القصف الهمجي والوحشي الصهيوني على قطاع
غزة مستمر، والعدوان طوال الأيام
المنقضية من الشهر الأول محسوبة بالدم الفلسطيني الذي تحمله أخبار العدوان وأرقامه
الفظيعة، من حجم المذابح المستمرة على مدار الوقت.. كل ساعة حولت حياة أكثر من
مليونين وربع المليون من الفلسطينيين إلى جحيم يتعاظم بفعل جرائم الإبادة المستمرة
واستهداف كل مقدرات الحياة؛ لتصبح من حياة السكان صعبة مع إحداث كم فظيع من الألم في
المجتمع الفلسطيني؛ محو أحياء سكنية، إبادة لأسر كاملة، ضرب البنية التحتية
المتهالكة بالأصل بفعل الحصار الإسرائيلي الطويل، ونتيجة الفشل الأخلاقي الدولي
والعربي المذبحة مستمرة على مرأى ومسمع منه.
وعليه، كل تفسير عربي رسمي مرتبط بتفسيرات غربية وأمريكية، يعطي أولوية
للمصلحة الصهيونية في حرب الإبادة الجارية على قطاع غزة، ويعكس الرغبات المتعلقة
بالتخلص من ظاهرة
المقاومة في غزة، وهو ما ظهر في اتصالات الولايات المتحدة مع
أطراف عربية منذ بداية العدوان، وكرره وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن على
مسامع وزراء وقادة عرب وعلى مسامع شعوبهم في العواصم العربية، أن لإسرائيل حقا
مطلقا بالدفاع عن نفسها وبدعم غير محدود من أمريكا بالمال والعتاد.
ووُجهت الدعاية الأمريكية نحو هدف واحد هو "دعم وتأييد إسرائيل"،
وفي هذا السبيل شنت أمريكا وإسرائيل والغرب، حملة لمحاولة ربط غزة بالإرهاب،
مقاومة وشعبا، واللذين يمثلان عائقا رئيسا في طريق "السلام" والتطبيع
العربي مع إسرائيل، بحسب التفسير الإسرائيلي والأمريكي، حيث سمع المبعوث الأمريكي
السابق لعملية السلام "دينيس روس"؛ كلاما من عواصم عربية عن ضرورة
التخلص من "حماس" في غزة لإكمال كل المشاريع. وتابع روس: "إسرائيل
ليست الوحيدة التي تعتقد أن عليها هزيمة حماس"، مضيفا: "خلال الأسبوعين
الماضيين، عندما تحدثت مع مسؤولين عرب في أنحاء مختلفة من المنطقة أعرفهم منذ فترة
طويلة، قال لي كل واحد منهم إنه لا بد من تدمير حماس في غزة".
لم يخرج أحد من عرب دنيس روس لينفي الرغبة، على العكس، تقود مراقبة الأوضاع
في قطاع غزة لنفس القناعة التي خرج بها الأمريكي والإسرائيلي، من أن هناك رغبة
عربية في تدمير المقاومة الفلسطينية التي تشكل مرآة عار مستمر لسياسة عربية تخذل
قضيتها المركزية.
ومع دخول العدوان شهره الثاني لم نسمع كلاما عربيا عن حق الشعب الفلسطيني
بالدفاع عن نفسه، وهذه إشارة مهمة وقوية بالحد الأدنى العربي "المساند"
له؛ كون الفلسطينيين يرزحون تحت الاحتلال، بل إن معظم المواقف العربية استندت
للتقويم الصهيوني الذي بدأ في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر الماضي عندما شعرت إسرائيل
أن وجودها قد اهتز مع عملية طوفان الأقصى، وبالتالي المواقف المائعة عربيا عن
وقوفها بجانب القضية الفلسطينية والدعوة لتطبيق قرارات دولية، هي التي دفعت
المؤسسة الصهيونية منذ ثلاثة عقود إلى تطبيق مقولة إسحاق شامير الشهيرة بجرجرة
العرب عشرات السنين خلف هذه المقولة المتعلقة بالسلام، وتنفيذ الاستيطان والسيطرة
على الأرض.
ويعلم الساسة العرب هذه الحقائق وما أدت إليه السياسات العدوانية الصهيونية
على الأرض، وتعلم السلطة الفلسطينية ذلك، ولكن للأسف الجميع يضبط توقيته على
التقويم الصهيوني للأحداث، وتحت ضغط أمريكي أعلن دخوله المعركة المباشرة ضد
الفلسطينيين من خلال إرسال السلاح والأساطيل العسكرية للمنطقة. وتلك إشارة مهمة إلى
أن سياسة الولايات المتحدة الخارجية تحديدا في المنطقة العربية ليست سياسة أمريكية
بقدر ما تحمل المصلحة والسياسة الإسرائيلية في مقدمة اهتماماتها، كما عبر الوزير
بلينكن في جولته الأخيرة وعقده قمة مصغرة مع وزراء عرب في العاصمة الأردنية عمان.
تمتلئ الأخبار الفلسطينية من غزة بفائض كبير من الدم والجثث والحطام، ويمتلئ
الواقع العربي بكم هائل من الأسئلة الموجعة والمخجلة في تاريخ العرب المعاصر؛ عن
العجز والتقصير بالقدرة على إنقاذ رضيع من تحت الركام، وعن التآمر والتخاذل عن دعم
الحق الفلسطيني، والتراجع والهزيمة أمام العدوان، وعن الذل والصمت والتركيع لشعوب
عربية ترفض الهوان، وعن الضمير الغائب وعن الحقد والنفاق والنزعة التهجمية
الاستعلائية على كل من يقاوم المحتل.
غزة ليست قوة عظمى ستواجه أساطيل أمريكا وترسانة عسكرية صهيونية تمارس
الوحشية على جغرافيا ضيقة ومكتظة بسكانها، لكنها هزمت أباطيل العجز وتصنع التاريخ
بدم الشهداء؛ غزة التي أنهت زمن وقوف زعامات عربية على المنابر، ولأنها كشفت عن
الخديعة الكبرى والوهم الأكبر بأن جيوش وعسكر العرب يقفون أمام قوة لا تقهر، وأمام
جيش لا يُهزم. وكل هذه الجلبة من التآمر والخذلان هي محاولة النظام الرسمي العربي
العودة للنوم في مستنقع الوهم الكبير، لكنها غزة الكاشفة وليست "غزة غراد"
التي يراقب الجميع فيها وهما آخر لراية بيضاء ترفع على أحيائها المدمرة.