حينما نرى مأساة ضحايا العنف الذي يعصف
بأرواح أبرياء سوريا والعراق وليبيا واليمن وأخيرا السودان وتغول المحتل
الإسرائيلي في المدن الفلسطينية وآخرها جرائم اقتحام مخيم جنين والردود السريعة لجيل
مجاهد من أبناء فلسطين غيروا المعادلة الجائرة التي عودت المحتل الغاشم على الفرار
من المحاسبة، وتأييد العنصرية العالمية لحكوماته اليمينية من جهة، ونرى مراكب
الموت الصغيرة التي تحمل زهرات شبابنا عبر البحر الأبيض المتوسط ليلتحقوا بسواحل
أوروبا حاملين شهادات لم تنفعهم في أوطانهم بعد أن وعدتهم دولهم أن تطعمهم السمك
ثم أطعمت السمك من لحمهم (71000 مهاجر غير شرعي من جنوب الأبيض المتوسط إلى شماله
عام 2022 حسب احصائيات المرصد الأممي للهجرة)..
وحين نسمع قرارات أوروبية وأمريكية تمنع
دخول أمريكا عن جنسيات
عربية وإفريقية عديدة بلا تمييز وتشديد قوانينهم الخاصة
بالهجرة واللجوء السياسي.. وحين نقرأ إحصاءات الأمية المتفشية والفقر المتفاقم في
البلدان العربية في تقرير منظمة الألكسو العربية، أو نسمع زعماء العالم الأقوياء
يتوعدوننا بالويل والثبور وعظائم الأمور إذا لم نصلح تعليمنا ونغير خرائطنا
و"نحرر" مجتمعاتنا وقد استمعنا إلى ضيوف تونس الأوروبيين الأسبوع الماضي
"يحثون السلطات على التسريع في الإصلاحات"! (أي إصلاحات وفي أي اتجاه؟)
فإن أول ما أفكر فيه هو أن العقل العربي مني
بهزيمة نكراء أو حسب التفاؤل المحبب لدى العرب لنقل نكسة كما فعلنا مع الخامس من
يونيو 1967 كل من يقرأ تاريخ العقل العربي منذ انتشار الرسالة الإسلامية إلى اليوم
يقف منكسرا حسيرا أمام الانهيار الذي أصابه والانحدار الذي اعتراه.
هذا العقل الذي قدم للإنسانية علوم
الرياضيات والفلك والجغرافيا والجبر والطبيعة والطب والصيدلة وأسس لها علم
الاجتماع وفلسفة التاريخ وعرف كيف ينقل عن الثقافات المختلفة ويضيف إليها دون عقدة
أو انغلاق، كيف تقهقر إلى الوراء وتصلبت شرايينه ولحقه عفاء الزمن؟
إنها ظاهرة خطيرة أن يتقلص العقل العربي إلى
دور التقليد بعد مجد الإبداع وأن يقتصر على التبرير عوض التفكير وأن تجف منابع
الاجتهاد ليتحول العرب إلى ببغاوات التقليد والتكرير في عالم لا مكان فيه إلا
للمبدعين ولا سيادة فيه إلا للمبتكرين!
(تكفي الإشارة الى أن آخر المفكرين العرب
أمثال محمد عابد الجابري ومحمد جابر الأنصاري ومهدي المنجرة وهشام جعيط ومالك بن نبي
والأردنيين فهمي جدعان وناصر الدين الأسد، والخليجيين أمثال علي فخرو البحريني وجاسم
سلطان القطري لم يأخذ المشاعل من أيديهم جيل جديد بل توفي أغلبهم مغمورين حتى
أصبحت تونس تعرف بمطربي الراب والجزائر بلاعبي كرة القدم ومصر بمحمد صلاح الرياضي
وليس شهيد (العوجا)!
وللحقيقة فإن احتضان بعض أهل القرار السياسي
للمفكرين هو الذي شجعهم على الابتكار والإبداع والتنوير.. ونذكر في طليعة من شجع
الفكر بعقد مؤتمرات دولية كانت القيادة القطرية مع الشيخ حمد بن خليفة ثم الشيخ
تميم بن حمد كما كان لولي العهد الأردني السابق الأمير حسن بن طلال دور أيضا في
تجميع أهل الفكر ضمن منتدى عربي نشيط.
