كتب

نجاتي صدقي.. قراءة في مذكرات شيوعي تسلط الضوء على جزء من تاريخ فلسطين

اشتغل نجاتي صدقي في دائرة البريد والبرق في القدس حتى أواخر سنة 1924 ومن خلال مهنته اكتشف الحركة الشيوعية وانتسب إليها وسافر إلى موسكو ليتلقى تعليمه هناك وتأطيره سياسيا.
الكتاب: "مذكرات نجاتي صدقي"
الكاتب:  نجاتي صدقي
التقديم والإعداد: حنا أبو حنا
الناشر: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 2001
عدد الصفحات: 243

ـ 1 ـ


لمذكرات نجاتي صدقي أهمية خاصّة لأنها تكشف لنا بأسلوب أدبي أمرين على قدر من الأهمية:

ـ بدايات تشكل الفكر الاشتراكي في فلسطين ودور اليهود الوافدين من أوروبا الشرقية في نشره.
ـ معاناة الكاتب عندما لم يبد الخضوع الذي يفرضه الالتزام الحزبي الشيوعي.

ولئن توسع الكاتب في عرض المحور الأول فإنه ذكر الثاني بكثير من الاستحياء. وستعمل المخرجة المصرية أمل رمسيس في فيلمها الوثائقي "تأتون من بعيد" ملء هذا الفراغ فتعرض ما لحق بأسرته من الأذى والتشرد وما كابده هو من الألم، حتى أنه كان يعتبر المرحلة الفاصلة بين 1924 تاريخ سفره إلى موسكو وانتسابه إلى جامعتها العمالية و1939 تاريخ فصله من الحزب، صندوقا مغلقا لا يجب فتحه.

ـ 2 ـ

للفصل الأول أهمية خاصّة في هذه المذكّرات، لما فيه من توثيق لبداية انتشار الفكر الاشتراكي في فلسطين وفي الشرق عامة. فقد جلبت الهجرة اليهودية إلى فلسطين معها أفكاراً غريبة عن البيئة العربية الفلسطينية مدارها على أسماء لمفكرين أو قادة مثل ماركس ولينين وتروتسكي وعلى البلشفية والفوضوية التي تتخلّص من الحكم الهرمي المفروض من الدولة. فينسب نجاتي صدقي هذه الأفكار إلى بعض العمال اليهود المتأثرين بمبادئ الثورة البلشفية وإلى حركاتهم عمالية.

فقد كانوا يبثون الدعاية لأفكارهم اليسارية بين العرب. ويدعون إلى تأسيس دولة اشتراكية يهودية في فلسطين على أنقاض دولة إسرائيل البورجوازية. وكانوا يعتقدون أنّ حل المشكلة العربية في فلسطين لا يكون إلا بدمج العرب باليهود عن طريق التجنيس واختلاط العرقين بغاية صهر المكوّن العربي في الدولة الاشتراكية اليهودية. ذلك أنهم لم يكونوا يعترفون بالكيان العربي. ويجدونه أعجز عن اعتناق المذهب الاشتراكي لتخلفه.

ـ 3 ـ

ضمن هذا الأفق تشكلت نواة لمعارضة يسارية. فيعرض نجاتي وجوها من الاختلاط بين العرب وطوائف يهودية كثيرة كبقايا اليهود المستعربين الذين نزحوا من إسبانيا بعد انهيار الحكم العربي في أواخر القرن الخامس عشر الميلادي و"الأشكنازي" وهم يهود النمسا الذين هاجروا إلى فلسطين قبل الحرب العالمية الأولى لاعتبارات دينية.. و"الكرجي" وهم بقايا اليهود الأشوريين. ومن علامات تبادل التأثر والتأثير بينها اختلاط الأزياء "اختلاطاً عجيباً، كأن ترى فتاة يهودية ترتدي سروالاً قصيراً وقد عقدت الكوفية العربية على رأسها.. أو فلاحاً يرتدي عباءة ويحتذي نعلاً ثقيلاً من مخلفات الجيش البريطاني."

اتخذت هذه الحركة لنفسها اسم "حزب العمال لفلسطين" وسبب هذه التسمية المناورة تشكلها من أغلبية يهودية ساحقة على أن تتغير هذه التسمية متى تساوى العرب في الحزب مع اليهود، أو أصبحوا يمثلون الأغلبية. وبالفعل ففي سنة 1933 حظي الحزب بقبول الأممية الشيوعية. وأصبح يدعى "الحزب الشيوعي الفلسطيني".

