تشتهر
بين الساسة كلمة كلاوزفيتز بأن "الحرب هي استمرار للسياسة ولكن بوسائل
أخرى"، وإذا كانت الكلمة صدرت عن عسكري شارك في حروب كبرى، فإنها أصبحت واقعا
سياسيا نظرا لما يسميه مُنَظِّرو العلاقات الدولية "غياب سلطة عليا تفرض
القانون على الدول". وغايةُ الدولة من تحركها وقدرتُها على تحقيق الغاية،
يحددان المدى الذي يمكن أن تذهب إليه في علاقتها بغيرها من الفاعِلِين الدوليين،
سواء كان الفاعل دولةً مثلَها، أم فاعلا دون الدولة كالحركات المسلحة أو المنظمات
الدولية وما إلى ذلك.
تتحرك
دولة
الاحتلال الصهيوني في إطار هذا الفكر الحربي لتشكيل الواقع السياسي، مع وجود
سمة لصيقة بها، وهي أن الحرب لدى الاحتلال هي الوسيلة السياسية الوحيدة، فلا مجال
لوسائل أخرى في علاقاتها الدولية بمحيطها الإقليمي، وذلك منذ نشأتها على يد
العصابات الصهيونية التي ارتكبت مجازر لا حصر لها. وثقافة الحرب الدائمة والضربات
الاستباقية لا تعني سوى أننا أمام عدو متغطرس لا يفهم إلا لغة القوة، دون أي
مبالغة في هذه النتيجة البادية للعيان، ولا أَدَلَّ على هذا من تقديمه التنازلات
في سيناء ثم جنوب لبنان ثم الانسحاب الأحادي من غزة، عقب حروب واستنزاف عسكري.
الهجمة القوية للمقاومة الفلسطينية في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، خاصة أنها هجمة أوصلت كيانه المُنْبَتِّ الجذور إلى حافة الهاوية، فعمد إلى القوة العسكرية لإعادة ترسيخ صورة الدولة القوية، وهيهات أن تعود بعد إذلال المقاومة لها في هجمتها الكبرى، وقتالها على الأرض في طبيعة جغرافية سهلة الاجتياح، لكنها أصبحت عصيَّة بفعل ضربات المقاوِمين وصمودهم
يستنفر
جيش الاحتلال شراسته العسكرية على أهالي قطاع غزة للانتقام من الهجمة القوية
للمقاومة
الفلسطينية في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، خاصة أنها هجمة
أوصلت كيانه المُنْبَتِّ الجذور إلى حافة الهاوية، فعمد إلى القوة العسكرية لإعادة
ترسيخ صورة الدولة القوية، وهيهات أن تعود بعد إذلال
المقاومة لها في هجمتها
الكبرى، وقتالها على الأرض في طبيعة جغرافية سهلة الاجتياح، لكنها أصبحت عصيَّة بفعل
ضربات المقاوِمين وصمودهم.
ما
يُعلنه قادة الاحتلال بجلاء أنهم بصدد تغيير سياسي وجغرافي جديد في الأراضي
الفلسطينية، وهي خطوات تجري على قدم وساق بعنف غير مسبوق منذ الحرب العالمية
الثانية، وفي ظل انعدام تكافؤ مطلق في القدرات العسكرية، وتزامنا مع تواطؤ دولي
وعربي للأسف، فحتى إدخال المساعدات وإخراج الجرحى أصبحَا رهنا بالإرادة
الإسرائيلية، ودون ضغط حقيقي لإيقاف العدوان المتواصل منذ أكثر من شهرين، فأصبحت
الحرب هي مسار الاحتلال للتفاوض على ما سيحدث في "اليوم التالي".
هناك
ملفان أساسيان يحكمان ما سيحدث في "اليوم التالي" للحرب؛ الأول: ملف وقف
إطلاق النار، والثاني: ملف الأسرى لدى المقاومة الفلسطينية. ورغم أن وقف إطلاق
النار تتفرع عنه كل الملفات، فإن ملف الأسرى يحتل مكانة مهمة بين الملفات العاجلة،
وتفاصيلُه غير متاحة سوى لأطراف التفاوض فقط.
أمَّا
ما يتعلق بوقف إطلاق النار فإنه سيتحدد وفقا للمعطيات العسكرية على الأرض، ومدى
إخفاق الاحتلال في تحقيق نصر عسكري وفرض النزوح الجماعي لأهالي غزة. والإخفاق يعني
أن الحركات المقاوِمة ستبقى رقما في مستقبل القضية الفلسطينية، وهذا أمل المتعلقين
بالقضية وبقائها.
