ما كان ينبغي أن يمر مقال كريم خان مدعي عام المحكمة
الجنائية الدولية الذي نشره في العاشر من تشرين الثاني/ نوفمبر في صحيفة الغارديان البريطانية وتناقلته وسائل إعلام أخرى مرور الكرام، فهو يظهر عجز الرجل وتحيزه للرواية الإسرائيلية بشكل فج وقبيح.
الأصل أن كريم خان في المقام الأول رجل قانون ومن المفترض أن ينتقي
عباراته بشكل دقيق، بحيث لا يساء فهمها فتودي به في مهاوي الانحياز لطرف دون آخر،
فكيف الحال وهو يتولى منصب المدعي العام لمحكمة جنائية دولية تنظر في أخطر الجرائم.
لقد حطم خان هذه القاعدة عندما نصب نفسه حكما لا محققا في الجرائم
المدعى ارتكابها من قبل
الفلسطينيين في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر، فمن جملة
ما قاله في هذا الخصوص: "لقد تابعت برعب الروايات التي صدرت من إسرائيل يوم 7
تشرين الأول/ أكتوبر، عندما تمزقت حياة العديد من المدنيين الأبرياء في إسرائيل.
لا يمكننا أن نعيش في عالم تصبح فيه عمليات الإعدام والحرق والاغتصاب والقتل أمرا
طبيعيّا، إنها أكثر الأفعال المنافية للإسلام ولا يمكن ارتكابها باسم دين معناه
السلام. وتمثل هذه الأفعال بعضا من أخطر انتهاكات القانون الإنساني الدولي".
هل وظيفة المدعي العام أن يشعر بالرعب المبني على روايات كاذبة من
قبيل الاغتصاب والحرق، أم أن من واجبه القيام بالتحقيق في هذه الادعاءات ومدى
مصداقيتها لتجهيز الأدلة ولوائح الاتهام، ما الفرق بين خان وبلينكن ونتنياهو الذين
شعروا بنفس الشعور المبني على نفس الرواية، ونظموا
حرب إبادة ضد الشعب الفلسطيني
غير مسبوقة في التاريخ الحديث.
عبارات كريم خان كان يمكن أن تكون محايدة هادئة بأن يقول مثلا: "قرأت
تقارير حول أحداث السابع من تشرين الأول/ أكتوبر، وما رافقها من أحداث قد ترقى إلى
جرائم تدخل في اختصاص مكتبي، لكن الوقت مبكر، وأنه يتوجب التحقيق في الادعاءات قبل
الخلوص إلى نتائج في هذا الصدد"، لكن خان ارتضى لنفسه بأن يكون جزءا من
الدعاية السوداء، التي بررت المذابح وتبرر الاستمرار في حرب الإبادة.
وعندما انتقل إلى الحديث عما ترتكبه إسرائيل في قطاع
غزة خفتت نبرته
وهدأت أعصابه، بل امتدح جيشا ارتكب أفظع الجرائم منذ مئة عام، منذ أن كان مجرد
عصابات (هاجاناه، شتيرن، آرجون، ليحي، بلماح) وحتى اليوم فقال: "تمتلك
إسرائيل جيشا محترفا ومدربا جيدا، لديهم جنرالات محامون عسكريون ونظام يهدف
إلى ضمان امتثالهم للقانون الإنساني الدولي. ولديهم محامون يقدمون المشورة بشأن
قرارات الاستهداف، ولن يتعرضوا لأي سوء، فهم فيما يتعلق بالتزاماتهم، أو أنهم يجب
أن يكونوا قادرين على المحاسبة عن أفعالهم، سيتعين عليهم إثبات أن أي هجوم يضر
بالمدنيين الأبرياء أو الأعيان المحمية، يتم وفقا لقوانين وأعراف النزاع المسلح،
كما سيتعين عليهم إثبات التطبيق السليم لمبادئ التمييز والحيطة والتناسب".
الجيش الذي يرتكب أفظع الجرائم في نظر خان مهني، لديه الإمكانيات
ليميز بين الأهداف العسكرية والمدنية، ولديه محامون يستطيعون أن يقدموا الأدلة على
ذلك، ألا يكفي من أدلة هذا الدمار الرهيب والضحايا الذين ارتقوا والذين تجاوز
عددهم 12 ألف والجرحى أربعين ألف! لن يكونوا قادرين سيد خان على إثبات أن أهدافهم
عسكرية، لماذا لم تقل مثلا؛ "إنني أشعر بالصدمة أو الرعب لهذا العدد المهول من
الضحايا والدمار، وأنه سيكون من الصعب إثبات عكس الاعتقاد السائد أنها جرائم حرب
(محتملة) تدخل في اختصاص المحكمة"؟
لماذا بدأت الحديث عن هذا الجيش بوصفه مهنيا، ونصبت نفسك حكما على
أفعال طرف، ومستشارا قانونيا لجيش شن خمسة حروب مدمرة على قطاع غزة، وثبت أنه جيش
بربري يستخدم التكنولوجيا والقنابل للفتك بالفلسطينيين، كما يستخدم المحامين الذين
ذكرت والماكينة الإعلامية لغسل جرائمه.
