"من ينخدع أشرف من الذي لم ينخدع، ومن يضل أحكم من الذي لم يضل".
تذكرت هذه العبارة المدهشة بمناسبة تقديم أوبرا "دون جيوفاني" في
مكتبة الإسكندرية، كنت أنتظر أن حدثا فنيا كبيرا كهذا يساعد على تنشيط الحالة الثقافية الراكدة في
مصر، فالأوبرا من أعظم أعمال الموسيقار الألماني الشهير موتسارت، وتأليف الكاتب اللامع في زمانه لورنزو دا بونتي، وتتناول حياة شخصية اسمها على كل لسان في العالم: "
دون جوان".
قدمت
الأوبرا فرقة ألمانية شبابية بمشاركة فريق الكورال في مكتبة الإسكندرية تحت إدارة المخرج مانويل شميت، الذي قدم أوبرا "كارمن" على مسرح المكتبة قبل عامين تقريبا، وأشرف على الأداء الموسيقى المايسترو ناير ناجي قائد الأوركسترا في مكتبة الإسكندرية..
خرج العرض الفني بمستوى متواضع نتيجة أسباب كثيرة، أولها أن المخرج الألماني وفرقته أقرب إلى الهواة الذين يتعاونون مع المراكز الثقافية، ويبحثون عن فرص عرض وحضور، بصرف النظر عن المقارنة مع العروض التاريخية لأوبرا بهذه القيمة والشهرة، والأسباب التي تخص مكتبة الإسكندرية تتتركز في ضعف التجهيزات التي يحتاجها عمل أوبرالي ضخم مثل هذا، خاصة في الديكورات والملابس وسينوغرافيا العمل، لذلك لجأ المخرج الألماني الشاب لنوع من التجريد، مستخدما الإضاءة وأجواء "الفن المعاصر"، حتى إن القصة التي تنتمي إلى القرن الثامن عشر، ظهرت في صورة عصرية تخالف خيال المتفرج، وتخالف موضوع وزمن القصة الأصلية.
مخرج العرض
مانويل شميت مخرج مغمور متعدد الاهتمامات، تخرج من أكاديمية المسرح البافاري في ميونيخ، ثم درس الموسيقى والفلسفة وتعلم عزف البيانو والتشيلو، وشارك في أعمال مسرحية وأوبرالية ضمن أنشطة مراكز فنية في التشيك والنمسا والولايات المتحدة، أخرج فيلما وثائقيا قصيرا (34ق) في أثناء وجوده في أمريكا بعنوان "بيننا زجاج"، يتناول مأساة شاب أسود يدعى "جيرالد مارشال"، محكوم بالإعدام بتهمة قتل رجل أبيض برصاصة في الرأس في أثناء عملية سطو، وينتظر مارشال تنفيذ حكم الإعدام منذ 20 عاما في سجن تكساس، ويؤكد أنه بريء من القتل، وتحولت قضيته إلى حملة شعبية تهتم بأطفال الشوارع والأبناء بالتبني، حيث ولد مارشال لأبوين مدمنين وعاش مأساة التبني والتشرد.
يقول شميت؛ إن فيلمه القصير حاز جائزة أفضل مخرج في مهرجان برلين قبل عامين، وهي معلومة غير صحيحة، وتعطي لمحة عن الطريقة التي يقدم بها المخرج نفسه للجهات التي يتعاون معها، فهو يصطنع قائمة أعمال مبالغ فيها للحصول على الرعاة، وفرص المشاركة في بلدان لا تهتم بالمستوى الفني للمشاركين.
لا أقلل من أهمية حصول شباب الفنانين على فرص عرض، لكن هذا قد يحدث في المراكز الثقافية والمسارح الأهلية، أما مؤسسات دولية وقومية مثل مكتبة الإسكندرية ودار الأوبرا، فيجب أن ترتقي في اختياراتها من أعمال الشباب لدعم أهدافها في التعاون الثقافي الدول،ي مع الحرص على نقل الخبرات الجيدة وتوفير مناخ مثمر للتدريب، واستضافة الأنشطة التي تناسب مكانتها كمؤسسات احترافية لها ميزانيات ضخمة، وأهداف قومية ودولية معا.
