لم يكن خطاب الأمين العام لـ "
حزب الله" السيد حسن نصر لله
مفاجئا، سواء لقاعدته الشعبية أو لأولئك الذين كانوا يتمنون منه إعلان
الحرب على
إسرائيل، فقرابة الشهر من الحرب الإسرائيلية الشرسة على أهالينا في قطاع
غزة، مع
اقتصار الجبهة الشمالية لفلسطين المحتلة على مناوشات عسكرية مدروسة من كلا
الجانبين الإسرائيلي و"حزب الله"، يؤكد أن ما سمي بساحات "المقاومة
والممانعة" ليست واحدة ومتكاملة.
فأوجاع غزة لم تسمع كما يجب لا في لبنان وجنوبه، ولا في سوريا، ولا
في إيران، ناهيك عن مصر والسعودية وباقي البلدان العربية.
نعم، لقد جانب الصواب السيد نصر لله في حديثه عن عظمة عملية
"طوفان الأقصى"، وعن الهوان والضعف العربيين، وقد أصاب كبد الحقيقة حين
قال إن انتصار المقاومة في غزة هو انتصار لمصر والأردن ولبنان وسوريا وباقي
البلدان العربية.
في هذا الجانب ـ وأمام حالة الخذلان والدعم الذي تبديه بعض الأنظمة
العربية لإسرائيل للقضاء على المقاومة في غزة ـ يبدو خطاب السيد نصر لله صادقا
يعبر عن مشاعر حقيقية داعمة لغزة، لا شك في ذلك.
غير أن الأمين العام لحزب لله، ومن ورائه محور "المقاومة
والممانعة" حاولوا إقناعنا على مدار سنوات طويلة بأنهم القلة التي
"اختارهم الله" لمواجهة الاحتلال الإسرائيلي وتقديم الدعم والمساندة
للمقاومة
الفلسطينية في غزة.
ووفقا لهذه السردية، التي تقول في إحدى تعبيراتها إن "طريق
القدس يمر من القصير السورية"، كنا نتوقع أن يبادر الحزب بعد مرور أسبوعين من
الحرب الإسرائيلية على القطاع أن يرفع مستوى القتال، من مجرد مناوشات وإطلاق بضعة
صواريخ لا تشكل تهديدا عسكريا للاحتلال، إلى شن هجمات قوية توقع قتلى في صفوف
الاحتلال.
لكن ما سمعناه هو كلام عام وفضفاض حين يجري الانتقال من المشاعر إلى
الفعل، فقد حاول نصر لله إقناع مستمعيه بأن الحزب منخرط في الحرب منذ اليوم الأول
للعدوان الإسرائيلي على غزة، في رد على الأصوات التي اعتبرت أن حدود المناوشات
الثانوية غير مؤثرة، ولا ترقى إلى مستوى اشتباكات خطيرة تهدد بحرب حقيقية، فقد
اعتبر أن عمليات الحزب في الجنوب أجبرت الاحتلال على إبقاء ثلث الجيش الإسرائيلي
ونصف القوات البحرية وربع القوات الجوية، مما يخفف الحمل عن مقاتلي حماس في غزة.
غير أن نصر لله لم يكتف بتوصيف الحال على الجبهة اللبنانية ـ
الفلسطينية فحسب، بل أعلن أن مسار الحرب على الجبهة اللبنانية ـ الفلسطينية مرتبط
بأمرين: أولهما يتعلق بتطور الأحداث في غزة، والثاني مرتبط بسلوك إسرائيل تجاه
لبنان.
تفرض علينا الأمانة القول بأن "حزب الله" بهذه المناوشات العسكرية التي أدت إلى استشهاد نحو ستين شخصا في الجنوب اللبناني بين لبنانيين وفلسطينيين، متقدم عن الدول العربية قاطبة، تلك الدول التي يمتلك بعضها مقدرات اقتصادية كبرى وبعضها الآخر مقدرات عسكرية وبشرية، بما فيها مصر التي ظهرت سيادتها منقوصة على معبر رفح بين مصر وقطاع غزة.
نحن هنا أمام خطاب ممتلئ بالأيديولوجيا والشعارات، وهو نفسه الذي قال
في منتصف خطابه أن عملية "طوفان الأقصى" والحرب الإسرائيلية على غزة حدث
تاريخي مفصلي يختلف تماما عما جرى في السابق.
ألا يستدعي هذا الحدث التاريخي والمفصلي رد فعل من الحزب ومحور
"المقاومة والممانعة" رد فعل يتناسب مع اللحظة التاريخية والمفصلية.
كان الأجدى بالأمين العام لـ "حزب الله" التحدث بلغة
سياسية واقعية تعكس حالة المأزق والارتباك في "المحور المقاوم": لم يعد
الحزب بعد حرب تموز عام 2006 قادرا على التحرك عسكريا كما كان الأمر قبل ذاك
التاريخ أولا، وهو يدرك أن فتح جبهة عسكرية سيُستتبع برد عسكري إسرائيل لا يتحمله
لبنان بما قد يؤدي إلى انفجار الوضع الداخلي ثانيا، فضلا عن عدم رغبة طهران في هذه
المرحلة من التوافق مع الولايات المتحدة بشأن البرنامج النووي أن تعيد خلط الأوراق
بعد مسار طويل من المفاوضات ثالثا، وأيضا عدم رغبة النظام السوري بفتح جبهة الجنوب
اللبناني بعدما تلقت دمشق تحذيرات من أبو ظبي من مغبة القيام بذلك بما ينعكس سلبا
على العلاقات الإماراتية ـ السورية رابعا.
لم يحدثنا نصر لله عن هذه المعطيات الواقعية التي تحول دون اتخاذ
"محور المقاومة والممانعة" بقرار الحرب على إسرائيل في هذا المفصل
التاريخي الخطير الذي قد يؤدي، إذا ما تم القضاء على المقاومة في غزة، إلى السقوط
الأخلاقي والسياسي لهذا المحور.
ومع كل ذلك، تفرض علينا الأمانة القول بأن "حزب الله" بهذه
المناوشات العسكرية التي أدت إلى استشهاد نحو ستين شخصا في الجنوب اللبناني بين
لبنانيين وفلسطينيين، متقدم عن الدول العربية قاطبة، تلك الدول التي يمتلك بعضها
مقدرات اقتصادية كبرى وبعضها الآخر مقدرات عسكرية وبشرية، بما فيها مصر التي ظهرت
سيادتها منقوصة على معبر رفح بين مصر وقطاع غزة.
ليس هدف هذا المقال مهاجمة "حزب الله" ولا مهاجمة أمينه
العام، فالقصد هو أن الحدث التاريخي الذي تمر به غزة يفترض لغة واقعية توضح طبيعة
محور "المقاومة والممانعة" وقدراته وحدود تأثيره، بدلا من الوعد والوعيد
والتهديد.
لقد مر أقل من شهر على الحرب الإسرائيلية الغاشمة على القطاع، استشهد
فيها نحو تسعة آلاف شخص، وأصيب عشرات الآلاف، ودمرت أكثر من نصف مباني القطاع: أبعد كل ذلك، هل المناوشات العسكرية على الجبهة اللبنانية ترتقي إلى مستوى الحدث؟