لقد كان خان في مقاله حاسما جازما مستلا سيفا بتارا في مواجهة الطرف
الآخر في إساءة فاضحة للضحايا، أما في مواجهة المعتدي السفاح، فكان نعامة لا تبصر
ما حولها أكاديميا، وكأنه يلقي محاضرة على تلاميذ في صف جامعي، فتابع تقديم المشورة
لهؤلاء التلاميذ الأبرياء بالقول: "وبالنسبة للمسؤولين عن الاستهداف وإطلاق
الصواريخ، أود أن أوضح ثلاث نقاط على وجه الخصوص. أولا: بالنسبة لكل مسكن،
بالنسبة لأي مدرسة، أي مستشفى، أي كنيسة، أي مسجد، تلك الأماكن محمية، إلا إذا
فقدت صفة الحماية لأنها تستخدم لأغراض عسكرية. ثانيا: إذا كان هناك شك في أن
الأعيان المدنية قد فقدت حالة الحماية الخاصة بها، فيجب على المهاجم أن يفترض أنها
محمية. ثالثا: يقع عبء إثبات فقدان هذه الحماية على عاتق أولئك الذين يطلقون
النار أو الصاروخ المعني".
لقد سكت خان دهرا ونطق كفرا، وأكدت المذابح التي ترتكب في قطاع غزة أنه كغيره من قادة الغرب الاستعماري، وقع رهينة لأحداث السابع من تشرين الأول/ أكتوبر، فألم الإسرائيليين هو الأعظم، أما آلام وعذابات أكثر من 2.3 مليون إنسان، فهم لا شيء، لا يستحقون من كريم خان أي إجراء عملي.
هذا الانحطاط الذي وصل له خان، بدأه بعد استفاقة من سبات عميق استمرّ
29 شهرا على توليه منصبه كمدع عام، خلالها
لم يصدر عنه أي تصريح يتعلق بملفات الجرائم المرتكبة في فلسطين والمعروضة على مكتب
الادعاء العام منذ حزيران/ يونيو 2014، وبعد 22 يوما من بدء حرب الإبادة الجماعية
على سكان قطاع غزة، حيث ظهر أمام معبر رفح بوابة الجحيم، التي لو أطل منها للفحته
النيران التي تحرق أهل غزة، لكنه في حينها آثر التباكي على الضحايا الإسرائيليين، وهدّد وتوعد بالتحقيق في الجرائم المرتكبة ضدهم، وأمام محرقة غزه كان رجل إغاثة
يستجدي دخول المساعدات الإنسانية، وينتقي عبارته في وصف القصف الجاري للسكان
المدنيين .
ولعل أحداث أوكرانيا تفضح الرجل أكثر وأكثر، ففي أوكرانيا وخلال أشهر
من اندلاع الاشتباكات، أنهى تحقيقاته الرسمية وتفقد أماكن القصف في أوكرانيا أكثر
من مرة، وانخرط في لقاءات ومؤتمرات سياسية ليست من اختصاصه، بل إن أكثرها من تنظيم
أجهزة مخابرات دولية، ودفع باتجاه إصدار مذكرة توقيف بحق بوتين، وهو ما حدث بالفعل
ولم يأت على ذكر أو التحقيق في أي جرائم ارتكبها الجيش الأوكراني بحق المدنيين.
لقد سكت خان دهرا ونطق كفرا، وأكدت المذابح التي ترتكب في قطاع غزة
أنه كغيره من قادة الغرب الاستعماري، وقع رهينة لأحداث السابع من تشرين
الأول/ أكتوبر، فألم الإسرائيليين هو الأعظم، أما آلام وعذابات أكثر من 2.3 مليون إنسان فهم
لا شيء، لا يستحقون من كريم خان أي إجراء عملي، أو حتى إفراد بيان أو مقال محكم عن
الجرائم، بعيدا عن تاريخ السابع من تشرين الأول/ أكتوبر، وليبدأ مثلا من تاريخ السابع
من حزيران 1967 أو حتى قبل 16 عاما، عندما فرضت إسرائيل حصارا مدمرا على القطاع، وشنت عليه خلاله خمسة حروب.
منذ تولي خان منصبه في حزيران/ يونيو 2021 لم يتوسم به المراقبون
والخبراء أي خير، فمع تقدم الأيام بدا أنه غير مهتم بملفات فلسطين، وفاحت رائحة
كريهة بعد أن توقف المسؤولون والإعلام الإسرائيلي عن مهاجمة مكتب المدعي العام فور
توليه المنصب، كما حدث مع فاتو بن سودة، فقد تم شيطنتها وطاقمها إلى حد فرض عقوبات
عليهم من قبل الإدارة الأمريكية.
لا يوجد آلية في نظام روما الأساسي المنشئة للمحكمة الجنائية الدولية
تنص على مراقبة أعمال النائب العام وسلوكه، فهو حر طليق يستطيع ان يفعل ما يحلو له، سوى ما ينصب عليه من سهام النقد من قبل منظمات حقيقية وخبراء قانون ومحامين وضحايا
في وسائل الإعلام، ولعل هذا ما دفعه إلى الظهور المفاجئ أمام معبر رفح.
الحل هو أن تجتمع الجمعية العامة للدول الأعضاء بشكل طارئ، وتعمل على
إقرار تشريع يقضي بطرد النائب العام بشكل فوري وتنظيم انتخابات جديدة، مع تشريع
آلية قضائية مستقبلية لمراقبة أعمال أي شخص يتولى المنصب وفريقه وتضمن شفافيته
ونزاهته، وإلا فإن الضرر الجسيم الذي ألحقه خان بالمحكمة سيعيق عملها ويجعلها
مشلولة أضحوكة في العالم.
إن كان اليأس هو سيد الموقف من خان ومكتبه ومحكمته، لا يمكن ترك
الجرائم التي ترتكبها إسرائيل دون محاسبة أو ملاحقة، فلا بد من تشكيل محكمة خاصة
على غرار المحاكم الخاصة التي شكلت في يوغسلافيا السابقة ورواندا، فهذا النوع من
المحاكم هو الأقدر على ملاحقة مرتكبي الجرائم الخطيرة لإنصاف الضحايا وتحقيق الردع
العام والخاص.