وكان نجاتي عندها فتى يافعاً يعمل في دائرة البريد والبرق في القدس. وكان ينخرط في ما يدور بين الطوائف من المناقشات العقائدية أو الفكرية. "في هذا الجو نشأنا.. جحافل الاستعمار والصهيونية تجتاح فلسطين، وعقائد عالمية تغزو أفكارنا اللدنة، ونحن على استعداد لسماع كل شيء، ولقبول كل عرض بوضعه أن يرفع عنا كابوس الاحتلال الجديد الذي خلف الحكم التركي".

ـ 4 ـ

في فضاء العمل تعرف نجاتي إلى جماعة من الشباب المهاجرين الوافدين من روسيا، وكان مدار محاورتهم على كون:

ـ الاستعمار الإنجليزي هو عدو للعرب ولليهود على السواء.
ـ المهاجرون اليهود يتألفون من بورجوازيين أغنياء وعمال بائسين والصهيونية بالمقابل هي حركة بورجوازية تضمن مصالح الأغنياء اليهود فحسب.
ـ الأفندية العرب شأنهم شأن الصهاينة انتهازيون يتعاونون مع الاستعمار ولا خير يرجى منهم.
ـ حزب العمال هو لجميع سكان فلسطين. وهو وحده القادر على التوفيق بين مصالح الجماهير العاملة من الشعبين، وحل المشكلة الفلسطينية على أكمل وجه.

ثم دعوه إلى ناد لهم وناولوه نشرية باسم الإنسانية. ثم سألوه يوما وكان في التاسعة عشرة من العمر إن كان يرغب في السفر إلى موسكو ليدرس في جامعتها دون أن يتحمّل أي نفقات؟ وهكذا وقعت استمالته ليجد نفسه عضواً منتخبا في اللجنة المركزية للشبيبة يحضر اجتماعاتها السرية، ويسهم في نشر الدعوة  ثم يركب البحر إلى موسكو عبر إسطنبول ويقيم في نزل للأجانب مع معظم موظفي الكومنتون، أي مقر الدولية الشيوعية.

ـ 5 ـ

في موسكو انضمّ إلى بجامعة كوتف الستالينية واسمها الدقيق "الجامعة الشيوعية لفعلة الشرق"، تأسست عالم 1921 وتقبل مختلف "أبناء الشعب العامل". فتركز في تكوين طلبة الاتحاد السوفييتي على دراسة مجمل تاريخ روسيا حتى تأسيس الاتحاد وتبني النظام الاشتراكي وتُعدّهم لتولي مهام الإدارة والسلطات الحزبية والعامة في بلدانهم. وقد أمكن للكثير منهم إدارة الجمهوريات السوفييتية الشرقية. وتستقبل طلابا شرقيين تخضع بلدانهم للاستعمار الأوروبي عامّة. فيركز الدرس على تاريخ أوروبا الاستعماري منذ الزحف الصليبي حتى الاحتلال الإمبريالي في القرنين التاسع عشر والعشرين. وقد تخرج منها الكثير من السياسيين اليساريين في الشرق.

لقد كانت جامعة مختصّة في العلوم السياسية على نحو ما، لا تدرس إلا ماله علاقة بالسياسة والاقتصاد والاجتماع من منظور اشتراكي. وتتمثّل موادها في الاقتصاد السياسي والفلسفة الماركسية واللينينية والاستعمار والمسألة الوطنية والمادية الديالكتيكية وتاريخ الحركات الثورية في العالم وتاريخ الحركات النقابية، بحيث يمكن وصفها بجامعة علوم سياسية لتخريج الحكام في العالم.

وفي بداية العام 1929 أنهى صدقي نجادي دراسته بتقديم رسالته التي عنوانها "الحركة الوطنية العربية من الانقلاب الاتحادي حتى عهد الكتلة الوطنية" وإجازتها من قبل اللجنة المناقشة. وأضحى جاهزا للقيام للأدوار القيادية في فلسطين بإشراف منظمة الكومنترن.

