ما من شك أن الحرب
الإسرائيلية على
غزة كشفت العديد من نقاط الضعف الاستراتيجية لكيان العدو،
بالإضافة إلى الكشف عن حقيقة إمكانية محاصرته اقتصاديا رغم التدخل الغربي والعربي.
ويثير مشروع جسر بري لنقل البضائع والاحتياجات الإسرائيلية من
الإمارات إلى
إسرائيل مرورا بالسعودية والأردن جدلا واسعا في الأوساط العربية على المستوى
الشعبي والرسمي.
الجدير بالذكر أننا
كنا تحدثنا عن هذا المشروع بشكل مفصل في
مقال سابق نُشر على موقع "عربي21"
في تموز/ يوليو الماضي، حيث عملنا على توصيف حالة التطبيع الاقتصادية بين الدول
العربية وإسرائيل، وذكرنا بنحو مفصل بأنه وعلى الرغم من توتر العلاقات بين
الولايات المتحدة وإسرائيل على خلفية قضية التعديلات القضائية آنذاك، إلا أن
الولايات المتحدة تنظر إلى مشروع ربط الدول العربية بإسرائيل بريا من منظور
استراتيجي، أي أن هذا المشروع يصب في صالح إسرائيل بغض النظر عن الحكومة أو
الإدارة التي تحكم الكيان الصهيوني، كما أن مثل هذا المشروع لن يكلف الولايات
المتحدة تكاليف اقتصادية ولن يجبرها على تقديم تنازلات سياسية وأمنية للسعودية
مقابل التطبيع؛ لأن التطبيع في هذه الحالة يأتي عبر الاقتصاد وحسب.
وبعد مرور أشهر على
طرح هذا المشروع، تحدثت صحيفة "واللا" الإسرائيلية عن وصول الدفعة
الأولى من الشحنات التجارية المحملة بالمواد الغذائية الطازجة من دبي إلى الاحتلال
الإسرائيلي عبر الجسر البري الذي يقطع مسافة ألفي كيلومتر ويستغرق يومين مرورا
بالسعودية والأردن. وبالطبع لا بد من تحليل الظرف الزماني الذي يتم فيه تفعيل هذا
الجسر البري، إذ إن هذا المشروع في الوقت الحالي يهدف إلى استبدال الممر البحري
عبر البحر الأحمر وباب المندب بسبب استهداف الحوثيين للسفن المتوجهة للموانئ
الإسرائيلية التي تمر عبر هذا الممر.
في الحقيقة تكشف قصة
الجسر البري مدى فقدان العرب للدور المؤثر والاستراتيجي والتحكم في الأوراق
الرابحة التي تقع في أيديهم بطريق الصدفة. فلو أن السياسيين العرب يقصدون وبشكل
جدّي وقف إطلاق النار في غزة وإنقاذ الشعب الفلسطيني الذي يتعرض لمذبحة جماعية
هناك، ولو أنهم متمرسون في السياسة ولو قليلا لحاولوا استثمار هذا
الحصار البحري
الذي فرضه اليمن على إسرائيل؛ في سبيل الدفع بعملية الهدنة إلى الأمام والضغط على
إسرائيل للقبول بحلول يطرحها العرب وحدهم. ويبدو أنّ العداء للمقاومة الفلسطينية
أعمى على قلوبهم فأصبح التفكير المنطقي والتحليل العقلاني مستعصيا عليهم.
على الرغم من أن
الأردن نفى على لسان رئيس النقابة اللوجستية الأردنية نبيل الخطيب مرور مثل هذه
الشحنات، إلا أن تصريحات الخطيب كانت مهمة للغاية، حيث كشفت مدى التيه والتخبط
العربي في قضية الحرب على قطاع غزة. يقول الخطيب إن "هناك كلفة سياسية وأزمة
ستتشكل لدى بين الأردن والإمارات في حال المنع، ولكن على الأقل من ناحية الإجراءات
فرفع الكلفة قد يبطئ العملية".