ستتسارع
عملية التفاوض لأجل "حل الدولتين"، وغالبا سيحدث اختراق واضح فيها
لإقرار اتفاق، والمطروح على الطاولة أمران في غاية الخطورة، الأول تراجع الاحتلال
إلى حدود ما قبل يوم 5 حزيران/ يونيو 1967، والثاني إعلان دولة فلسطينية منزوعة
السلاح في هذه الحدود. وبالطبع ستتزامن هذه التسوية مع ترتيبات أمنية تكفل
للاحتلال تفوقه، أيضا تحكُّمه في الاقتصاد الفلسطيني ومنافذه البرية والجوية
والبحرية.
إذا كانت حركات المقاومة لا تعترف بالوجود الإسرائيلي، وتؤمن بأن فلسطين من النهر إلى البحر حق للفلسطينيين، فعلى الأقل يمكنهم تقديم طرح سياسي يُناقش "هُدنة" مع الاحتلال، وعلى أساس الهدنة يجري النقاش حول ما تُسمى بقضايا الحل النهائي. وطرحُ الهدنة لا يخالف المبادئ التأسيسية لتلك الحركات من جهة، كما يقطع الطريق على التنازلات التي قد يطرحها قادة العرب من جهة أخرى
إذا
كانت حركات المقاومة لا تعترف بالوجود الإسرائيلي، وتؤمن بأن فلسطين من النهر إلى
البحر حق للفلسطينيين، فعلى الأقل يمكنهم تقديم طرح سياسي يُناقش
"هُدنة" مع الاحتلال، وعلى أساس الهدنة يجري النقاش حول ما تُسمى بقضايا
الحل النهائي. وطرحُ الهدنة لا يخالف المبادئ التأسيسية لتلك الحركات من جهة، كما
يقطع الطريق على التنازلات التي قد يطرحها قادة العرب من جهة أخرى، خاصة أن مصر
مثلا تسبَّب رئيسها الراحل أنور السادات في استقالة وزيرين للخارجية قبيل وفي
أثناء
مفاوضات "السلام" مع الاحتلال، بسبب وصفهما لسلوك السادات بأنه
يقدم تنازلات كبيرة دون مقابل يوازيها، فإذا قُدِّمت التنازلات في الملف الداخلي،
فكيف سيكون التنازل في الملف الفلسطيني وهو ملف خارجي! فضلا عن أن رأس النظام
السياسي المصري سبق له التصريح بقبوله لإنشاء دولة منزوعة السلاح، وسبق أن أعلن
أمام ترامب قبوله صفقة القرن السريَّة ملامحها.
ما
يمكن لمفاوِضي المقاومة الفلسطينية طرحه: تقديم مقترح لإحدى ثلاث فترات زمنية
مختلفة لهدنة تتوقف على أساسها جميع العمليات القتالية في جميع الأراضي
الفلسطينية.
الأولى:
فترة قصيرة حال انسحاب الاحتلال من غزة وإنهاء حصارها، ووقف عمليات الاستيطان
الجديدة في الضفة وإخراج الأسرى الفلسطينيين من السجون، وبالطبع مناقشة ملف المسجد
الأقصى وما يتعلق بالترتيبات الأمنية فيه وعمليات الحفر أسفله وفي محيطه.
والثانية:
فترة متوسطة، وتكون حال انسحاب الاحتلال من جميع الأراضي الفلسطينية التي احتلتها
عام 1967، وتفكيك المستوطنات في جميع تلك الأراضي، بالإضافة إلى نفس ملفات الفقرة
السابقة.
أما
الفترة الثالثة، وهي بيت القصيد، تكون حال الانسحاب إلى الحدود المقررة في قرار
التقسيم رقم 181 لعام 1947، وحينها يمكن للمقاومة أن تطرح فترة هدنة طويلة قد تمتد
إلى عقود.
كل
هذه التصورات لن تحدث في ظل التفاوض مع الاحتلال الإسرائيلي، لكن من المهم أن تقطع
المقاومة السبيل على تصفية القضية الفلسطينية إما بمفاوضين فلسطينيين خانعين لا
يملكون وزنا لتمثيل الشعب الفلسطيني، أو بمفاوضين عرب لا يأبهون بتحقيق تطلعات
شعوبهم التي يحكمونها أصلا، ويهتمون ببقائهم على عروشهم أكثر من أي شيء، ويعلمون
تمام العلم أن البقاء مرهون بالرضا الدولي لا الشعبي، ومفتاح هذا الرضا هو القضية
الفلسطينية والعلاقة مع الاحتلال.