لكن بكل أسف، تراجع مستوى وأداء المكتبة في السنوات السابقة تحت إدارة د. مصطفى الفقي، قبل أن يتولى الدكتور أحمد أبو زيد، الذي يواصل تنفيذ البرامج القديمة دون تطوير يذكر، وأتذكر أن أحد نواب البرلمان عن مدينة الإسكندرية قد أثار مشكلة تراجع دور المكتبة، وتقدم بسؤال لرئيس الوزراء ووزيري الثقافة والتعليم العالي، مؤكدا أن "مكتبة الإسكندرية أصبح دورها يقتصر فقط على تنظيم الفعاليات والأنشطة الثقافية شأنها شأن أية مكتبة أخرى، ولا يتعدى دورها خارج نطاق المحافظة، في حين ننتظر منها دورا رياديّا باعتبارها منارة لمصر على العالم، ومنارة للعالم على مصر، ننتظر منها دورا كبيرا يتناسب مع مكانتها وقدراتها وتاريخها العريق كإحدى أدوات القوة الناعمة للدولة".
سؤال النائب في البرلمان كان بمنزلة انعكاس رسمي لحال المثقفين الإسكندريين الذين تألموا لتراجع مستوى المكتبة في عهد الفقي، حيث تحولت إلى مجرد صدى باهت لنشاط معهد جوتة، خاصة بعد تولي إدارته للسيدة قوية الشخصية "سابينا إيرلنفاين"، (تأملوا دلالة الصورة المنشورة مع هذا المقال في أثناء زيارة إيرلنفاين للمكتبة بعد تولي منصبها).
إحباط لا يقلل من عظمة الأوبرا
أحسنت مكتبة الإسكندرية في اختيار الموسيقار راجح داود وقائد الأوركسترا ناير ناجي للحديث في المؤتمر الصحفي الذي استبق العرض، فقد ركز داود على القيمة الموسيقية لأوبرا موتسارت، وأوضح ناجي الدور التعليمي وفائدة مشاركة شباب الكورال المحلي في المكتبة مع الفنانين الأجانب، وهي أهداف لها وجاهتها في وظيفة التدريب والتعليم، وإن كانت في مرتبة تالية بعد تقديم الأعمال التي تليق بمؤسسات تحمل الصفة الدولية، لكن المؤسف حقا، لم يكن في مستوى العرض وفقط، بل تجاوز ذلك إلى مستوى التعامل الثقافي مع العرض، فقد غاب النقد والاهتمام الموسيقي، واقتصر التعاطي مع هذه الأوبرا العالمية ذائعة الصيت، على تغطيات إخبارية مبتسرة منقولة من النشرة الإعلامية للمكتبة، وهذا البؤس الثقافي يعري المرحلة القاحلة في مصر، ويدعو للتساؤل: لماذا لا يتم توفير الميزانيات التي يتم دفعها لمثل هذه النشطة الثقافية، إذا كانت لا تثير العقل ولا تحرض ناقدا على الكتابة، ولا تشجع صحيفة على الاهتمام بعمل تناوله كتاب وفلاسفة وسينمائيون عظام على مر العصور، مثل لورد بايرون وبرنارد شو وجوزيف لوزي، وقبلهم جميعا الفيلسوف الدانمركي الشهير سورين كيركيجور؟
قصة الغواية
قصة الأوبرا تتناول شخصية موزعة بين الواقع والخيال تدعى جيوفاني (دون تعني السيد)، والاسم هو نفسه جوان (بالإنجليزية) و خوان (بالإسبانية)، وهي في الأغلب مأخوذة من عمل أدبي قديم يرجع للقرن السابع عشر كتبه دي مولينا في إسبانبا، لكن النقاد يعتبرون أوبرا دون جيوفاني التي كتبها لورنزو دا بونتي ولحنها موتسارت، تعتمد على سيرة حقيقية لشخصية إيطالية تدعى "كازانوفا"، ويقال أن كازانوفا التقى مع بونتي في التشيك في أثناء هروبه من إيطاليا، وأنه شارك في تعديل النص وتدقيق بعض الأحداث، والقصة باختصار شديد، تتناول حياة كازانوفا (أو جوان) كساحر مخادع للنساء، ومحاولة الضحايا مطاردته والانتقام منه.