ـ 6 ـ

وللمذكرات عامة وظيفة توثيقية وإن من منظور ذاتي يختلف عن منهج المؤرخين الصارم. ومن الأحداث العرضية التي وثّقها نجاتي أثناء دراسته في الجامعة كوتيف انتحار الشاعر الروسي الشاب "فرجي ايسنين". وتكشف التفاصيل التي أوردها طبيعة شخصيته المتمرّدة وروحه المفكرة خارج إطار تبعية الحشود وستفسّر نهاية صلته بالحزب الشيوعي بعد أزمة موقفه من اتفاق هتلر وستالين كما سنعرض لاحقا. فهذا الشاعر لم يكن يبدي الاهتمام الكبير بالحياة الاجتماعية في نصوصه الشعرية ويقتصر على تصوير القرية والأنهر والغدران والحب والحانات والأقمار والكواكب. وصادف أن تعرف على راقصة أمريكية فتبادلا الحب ولحق بها في فرنسا ليعود منكسرا ولينتحر في مستنقع بالقرب من لينينغراد. وحينما انتهى إليها خبره حزنت كثيرا ثم انتحرت بدورها في مدينة نيس سنة 1927.

يبدو أن نجاتي لم يكن ينظر بعين الرضا للحياة الاقتصادية والاجتماعية للسوفييت. فيمعن في وصف مشاهد البؤس الذي خلفته الحرب ويفصّل القول في تلك الأزمة الاقتصادية التي دعت لينين إلى تبني خطة "النيب" ومدارها تبني رأسمالية مراقبة من قبل الدولة لفترة محدّدة. والتسمية اختزال للعبارة "السياسة الاقتصادية الجديدة".
وتحوّل الحدث إلى موضوع جدل انقسم فيه الطلبة إلى فريقين، فأثنى الأول على شعره لخصائصه الجمالية وهاجمه الثاني وحمل عليه. وانتهى النقاش إلى قرار يمنع ديوانه من التداول لأنه لا يبدو متجاوبا مع الثورة "وظل يعيش في دائرة ضيقة من التغزل بالتربة والحب والحانة". وهذا القرار امتداد لموقف مكسيم غوركي. فعندما بلغه خبر انتحار ليستين قال "هو عضو أكثر منه إنسان!..

لقد أوجدته الطبيعة لقول الشعر فقط.. لوصف الحقول الحزينة، والإعراب عن الحب والحنان على كل ما هو حي في العالم". فالإنسانية من منظوره تتمثل الفعل في المجتمع، أي في مفهوم "المثقف العضوي" الذي سيظهر في فكر غرامشي لاحقا. ووجه الأهمية في هذه الحادثة تتمثل في انتصار نجاتي إلى الفريق المستعذب لشعر ليستين وميله إلى الفلسفة التي تجعل الممتع في الفن أهم من الجدوى.

وسيطرح مثل هذا النقاش في مؤتمر الكتاب المنعقد سنة 1934 وسيعلن تبنيه لنظريّة الواقعيّة الاشتراكيّة  وسيلزم مبدعيه بخلق فنّ "اشتراكيّ في المضمون واقعيّ في الشّكل"  يبحث عن الصّيغ الأكثر فاعليّة في توصيل مبادئ الفكر الاشتراكي للشعوب. فيكون المفكّر والمبدع تابعا للسياسي مؤتمرا بأمره وهو الدور الذي فشل في تقمصه. ومن هنا ستبدأ مأساته.

ـ 7 ـ

ويبدو أن نجاتي لم يكن ينظر بعين الرضا للحياة الاقتصادية والاجتماعية للسوفييت. فيمعن في وصف مشاهد البؤس الذي خلفته الحرب ويفصّل القول في تلك الأزمة الاقتصادية التي دعت لينين إلى تبني خطة "النيب" ومدارها تبني رأسمالية مراقبة من قبل الدولة لفترة محدّدة. والتسمية اختزال للعبارة "السياسة الاقتصادية الجديدة".

فيقول: "مخازن العاصمة خاوية، وواجهاتها لا تعرض إلا الصناديق والعلب الفارغة إلى جانب دمى عارية والناس يقفون أمام الحوانيت والمخازن الحكومية على شكل أذناب طويلة تعرف باسم "خفوست" والويل كل الويل لمن يحاول التقدم على مواطنه، فإذا ما فصل هبّت عليه عاصفة من السخط بعبارة "أوتشرد"، أي قف في الصف. فيرتد إلى مكانه صاغر الأنف مذعوراً. لكن يحق لكل فرد يقف في الكتب أن يترك مكانه لقضاء حاجة على أن يُشهد الشخص الذي يقف أمامه، والشخص الذي يقف خلفه بأنه كان بينهما". فضلا عن ذلك يمعن في وصف الأوضاع المزرية للأطفال المشردين في الشوارع فريسة للجوع والعراء بكثير من التعاطف.

