أنا مثقف عضوي وقد قرأت قرامشي ويمكني أن أكتب مقالات كبيرة وأشحنها بألفاظ من قبيل الإمبريالية والصهيونية
والوحدة القومية، الأمر ليس إمكانا فقط إنه واجب، يجب أن أكتب من تلك المقالات
التي تقاد بها الجماهير نحو مستقبلها العظيم وأكون أنا في الطليعة طبعا، وخاصة في
موقع جنى الفيء في الساعات الأخيرة من المعارك الشرسة ضد.
ضد من في الحقيقة؟ لم أعد أعرف العدو أنا واقف في طابور الخبز مند الخامسة
صباحا، لقد فاتني خبز الساعة الرابعة صباحا فاستدركت على خبر السادسة إن لم أقف مستبقا
في الساعة الخامسة قد لا أحصل على غذاء أسرتي في خبز الحادية عشر.
صاحب المخبز يرمقني وآخرين بعين كارهة ونحن نتجاهله ونتلاعب بالهواتف منكبّين
كأننا يابانيون نخترع برمجية. صاحب المخبز من المتنفذين لذلك ما زال قادرا على
تدبر الطحين، غير أنه وهو يحاول التغطية على تلاعبه بالطحين يكره وقوفنا ببابه،
لقد فتح مخبزه في كهف عمارة بمواصفات إجرامية لكنه حاصل على شهادة من الحماية
المدنية تقول إن محله موافق للوقاية من الحرائق؛ ولو انفجر فيها أنبوب غاز لهدمت
العمارة بما فيها على من فيها، لكنه واثق من نفسه والحماية لا تتفقده، ويحصل على
قسطه وافرا من الطحين المدعوم.
ألتقط جُملا متناثرة عن أن البلد يسير في طريق سليمة وما دام الغنوشي في الحبس فستحل كل المشاكل وسنتقدم إنما يلزمنا صبر ساعات قليلة. يباركان الاتفاق مع الاتحاد الأوروبي حول تنظيم الهجرة، اسمع عبارات عنصرية عن الوصفان (الزنوج)
صاحب المخبز يصنع الكرواسون الصباحي بكميات مهولة، وقد صغر الحبة حتى صارت تؤكل
في قضمة واحدة دون فتح الفم على آخره وبسعر دينار ونصف (نصف دولار). الغريب أن
سيارات كثيرة تقف في الصباح وتشتري بكميات مخيفة وبمبالغ مرعبة وهو يبتسم لهم
ويعبس في وجوه منتظري الخبز. أنا مثقف عضوي وأنتظر الخبز وعليّ كتابة مقال فيه ألفاظ
قوية ضد الإمبريالية.
في الطابور يسبقني زميل من كلية منوبة مشهور جدا بمقالاته النقدية، وهو من
خبراء السرد والشعر وله باع في الحكم على الأطروحات (أنا من الأساتذة الصغار وهو
من الأعلام لذلك لا يعرفني). وليس من سكان حيي المتواضع فهو من سكان الرمانة حيث
وزعت الدولة مقاسم للجامعيين فبنوا فيلات راقية، يبتسم لمن معه ويتحدثان في
السياسة، ألتقط جُملا متناثرة عن أن البلد يسير في طريق سليمة وما دام الغنوشي في
الحبس فستحل كل المشاكل وسنتقدم إنما يلزمنا صبر ساعات قليلة. يباركان الاتفاق مع
الاتحاد الأوروبي حول تنظيم الهجرة، اسمع عبارات عنصرية عن الوصفان (الزنوج).
تأكلني يدي لصفع قفا سمينة، أخاف، رأيت سيارة الشرطة واقفة أمام المخبز
والأعوان يشربون قهوة على الرصيف المقابل. بالأمس حدثت فوضى هنا وانكسر الطابور. أنغرس
في هاتفي وأراقب نسوة ينزلن بملابس البيت لشراء الكرواسون، هل أنا في
تونس؟ نعم،
وأنا مثقف عضوي وقرأت قرامشي ويلزمني قيادة الجماهير.
أية جماهير يا عم؟ جماهير الطابور بمن فيهم زميلي خبير النقد الأدبي أم
نساء الكرواسون بالزبدة؟ أحتاج خبزا لخمسة أنفار ليومين حتى لا أقف في الطابور كل اثنتي
عشرة ساعة. عمّال المخبز لديهم تعليمات التقسيط، لكنهم يُخفون خبزا في أوعية تحت
المصطبة لقوم لا يقفون معنا في الطابور، وأنا مثقف عضوي وعليّ كتابة مقال مشحون ضد
الإمبريالية. عامل المخبز الجديد يمارس كمال الأجسام ولا يرد على صباح الخير، وإذا
لم تدفع بالفكة لا يرد لك الباقي. أنا مثقف عضوي وتراودني أفكار انتحارية لكني
ملزم بتدبر الخبز لخمسة أنفار. فيسبوك يوفر نكتا لا تضحكني عادة، لكني أنكب
عليها خوفا من عضلات العامل ومن الزميل خبير النقد الأدبي ومن سيارة الشرطة على
الرصيف المقابل.