هنا يأتي دور العبارة التي بدأت بها المقال:
"من ينخدع أشرف من الذي لم ينخدع، ومن يضل أحكم من الذي لم يضل".
قرأت العبارة لأول مرة في كتاب (إما- أو) للفيلسوف الوجودي المؤمن سورين كيركيجور، وهو كتاب "أخلاقي" يناقش أسلوب الحياة من خلال شخصيات مستعارة، تتحاور فيما بينها عن الغواية والمتعة من جانب والالتزام والمسؤولية من جانب مقابل.
استدرجني المعنى لتتبع أصل التعبير ومغزاه عند كيركيجور، واكتشفت أن أوبرا دون جيوفاني لها أثر كبير في ذلك، حتى إنه خصص مقالا طويلا لمناقشة الأوبرا وفق ثنائية (اللذة والأخلاق) التي تبناها في فلسفته.
لكن أين وكيف شاهد كيرجيجور أوبرا موتسارت؟
للحكاية قصة طريفة لا تخلو من مغزى عن الغواية والاختيار، فلنتعرف معا على الحكاية:
كان كيركيجور في عام 1841 شابا قلقا لم يبلغ الثلاثين بعد، يعظ في الكنيسة ويكتب كتابات لاهوتية، لكن الأسئلة الوجودية ظلت تطارده وتؤرقه، وفي تلك الفترة كان هيجل (ذائع الصيت في الفلسفة الألمانية) قد مات، وسنحت الفرصة لمنافسه اللدود فريدريك شيلينج أن يستعيد شهرته، ويستأنف محاضراته، وادخر كيركيجور مبلغا من المال للسفر إلى برلين لحضور محاضرات شيلينج والبحث عن إجابة لأسئلته، لكن حصيلة المحاضرات كانت مخيبة لآماله، ووصفها في كتابه بعد ذلك بأنها كانت "هراء لغويا لا يطاق"، وسعى للتعرف على الجوانب الثقافية والفنية الأخرى في برلين، فحضر أوبرا موتسارت ومسرحيات جوتة، وسيطرت على تفكيره حالة الغواية (الغاوي والمغوي) كما يمثلها "دون جيوفاني ونساؤه" عند موتسارت، و"مفستوفيليس وفاوست" عند جوته، واعتبر كيكيجور أن "دون جوان" يمثل مشكلة "اللذة" كطريق للبحث عن معنى للحياة، بينما تطرح مشكلة "فاوست" سؤال "الأخلاق".
واللذة جعلت دون جوان يستمتع بالخداع والمكر والاستمرار بلا توقف في إغواء مئات النساء، أما "فاوست" فانشغل بإغواء امرأة واحدة فقط، لكن مأساة الفتاة الواحدة التي أغواها "فاوست" انتهت إلى سحقها بشكل مدمر، يختلف عن مصير كل النساء اللاتي خدعهن "دون جوان"، وذلك ببساطة لأن فاوست يندرج تحت فئة "المثقف" وقوة الإغواء الثقافي تكمن في تحويل "الكلام" إلى "واقع كاذب"، ومن ثم تدفع من يتعرض للغواية على نوع من الجنون والانفصال عن الواقع الحقيقي، بينما غواية دون جوان كانت مسيرة هروب من الملل وخواء الحياء، وبحث لا نهائي عن معنى يجعل من المُغوي نفسه ضحية لخداعه، فالملل حسب رأي كيرجيجور هو أصل كل الشرور، ولا بد للمرء أن يهرب إلى أقاصي الأرض لتجنبه، ومن هنا تبدو مأساة "دون جوان" كمخادع، وكضحية أيضا لخداع النفس.
