منذ حملته الانتخابية لرئاسيات سنة 2019، كانت الجملة السياسية للمرشح قيس سعيد تدور حول محورين: أولا، انتهاء
زمن الأحزاب والديمقراطية التمثيلية، ثانيا عدم امتلاكه لبرنامج واعتبار نفسه مجرد
أداة لتنفيذ الإرادة الشعبية في تسيير الداخل وفي التعامل مع القضايا الخارجية. وبعد
إجراءات 25 تموز/ يوليو 2021 -وبصرف النظر عن توصيفها
المتنازع فيه ما بين الانقلاب وتصحيح المسار- أظهرت العودة للإرادة الشعبية في
محطاتها الثلاث (الاستشارة الالكترونية، الاستفتاء على الدستور، الانتخابات
البرلمانية) وجود هوّة كبيرة بين دعوى الرئيس احتكار تمثيل الإرادة الشعبية
باعتبارها "السلطة الأصلية" وبين واقع التصويت الذي أظهر أن "الشعب
المتخيل" في الخطاب السلطوي لا يطابق الشعب الحقيقي العازف عن صناديق
الاقتراع أو الرافض صراحة لتوجهات النظام. ولكنّ الرئيس لم يأبه بهذه المفارقة ولم
يراجع سياساته، بل نراه يمضي في "التأسيس الجديد" ويجمّع كل السلطات بين
يديه بصورة غير مسبوقة حتى في زمن المخلوع.
رغم أن مناصرة القضية
الفلسطينية كانت أحد نقاط القوة في
حملة المرشح قيس سعيد في مقابل منافسه نبيل القروي المتهم بالتواصل مع جهات
"صهيونية"، ورغم تأكيد المرشح سعيد على أن "
التطبيع خيانة عظمى"،
فإن شكوكا قوية حامت حول هذا الموقف بعد وصوله إلى سدة الرئاسة. فالرئيس الذي وعد
بـ"تجريم التطبيع" لم يضغط بهذا الملف على مجلس النواب -والحال أنه
يمتلك الأولوية في المبادرات التشريعية حسب الدستور
التونسي لسنة 2014- كما إن الرئيس
لم يظهر إلى حد هذه اللحظة أي تعاطف مع ملف اغتيال الشهيد الزواري ولم يوجّه
السلطات القضائية -كما فعل في ملفات أخرى- إلى الحرص على إظهار الحقيقة فيه، ولم
يبادر إلى منح الجنسية التونسية لأرملته الفلسطينية رغم منح تلك الجنسية لأحد
أبواق دحلان في بلادنا.
رغم أن مناصرة القضية الفلسطينية كانت أحد نقاط القوة في حملة المرشح قيس سعيد في مقابل منافسه نبيل القروي المتهم بالتواصل مع جهات "صهيونية"، ورغم تأكيد المرشح سعيد على أن "التطبيع خيانة عظمى"، فإن شكوكا قوية حامت حول هذا الموقف بعد وصوله إلى سدة الرئاسة
ولكن أقوى الشكوك جاءت من تقاربه مع محور "التطبيع
العربي" أو محور الثورات المضادة بمكوّناته المعروفة (الإمارات، السعودية،
مصر.. الخ). فكيف يمكن لمن يعتبر "التطبيع خيانة عظمى" أن يعتبر رمز
المطبّعين في الانقلاب العسكري المصري "أخاه"، وأن يتنافس وزراؤه في
الإشادة بالتجربة المصرية وضرورة الاستفادة منها؟ وكيف يمكن لمن يعتبر
المقاومة حقّا
يشتغل ضد تزييف التاريخ وضد النسيان أن يتماهى مع السردية الفرنسية فيرى في الاستعمار
"حماية"، وأن يطلب من فرنسا عدم الاعتذار عن ماضيها الاستعماري في تونس لأن
"من يعتذر يتهم نفسه"؟ بل كيف يمكن لمن يحمل مشروعا للتحرير الوطني أن
يهبّ لنجدة فرنسا بتحويل تونس إلى قاعدة متقدمة للفرنكفونية بعد أن خسرت أهم
قلاعها جنوب الصحراء؟
لقد كانت هذه الشكوك المشروعة والقوية تحول دون أخذ السردية
الرئاسية المناصرة للحق الفلسطيني والداعية إلى التحرير الوطني على مأخذَ الجد؛
حتى جاء "طوفان الأقصى". فهذا الحدث المفصلي في تاريخ الصراع مع المشروع
الصليبي- الصهيوني في المنطقة العربية، يمكن أن يتحول إلى حدث "تأسيسي"
لا ينفصل فيه مشروع التحرير الوطني لتونس عن مشروع التحرر القومي من الكيان. فما
يُسميه الرئيس بمشروع "التحرير الوطني" كان منذ 25 تموز/ يوليو 2021 منحصرا في
مهاجمة الخصوم السياسيين وشيطنتهم، وتدجين المؤسسات وتهميش المجتمع المدني.