طرح
الحدود الموجودة في قرار التقسيم لعام 1947 مرتبط بأن هذا القرار هو أصل نشأة
الكيان الغاصب، وأنه قرار دولي وأممي، ولا مبرر لتجاهل هذا القرار المؤسِّس
والانصراف إلى قرار متعلق بوقف الحرب عام 1967، فنحن أمام قرارين أمميين، ولا علاقة
لهما ببعضهما، فلم ينسخ الثاني الأول، ولم يقيده، بل حتى إذا كان القرار الثاني
ناسخا للأول أو مقيدا له، فإن تغيُّر الحدود عقب 1947 نَتَجَ عن حرب، ما يعني قبول
الأمم المتحدة لثقافة اكتساب الأرض بطريق القوة العسكرية، ليكون المنطق حينها: إذا
كانت القوة العسكرية تسمح بتحديد الحدود فلْتَبْقَ البنادق متكلمة ليفرض كل طرف ما
يريد.
كذلك
لا ينبغي تجاهل قضايا اللاجئين وحق العودة، وحدود القدس وبالطبع وفقا للقرار 181، بل
وطلب تعويضات عن التهجير منذ عام 1947 حتى الآن، فضلا عن التمسك بالسيادة
الفلسطينية الكاملة على حدود الدولة الفلسطينية المستقلة؛ بدءا من السيادة
السياسية والقانونية على المجتمع وفي ظل النطاق الجغرافي المحدد، وانتهاء بالحق في
تشكيل قوات شرطة وجيش دون تقييد لحركتها أو تسليحها.
طرح سياسي سيمنع الأطراف المتواطئة والمتخاذلة من فرض تسوية إذلالية على القضية الفلسطينية تحظى بالصفة الدولية، وهي التسوية التي ستعقِّد من وضع القضية المأزوم أصلا، كما ينبغي للمقاوِم ألا يترك الساحة السياسية للمؤامرات ويكتفي بالشجب من بعيد لمجرد أنه غير موافق على المسار المطروح، بل لا بد أن يكون له طرح سياسي يعرضه على المجتمع الفلسطيني والمجتمعات العربية الحاضنة للمقاومة
هذا
التصور السياسي في ظل "هدنة" أو أي رؤية يطرحها المقاومون، لن يكون محل
قبول لأي طرف محلي أو إقليمي أو دولي، لكنه طرح سياسي سيمنع الأطراف المتواطئة
والمتخاذلة من فرض تسوية إذلالية على القضية الفلسطينية تحظى بالصفة الدولية، وهي
التسوية التي ستعقِّد من وضع القضية المأزوم أصلا، كما ينبغي للمقاوِم ألا يترك
الساحة السياسية للمؤامرات ويكتفي بالشجب من بعيد لمجرد أنه غير موافق على المسار
المطروح، بل لا بد أن يكون له طرح سياسي يعرضه على المجتمع الفلسطيني والمجتمعات
العربية الحاضنة للمقاومة، فضلا عنه أنه يعرِّي أصحاب المؤامرات بوضع طرح جاد
لتهدئة المنطقة، وللحفاظ على الأرواح، ولإعادة بناء القدرات، ثم يترك الرفض للجانب
المتعنت والمتغطرس، إذ يستند طرح المفاوِض المقاوِم على محددات متماسكة وتُناسِب
"مُرِيدي" ما تسمى بالشرعية الدولية.
ما
صنعه المقاومون على مدار التاريخ الفلسطيني في مواجهة الاحتلال، وصولا إلى دُرة
الفعل المقاوِم في 7 تشرين الأول/ أكتوبر، لا ينبغي أن يُترك مصيره في أيدٍ عبثت
دائما بحقوق الفلسطينيين، أو تواطأت ضدهم لأجل مكاسب شخصية، وهذا واجب متصل بطوفان
الأقصى، فالمقاومة هي التي قررت هذه المرة أن تستخدم الحرب وسيلة لنيل حقوق سياسية
مُهدَرة منذ 75 عاما، وقد نجحت في جذب الانتباه إلى حقوق الفلسطينيين، وعليها أن
تستمر إلى أن تحقق جزءا كبيرا من آمالهم.