ـ 8 ـ

حال عودته إلى القدس وجد نفسه ينضم إلى اجتماعات اللجنة المركزية للحزب الشيوعي ويزجّ به في السجن بسبب هذا الانتماء ثم فرض عليه انتماؤه إلى الشيوعية الدولية (الكومنترن) أن ينتقل إلى إسبانيا أثناء الحرب الأهلية لينضمّ إلى الجبهة الشعبية اليسارية بعد انقلاب المؤسسة العسكرية في يناير 1936  وكان فرانثيسكو فرانكو أحد قادته الذي سيحكم إسبانيا لاحقا حتى 1975 حكما ديكتاتوريا. فتولى إصدار الجريدة السرية "صوت الشعب" الموجهة للمتطوعين الأمميين من العرب لمدة ثلاث سنوات. فكان يمضي مقالاته باسم مصطفى بن جلا ليمنح توقيعه نغمة تستهوي "المورو" أي المغاربة الذين يحاربون ضمن معسكر فرانكو وكان عددهم نحو عشرين ألفا. ومما كتب مخاطبا إياهم "لقد انتنزع المستعمرون منكم أخصب أراضيكم أوليس من الجنون أن تقاتلوا وتسفكوا الدماء من أجل سيادة هؤلاء الأشقياء" وكان لمقالاته وقع وتأثير.

فقد كان الأسبان "يعثرون في جيوب الفارين والقتلى من المغاربة على نشرات مصطفى بن جلا". ولكنّ الأمور ستنقلب بعد معارضته  للاتفاقية الموقعة بين ممثل ستالين وممثل هتلر عام  1939 والتي تنص على بقاء ألمانيا النازية والاتحاد السوفيتي على الحياد في حالة تعرض أحد الطرفين لهجوم من طرف ثالث وتتضمن اتفاقا سرياً يقتسم شمال أوروبا وشرقها بين الطرفين. فقد وجد الرّفاق في موقفه تجاوزا لكل الخطوط الحمراء وجمدوا انخراطه في الحزب الشيوعي.

ـ 9 ـ

مما يرد في المقدمة التعريفية بالصحفي والكاتب ولا نجد في متن المذكرات أنه  من مواليد بيت المقدس في 15 مايو 1905. كان والده بكر صدقي مدرساً للغة التركية، وكان محباً للموسيقى والمسرح. وكان يصطحب ابنه إلى المسرح مسرح الريحاني ومسرح "السندكيس". زار بلدانا كثيرة رفقة والده ثم عاد إلى فلسطين واشتغل في دائرة البريد والبرق في القدس حتى أواخر سنة 1924 ومن خلال مهنته اكتشف الحركة الشيوعية وانتسب إليها وسافر إلى موسكو ليتلقى تعليمه هناك وتأطيره سياسيا. وبعد عودته ألقت الاستخبارات البريطانية عليه القبل فسجن لعامين، وفرضت عليه الإقامة الجبرية لعام ثالث.

ثم قدّر الكومنترن (الأممية الثالثة (1919 ـ 1943)، تلك المنظمة الدولية التي تعمل على نشر الشيوعية العالمية) بأن يسافر إلى باريس في سبتمبر 1933 ليصدر هناك صحيفة الشرق العربي الشهرية. ثم دبروا سفره إلى إسبانيا أثناء الحرب الأهلية لينضمّ إلى التحالف الانتخابي الإسباني اليساري الرئيسية بعد انقلاب من المؤسسة العسكرية واتجاه البلاد إلى الحكم الديكتاتوري بقيادة فرانثيسكو فرانكو وأوكلت له الدعاية في الأوساط المغربية. نشر في الصحف كتابا متسلسلا بعنوان "عربي حارب في إسبانيا". ثم كتب الأقصوصة وبعد انقطاعه عن العمل في صحيفة صوت الشعب وفصله عن الحزب انتقل إلى عواصم متوسطية كثيرة كانت أثينا آخرها حيث توفي في العام 1979. ولكنّ مذكراته تقتصر على المرحلة الفاصلة بين 1924 و1939 أي مرحلة انتسابه إلى الحركة الشيوعية العالمية.