يقول
المثل
المصري "أسمع كلامك أصدقك أشوف أمورك أستعجب"، تدليلا على
التناقض بين الأقوال والأفعال.. يعبر هذا المثل عن موقف نظام
السيسي تجاه تداعيات
العدوان الإسرائيلي على
غزة، وأهم هذه التداعيات الخطر على الأمن القومي المصري،
وفرض
تهجير فلسطينيي القطاع إلى مصر.
منذ
بداية العدوان أعلنت مصر الرسمية إدانتها له في بيانات لوزارة الخارجية، وتكررت
الإدانات في كلماتها الرسمية في القمة العربية الإسلامية، ومجلس الأمن، والجمعية
العامة للأمم المتحدة.. إلخ، وسمحت لحملات التبرع لإغاثة القطاع، كما أشرفت بنفسها
على تنظيم مظاهرات في عدة أماكن يوم 20 تشرين الأول/ أكتوبر الماضي (لمرة وحيدة)،
وحين ظهرت بوادر عملية التهجير أعلنت رفضها القاطع له، وكان ذلك الموقف محل تقدير
من كل القوى السياسية بما فيها تلك الأشد معارضة لها.
كان
ذلك الجزء المضيء من الصورة، بينما الجزء المعتم هو القبول عمليا بفكرة التهجير،
بل والقبول بفكرة تصفية المقاومة وفي مقدمتها حماس. وقد نقلت صحيفة الواشنطن بوست
عن المبعوث الأمريكي السابق إلى الشرق الوسط دينيس روس؛ أن خمسة زعماء عرب أبلغوه بأنه
يجب القضاء على الحركة لإضعاف نفوذ إيران وتقويض جبهة رفض التطبيع في المنطقة، رغم
أن هؤلاء الزعماء يعلنون عكس هذا الموقف، وهو ما أكده تاليا على قناة فوكس نيوز
جاريد كوشنر، عراب صفقة القرن وصهر ترامب ومبعوثه إلى المنطقة أيضا، ولا يحتاج
المرء إلى فراسة خاصة ليعرف أن السيسي من بين هؤلاء.
النظام أعلن أن تهجير الفلسطينيين إلى مصر خط أحمر، لكنه لم يتحرك عمليا للحفاظ على هذا الخط كما فعل من قبل في ليبيا حين حدد مدينة سرت التي تبعد 600 كيلو متر عن الحدود المصرية خطا أحمر لقوات حكومة الوفاق الليبية، وحشد قوات مصرية بالفعل على الحدود الغربية لتكون جاهزة للتدخل المباشر.. لم يفعل الشيء نفسه مع الخط الأحمر في الشرق الذي لم يحدد له نقطة معينة
النظام
أعلن أن تهجير الفلسطينيين إلى مصر خط أحمر، لكنه لم يتحرك عمليا للحفاظ على هذا
الخط كما فعل من قبل في ليبيا حين حدد مدينة سرت التي تبعد 600 كيلو متر عن الحدود
المصرية خطا أحمر لقوات حكومة الوفاق الليبية، وحشد قوات مصرية بالفعل على الحدود
الغربية لتكون جاهزة للتدخل المباشر.. لم يفعل الشيء نفسه مع الخط الأحمر في الشرق
الذي لم يحدد له نقطة معينة مثل خان يونس أو حتى رفح الفلسطينية، لكنه ظل يتفرج
على تهجير أهل غزة من شمالها إلى جنوبها، ومن جنوبها إلى جنوب الجنوب، ثم إلى
مدينة رفح الفلسطينية التي تحتضن الآن أكثر من مليون فلسطيني يعيش معظمهم في خيام
بالية على الحدود الملاصقة لرفح المصرية. وهو ما يعد خرقا مبكرا للخط الأحمر،
فهؤلاء اللاجئين الذي يتزايدون يوما بعد يوم، والذين سيتعرضون حتما لضربات
إسرائيلية رغم إعلان رفح منطقة آمنة، لن يجدوا أمامهم بدا من هدم الحاجز الحدودي
كما فعلوا في 2008 للنجاة بأنفسهم من الموت، وساعتها لن يستطيع النظام منعهم إلا
إذا أمر الجيش بضربهم بالطيران والمدافع كما يفعل جيش الاحتلال.
مع
إعلان واشنطن عن صفقة قذائف دبابات لجيش الاحتلال بأكثر من مائة مليون دولار، علت
أصوات أذرع النظام المصري بأن هذه القذائف ستكون موجهة إلى مصر. وكثيرا ما عبرت
تلك الأذرع عن مخاوفها (التي يفترض أنها مخاوف النظام) من اندلاع حرب مع مصر، كما
أنها تنقل عن تقارير إسرائيلية أن مصر قد تلجأ إلى إلغاء اتفاقية السلام حال دفع
الفلسطينيين فعلا إلى مصر، وإلغاء الاتفاقية يعني مباشرة الدخول في حرب، وتدعو هذه
الأذرع الشعب للالتفاف حول قيادته في هذه الظروف العصيبة التي تمر بها البلاد!