ورغم رفض الرئيس "خطابيا" لإملاءات الجهات
المانحة/ الناهبة، فإن إخراج "منظومة الاستعمار الداخلي" من معادلة التحرير
-أو بالأحرى استمرار علاقة التعامد الوظيفي بينها وبين الرئيس- يجعل من مشروع
التحرير مجرد مجاز لا محصول له. كما أن العلاقة القوية مع "محور التطبيع
العربي" ينفي عن أي إسناد للمقاومة أو رفض للتطبيع أية جدية. فهل نستطيع أن
نعتبر أن المواقف المشرفة لتونس -مقارنة بالمواقف العربية الأخرى- هو بداية للربط
الجدلي بين مشروع التحرير الوطني والتحرر القومي عبر بوابة القضية الفلسطينية، وهو
أيضا بداية لتحولات جذرية في علاقة تونس بمحور التطبيع، بل بكل القوى الإقليمية
والدولية المنحازة للكيان الصهيوني؟
مهما كان موقفنا من الرئيس التونسي، فإن انحيازه الواضح
وغير المشروط للقضية الفلسطينية قد مثّل إحراجا كبيرا لمحور التطبيع ولرعاته في
الغرب. فالرئيس التونسي قد أعاد القضية إلى مدارها الصحيح، أي باعتبارها قضية
احتلال لا يمكن أن تواجه إلا بالمقاومة. كما أن الرئيس -على خلاف أغلب الزعماء
العرب- قد أنصت فعلا إلى نبض الشارع التونسي المنحاز إلى فلسطين التاريخية، وليس
إلى فلسطين 67 أو فلسطين اتفاقيات السلام المذلّ أو فلسطين "صفقة
القرن".
استمرار الأزمة السياسية في تونس وتواصل منطق "التنافي" بين الرئيس والكثير من الفاعلين الجماعيين -بالإضافة إلى الأزمة الاقتصادية الحادة- هي كلها وقائع يجب على الرئيس وخصومه أن يفكروا فيها بعقل سياسي مختلف. فاللحظة التاريخية تستوجب طريقة مستأنفة في إدارة الشأن الداخلي بعيدا عن الإقصاء والشيطنة والاستهداف الأمني- القضائي. ذلك أن مشروع التحرير الوطني أو إسناد المقاومة هما مطلبان حقيقيان من مطالب "الإرادة الشعبية"
ولا شك في أن تونس-حكومة وشعبا- ستدفع ثمن هذا الموقف
المشرّف، فلا يمكن للعلاقات مع "محور التطبيع العربي" أن تعود كما كانت،
ولا يمكن أيضا للقوى الصهيو- مسيحية المسيطرة على شبكات التمويل وعلى الإعلام في
العالم أن تنسى للرئيس وللتونسيين هذا الموقف الذي ساهم في رفع الغطاء العربي
الرسمي عن الجرائم الصهيونية في
غزة. ولكنّ الأهم من ذلك كله أنّ تونس يجب أن تعيَ
جيدا أنّه لا معنى لتجذير الموقف المناهض للصهيونية ولإملاءات قوى النهب الدولي
ولا مستقبل لمشروع التحرير الوطني؛ دون تقوية الجبهة الداخلية.
إن استمرار الأزمة السياسية في تونس وتواصل منطق
"التنافي" بين الرئيس والكثير من الفاعلين الجماعيين -بالإضافة إلى
الأزمة الاقتصادية الحادة- هي كلها وقائع يجب على الرئيس وخصومه أن يفكروا فيها
بعقل سياسي مختلف. فاللحظة التاريخية تستوجب طريقة مستأنفة في إدارة الشأن الداخلي
بعيدا عن الإقصاء والشيطنة والاستهداف الأمني- القضائي. ذلك أن مشروع التحرير
الوطني أو إسناد المقاومة هما مطلبان حقيقيان من مطالب "الإرادة
الشعبية"، ولكنّ هذه الإرادة لا يمكن أن تُختزل في أي شخص أو كيان، كما لا
يمكنها أن تتجلى تحت سقف الخطابات العربية التقليدية التي تتفصّى من مسؤوليتها
الخاصة (مثل "دعوة المجتمع الدولي للتدخل" أو التوجه للإنسانية وتحميلها
مسؤوليتها الأخلاقية والسياسية، أو التذلل للقوى الدولية وهي كلها
"أصنام" لا تسمع ولا تجيب إلا نداءات تل أبيب).
ولا معنى حاليا للمزايدات أو لسياسات النفي المتبادل، فكل
التونسيين في مركب واحد ولن ينجوَ أحد إلا بنجاة البقية. فهل سيكون "طوفان
الأقصى" قادرا على خلخلة الوضع التونسي من جهة الواقع والسرديات المتنازعة،
أم أنه سيكون مدخلا جديدا لتكريس حرب "الهويات القاتلة" التي ما جاء
"الطوفان" إلا لمقاومة سرديتها "المُعولمة" (أي السردية
الصهيو- صليبية) وفضح من والاها من صهاينة العرب العاربة والمستعربة؟
twitter.com/adel_arabi21