هنا تونس مقبرة الأفكار المنطقية
أنا مثقف عضوي وأتدبر جُملا من قبيل الحمد لله ما زال الأوكسجين مجانيا في
تونس؛ عِوض جُمل من قبيل مقاومة الهيمنة الإمبريالية. الأستاذ الجامعي الكبير جدا
يدرس الشنفرى ويمجد الصعلكة، ويقف مع الانقلاب ويشعر بالسعادة لموت راشد الغنوشي، والغنوشي
لا علاقة له بالأدب لكن موته قد يطلق سراح الأدباء الكبار في كلية منوبة بؤرة
الحداثة التونسية.
يتأفف الأستاذ من الأفارقة ذوي الرائحة الكريهة ويشهر بياض بشرته كعنوان
اجتماعي. الشرطة تقف في الخارج ويراها الناس فتكف الفوضى ويقول من في الطابور
النظام أساس السعادة. أرتد إلى كهفي بخبز قليل وأقول لا بأس (سلكتها اليوم) ويا من
عاش لبكرة.. بكرة سأقوم لخبز الرابعة صباحا وألعب بهاتفي في الطابور وأسمع وأسكت
اجتنابا لمعارك بلا انتصارات.
ماذا جرى في البلد؟ أهذا هو البلد الذي أطلق ثورة الحريات العربية بعد قرون
من القهر؟ وقف عقلي عاجزا عن فهم منطق الأحداث. أين كانت تتخفى هذه الردة يوم
انطلق الناس من عقالهم يصرخون ضد عصابة السرّاق؟
ماذا تغير منذ بداية القرن العشرين حتى ثلث القرن الواحد والعشرين؟ نفس الأستاذ الذي يدرّس الشنفرى ويعتبر راشد الغنوشي سبب خراب تونس ويعتبر الانقلاب منقذا من الضلال، وهو يقف في طابور الخبز فرِحا مسرورا ولا يرى فرنسا وراء ما يصيبه من خراب
أين الخلل؟ كيف يفرط الناس في حريتهم وفي حقهم في
الاحتجاج على من يعبث بمصيرهم بل بخبزهم اليومي؟ كم يلزمني من جهد لعرض المعارف
العلمية المتعلقة بتفكيك الشخصية الأساسية لشعب من الشعوب؟ أنا عاجز وجاهل أمام
نخبة الشعب التونسي البيضاء التي تتأفف من الأفارقة وتفرح بالانقلاب على الحرية.
منكبّ هذه الأيام على قراءة سيرة مثقف زيتوني كان من
مسئولي جمعية الأحباس (الأوقاف) زمن الاحتلال. سفّرته فرنسا إلى ربوعها في نفس
الفترة التي كانت فيها تقمع احتجاج الشعب العام على حادثة التراموي أو حادثة القتل
العمد التي داس فيها التراموي جسد تونسي وعُرفت بأحداث الجلاز (1911)، هذا المثقف
الذي يخاف الله كثيرا وكانت له لحية مشذبة وجُبة من حرير؛ تمتع برحلته الفرنسية وكتب
عن دور الدولة الحامية في تنوير عقول الشعوب المتخلفة ومنها شعبه.
ماذا تغير منذ بداية القرن العشرين حتى ثلث القرن الحادي والعشرين؟ نفس الأستاذ الذي يدرّس الشنفرى ويعتبر راشد الغنوشي سبب خراب تونس
ويعتبر الانقلاب منقذا من الضلال، وهو يقف في طابور الخبز فرِحا مسرورا ولا يرى
فرنسا وراء ما يصيبه من خراب.
أنا مثقف عضوي ولا أجد شجاعة كافية لأثور أو لأنتحر،
واقف في طابور الخبز منذ الرابعة فجرا وقد أحمي نفسي وأسرتي بتمجيد الدولة الحامية
وأحقن صورة المثقف العضوي لطلبتي ولن أهتم بخيبتهم إذا وصلوا حيث وصلتُ، فالمثقف
العضوي درس كلاسيكي في قسم علم الاجتماع أما الهيبة فلا هيبة.