ما عدا هذا أين انتفاضة أبي ذر الغفاري
وثورة ابن المقفع وحيرة أبي العلاء المعري واجتهاد ابن رشد وإبحار الجاحظ في
العلوم الطبيعية؟ وأين العرب من قانون الطب الذي وضعه للإنسانية الرئيس ابن سينا
وترجمات بيت الحكمة والمدينة الفاضلة لأبي نصر الفارابي والتحليل العميق للمجتمعات
الإنسانية الذي قام به العلامة ابن خلدون؟
بل
أين نحن من طبائع الاستبداد للكواكبي وأقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك للوزير
خير الدين التونسي وتخليص الإبريز لرفاعة الطهطاوي وقواعد الوحدة الإسلامية لجمال
الدين الأفغاني؟
لا شك في أن العقل العربي تخلف وارتد عن
هؤلاء العمالقة الرواد ولا مجال البتة لمقارنة مجد العقل العربي الزاهر الغابر
بحالته الراهنة الكاسدة! فالمقارنة تؤدي بنا إلى الإحباط والقنوط. ومن الأجدى أن
نتطارح ونتناقش حول الأسباب المختلفة التي أدت إلى
تراجع العقل العربي ودمرت حصونه
وأن نتواصى بأفضـل الحلول وأنجعها للخروج من عصر الظلمات الذي أناخ بكلكله على
العالم العربي منـذ أن "استقلت" شعوبنا وأقامت دولا وأعلنت جمهوريات
وحتى جماهيريات ورفعت عقيرتها بالشعارات وألبست الانقلابات لبوس الثورات وتعاقبت
فيها عهود البهتان وتمت القطيعة الكاملة بين أصحاب الأمر وأصحاب الفكر.
حينها وبالتدريج تم تدجين العقل الواعي
وتحرير العاطفة الجياشة. تم إلغاء الاجتهاد وتنصيب الاستبداد وخاصة بحجج "لا
صوت يعلو على صوت المعركة". كما كان في العهد الناصري والبعثي من أجل إلغاء
كل
رأي مخالف أو بحجج لا صوت يعلو على صوت الوحدة القومية كما كان يقول بعض
الرؤساء بينما كانوا يقصدون اصطفاف الجميع على رؤيتهم وحدهم!
إن احتضان بعض أهل القرار السياسي للمفكرين هو الذي شجعهم على الابتكار والإبداع والتنوير.. ونذكر في طليعة من شجع الفكر بعقد مؤتمرات دولية كانت القيادة القطرية مع الشيخ حمد بن خليفة ثم الشيخ تميم بن حمد كما كان لولي العهد الأردني السابق الأمير حسن بن طلال دور أيضا في تجميع أهل الفكر ضمن منتدى عربي نشيط.
وفي الغالب ذبح العقل قربانا للأوهام وأصيب
العالم العربي بما يمكن أن نسميه التصحر الحضاري الذي أتى على أخضر الفكر ويابسه
وتعطل جهاز الحكمة لتنبت أشجار ضياع الثقة في النفوس وانهيار المناعة الثقافية
وانتشار وباء التقليد للآخرين المستعمرين في الملبس والمأكل والسلوك واللغة والفن
وحتى الدين! كأننا أعجاز النخل الخاوية التي ذكرها رب العالمين في القرآن.
الغريب أن هزيمة العقل العربي متواصلة حثيثة
في عالم استيقظ منذ عقود على نداء العولمة ووحدة المصير وكونية القيم الإنسانية
واقتحام المعرفة الرقمية فهربنا نخفي رؤوسنا وراء الخصوصيات المزعومة! حتى ضاق
العالم بنا ذرعا ولم يعد يتحمل ترددنا وفرارنا إلى الأمام وأصبحنا مهددين لا في
خصوصياتنا بل في وجودنا لتزحف علينا الأمم الأخرى الأقوى وتبتلعنا بخصوصياتنا بلع
القرش للسمكة. إن الحكم الصالح هو صمام الأمان ضد التهميش والضياع. وللحكم الصالح
شروط وقواعد ثابتة أكدت جدواها في
مجتمعات عربية مسلمة اختارت العمل الجاد والحكم
العادل على الشعارات الجوفاء.