعبا على نحو متزايد، وذلك مع توقف المساعدات العسكرية والاقتصادية المطلوبة
بشدة في واشنطن وبروكسل، وكذلك مع التقارير المتكررة عن نقص الأفراد العسكريين
والأسلحة.. وهو ما يطرح تساؤلات جديّة عن بداية تغيّر في الموقف الأمريكي من الحرب
في أوكرانيا.
4- اعتراف الإعلام
الأمريكي، ثم لاحقا الجسم الدبلوماسي، ومؤخرا الإعلام أيضا، بأنّ الهجوم الأوكراني
المضاد قد فشل ولم يحقق أيّ أهداف تُذكر، ثم الحديث عن "استراتيجية
جديدة" للحرب تعتمد على "التمسّك والبناء"، أي التمسك بالمناطق
التي تسيطر عليها كييف، وبناء قدرتها على إنتاج الأسلحة خلال العام المقبل.. وهو ما
يعني بطريقة غير مباشرة أنّ واشنطن بدأت بدعوة كييف إلى التخلي عما فقدته من أراضٍ
خلال الحرب، لصالح التمسك بما تبقى.
وفي هذا الصدد،
ذكرت صحيفة "نيويورك تايمز" قبل أيام، أنّ واشنطن وكييف بدأتا في بحث
تلك "الاستراتيجية الجديدة" بعد الهجوم المضاد "الفاشل". واعترفت
الصحيفة للمرة الأولى بأنّ روسيا أخذت مؤخرا زمام المبادرة في جميع نقاط الاشتباك
مع الجيش الأوكراني.
5- ما نقله مركز
أبحاث أمريكي قبل أيام عن اجتماع سريّ لممثلي وزارة الدفاع الروسية وجهاز الأمن
الفيدرالي وجهاز المخابرات الخارجية والبنتاغون ووكالة المخابرات المركزية، عُقد
مؤخرا في دولة الإمارات، ونوقشت خلاله آليات إنهاء الحرب الدائرة في أوكرانيا.
على الرغم من أن
تلك المعطيات بارزة، فإنّ كييف ترفض أن تراها، ويصر الرئيس الأوكراني فلاديمير
زيلينسكي على قول العكس، إذ شدد في آخر تصريح له قبل أيام على أنّ موسكو لم تحقّق
أيّ تقدم عسكري خلال عام 2023، وذلك من باب التأكيد لحلفائه الغربيين على أنّ
الهجوم المضاد الذي بدأه جيش بلاده منذ الصيف الماضي فعال؛ بحجة أنّ الجيش الروسي
لم يتقدم!
لكن زيلينسكي
يعرف أنّ تلك الحجج كلها تجافي الحقيقة، بينما التوجّه الدولي العام يُظهر بشكل
جلي بأنّ مسار وقف الحرب ربما وُضع على السكة بالفعل. وبمعزل إن كانت تلك
التسريبات صحيحة أم لا، يكفي أن يبدأ الحديث عنها بهذا الشكل العلني لتتأكد
النظرية التي تقول: إنّ ثمة أمرا يُطبخ بالفعل خلف الكواليس الدبلوماسية، بينما تنفيذه
قد يكون بحاجة إلى بعض الوقت حتى يخرج إلى التداول في العلن.