وبالمرة يدعون الشعب للمشاركة الواسعة في الانتخابات التي بدأت اليوم داخل مصر
للتعبير عن هذا الالتفاف!
غريب
أمر هذا النظام وأذرعه الإعلامية، فالشعور الحقيقي بالقلق يستدعي إجراءات أخرى، والدول
في هكذا حالات تعد الجبهة الداخلية للحرب، فتوحد الصف، وتزيل المشاكل، وتفرج عن
سجناء الرأي، وتجمع الأحزاب والنقابات والمؤسسات المدنية عبر حوار وطني حقيقي وليس
حوارا شكليا، فهل حدث شيء من ذلك في مصر التي يفترض أن حكمها يشعر بالخطر؟!
الإجابة
بالنفي، بل إن العكس هو ما يحدث، فلا يزال النظام يحرص على تمزيق الجبهة الداخلية،
وجعل أهلها شيعا يستضعف طائفة منهم، يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم، ويعتقل معارضيه،
ويتركهم في محابسهم نهبا للأمراض حتى الموت، ويحرمهم من زيارات أهاليهم، ورؤية
محاميهم. ولا يزال النظام محافظا على أغنيته المحببة "إنتو شعب وإحنا
شعب" فأي الشعبين سيحارب؟ وكيف سيتعامل الشعب الآخر؟!، وكيف لحاكم يخاطب جزءا
من شعبه واصفا إياهم -دون غيرهم من بقية الشعب بـ"المصريين"- أن يكون
قادرا على قيادة حرب دفاعية عن حدود الوطن، وأمنه القومي؟!
بينما
المعارك تشتعل في غزة وتقترب من الحدود المصرية، حرص النظام على إجراء انتخابات
هزلية حرم منها منافسيه الحقيقيين، معتقلا بعضهم، أو فارضا الإقامة الجبرية على
بعضهم، أو مقدما بعضهم للمحاكمة ليصدر عليهم أحكاما تحرمهم من العمل السياسي، وأصر
أن يتسيّد المشهد، بملايين البوسترات في كل شارع وحارة، منفقا أكثر من 400 مليون
جنيه على هذه المهزلة في وقت يكرر فيه أننا "فقراء قوي".
بإمكان مصر رغم كل ما تمر به من مشاكل اقتصادية وحتى سياسية أن تفعل الكثير لوقف الحرب، ومن ثم ضمان وقف خطة التهجير، ولكنها لا تستخدم كل أوراقها حتى الآن لحاجة في نفس حاكمها
لو
كان النظام المصري جادا في مواجهة التهجير فقد كان عليه أن يمنع مرحلته الأولى من
شمال القطاع إلى جنوبه، قبل أن يصل المهجرون إلى حدود مصر، كان عليه أن ينفذ قرارا
شارك في إقراره في القمة العربية الإسلامية الأخيرة بفك الحصار عن غزة، وكانت
الخطوة العملية لذلك هي فتح المعبر بشكل دائم، وضمان دخول الشاحنات إلى عموم
القطاع، والسماح للمصريين العالقين في غزة بالدخول إلى مصر، وكذا الجرحى والمصابين
دون انتظار إذن من أحد.
سيقول
البعض إن المعبر مفتوح لكن جيش الاحتلال هو من يمنع مرور الشاحنات في الجانب
الفلسطيني، والحقيقة أن النظام المصري الحالي هو الذي تسبب في هذا الوضع بضعفه
وهوانه أمام العدو، فلو استشعر هذا الكيان قوة مصر فإنه لن يجرؤ على الاقتراب من
أي شاحنة تحمل العلم المصري، لإداركه أن ذلك معناه قتل السلام مع مصر، وهو لا يزال
في مسيس الحاجة إلى هذا السلام الذي فتح الباب لحكومات أخرى بالتطبيع معه قبل
طوفان الأقصى، وقد خشي الكيان بالفعل من الاقتراب من شاحنات المساعدات المصرية حين
دخلت في حرب 2012 ولم يمسسها بسوء لأنه كان يخشى رد الفعل المصري حينها.
بإمكان
مصر رغم كل ما تمر به من مشاكل اقتصادية وحتى سياسية أن تفعل الكثير لوقف الحرب،
ومن ثم ضمان وقف خطة التهجير، ولكنها لا تستخدم كل أوراقها حتى الآن لحاجة في نفس
حاكمها، ليبقى المثل صادقا "أسمع كلامك أصدقك أشوف أمورك أستعجب"!
twitter.com/kotbelaraby