يُظهر هذا التصريح
أزمتين استراتيجيتين معقدتين؛ فالأولى تتعلق بفقدان الأردن لزمام المبادرة في وقف
إطلاق النار، وهو الدولة الأكثر تضررا من استدامة الحرب على غزة بما يشمل احتمالية
التهجير القسري ومن احتمالية تمدد الصراع الإقليمي إلى فقدان التأثير المباشر فيما
يخص حل الدولتين. والأزمة الأخرى هي أن من يدفع ويضغط باتجاه تفعيل الجسر البري هي
الإمارات، وهذا سيوفر كسرا لـ"شبه الحصار" البحري المفروض على إسرائيل
وسيجعلها تحصل على ما تحتاجه بأقل الخسائر الممكنة.
وللبحث في الأسباب
التي دفعت الإمارات وإسرائيل إلى تفعيل هذا الجسر البري، علينا العودة قليلا إلى
الوراء وبشكل محدد إلى توقيع اتفاقيات التطبيع بين الإمارات وإسرائيل.
أولا، وعلى الرغم من
أن العلاقات كانت موجودة، إلا أن إظهارها إلى العلن وفر البيئة المناسبة لنقل رؤوس
الأموال الإسرائيلية إلى الإمارات والاستثمار في مجالات المتعلقة بالمقاولات
والفنادق والشحن البحري. وبدأ الحديث عن تزايد في عمليات غسل الأموال في الإمارات
ووصلت هذه العملية إلى الحد الذي قامت به "مجموعة العمل المالي الدولية (FATF)" بوضع الإمارات على قائمتها الرمادية وهددت فيما بعد
بتصنيفها ضمن القائمة السوداء بوصفها تحتل المرتبة الأولى عربيا و44 عالميا في
مجال غسيل الأموال، بواقع 3 إلى 5 في المئة من الناتج المحلي.
وبحسب وجهة نظر هذه
المؤسسات المالية الدولية، فإن بعض الإجراءات التي اتخذتها دولة الإمارات، بما في
ذلك إنشاء محاكم خاصة لمكافحة غسل الأموال، لم تتمكن من إحداث تأثير كبير على
الوضع الحالي لغسل الأموال في هذا البلد، كما أنه يظهر تنفيذ هذه الإجراءات في
المؤسسات المالية والأعمال التجارية عبر الإنترنت والمعدات الإلكترونية في دولة
الإمارات العربية المتحدة في مجال شراء التذاكر أو التبادل الرقمي والعملات
المشفرة ونشاط الشركات الهرمية.
ثانيا، يعتبر هذا
الجسر ذا أهمية استراتيجية وعميقة لإسرائيل، حيث يعد بديلا سريعا مقارنة بالمرور
عبر قناة السويس الذي يستغرق 10 أيام. وفي الوقت ذاته يأتي الجسر بديلا عن الالتفاف حول طريق رأس الرجاء الصالح
البحري، الذي يستمر نحو شهر بسبب تهديد الحوثيين.
ورغم أن الشحن البري
أغلى من البحري عادة، إلّا أن الجسر البري الجديد سيكون أقل كلفة. كما يمكن
للشركات في دبي والهند الاستفادة من الجسر لتقصير زمن نقل منتجاتها إلى أوروبا عبر
ميناء حيفا وميناء الخليج، وهذا سينعكس بشكل مفجع على الاقتصاد المصري لأنه سيتسبب
بإضعاف موارد مصر من قناة السويس.
أخيرا، كان من الممكن
على العرب اللعب بأوراق رابحة مهمة مثل تعطيل عبور السفن الإسرائيلية عبر البحر
الأحمر الذي فرضه الحوثيون، لوقف العدوان على قطاع غزة وفرض أنفسهم كلاعبين دوليين
مهمين بدون حتى التهديد بالسلعة الاستراتيجية الأهم التي يملكونها وهي النفط.
ويبدو أنّهم وكالعادة اختاروا أن يقفوا في الجانب الخاطئ من التاريخ؛ بوصفهم عاملا
في استمرار العدوان الإسرائيلي على شعب قطاع غزة.