وتحضرني هنا مقولة كيرجيجور التي ذكرها في موضع آخر: "ليست هناك جدوى من الشجار مع العالم من حولك، إذا كانت مشكلتك في ذاتك".
لذلك؛ لم يستطع "دون جوان" أن يتوقف عن الخداع حتى بعد أن زاره الموت لينذره بالتوبة أو الهلاك، فانتهى إلى الجحيم، بينما يستطيع "فاوست" اختيار مصيره، لأنه (كمثقف) يمكنه استخدام إرادته وقدراته الفكرية واللغوية في مسار معاكس، ويختار الغواية الإيجابية بدلا من غواية الشيطان..
تبدو رؤية كيركيجور لمأساة "دون جوان" كمقدمة للطريقة التي بنى عليها "ميلان كونديرا" شخصية الطبيب "توماس" في رواية "خفة الوجود التي لا تحتمل"، حيث يمثل السقوط الجنسي هاجسا داخليا يعكس رغبة البطل في البحث عن معنى لحياته المعذبة من خلال تصفح النساء، كما يتصفح المثقفون الكتب بحثا عن المعاني الغائبة عنهم، فإما يأخذهم البحث إلى اليقين، وإما يسقطهم في الضلال والغواية المخادعة.
خداع بريء
أعود إلى التعبير المحوري للمقال:
"من ينخدع أشرف من الذي لم ينخدع، ومن يضل أحكم من الذي لم يضل".
كان كيرجيجور يعني أن المخدوع أكثر براءة وصدقا من المخادع ومن الحريص المتشكك الذي يخالف الفطرة ولا يصدق الناس، نتيجة خبرات سلبية في الحياة، وهي نظرة أخلاقية ذات طابع مسيحي ترتبط بمسيرة كيركيجور الدينية والفلسفية، لكنني اكتشفت من خلال قراءات نقدية متعمقة لأعمال كيركيجور، أن التعبير مأخوذ في الأصل من كتاب "موراليا" (الأخلاق) للفيلسوف اليوناني القديم بلوتارخ، وعندما راجعت الكتاب، وجدت أن الأصل في التعبير يسبق بلوتارخ بأكثر من خمسة قرون ويعود إلى الخطيب الشهير "جورجياس"، واستخدمه بلوتارخ أكثر من مرة في مؤلفاته، وأوضح استخدام ورد في كتابه "عن صيت الأثينيين"، ويقصد به الإشادة بقيمة التراجيديا الإغريقية، فمن ينخدع له قصة تروى وتنفع الناس في استخلاص الحكمة والعبرة، بينما الذي لم ينخدع، ليس لديه ما يرويه وينفع غيره من الناس.
بصرف النظر عن تمجيد اليونانيين القدماء للتراجيديا (المآسي) واحتقارهم للكوميديا
(الهزل)، تتلخص الحكمة التي قصدها كيركيجور في القيمة الإسلامية "خير الخطائين التوابون"، وهو ما ينصف المخدوع فاوست (ضحية الشيطان) ضد المخادع "دون جوان" الذي رفض التوبة، حتى عندما جاءت الشياطين لتصحبه إلى الجحيم.
خاتمة درامية
قرب ختام الأوبرا، تدخل "دونا إلفيرا" (ضحية دون جون) وتقول؛ إنها لم تعد تشعر بالحقد عليه بل بالشفقة، وتعترف أنها أحبته بصدق ولا ترغب في الانتقام منه، بشرط أن يغير حياته.
يسخر منها دون جيوفاني ويبتعد عنها وهو يتغنى بحبه للنبيذ والنساء (مجد البشرية حسب وصفه).
تتألم "دونا إلفيرا" وتغادر خشبة المسرح، ثم نسمع صرختها المرتعبة، يأمر "دون جيوفاني" خادمه "ليبوريلو" أن يعرف ما حدث، لكننا نسمع صرخته المرتعبة أيضا، ويدخل إلى المسرح وهو يقول متلعثما: التمثال حضر كما وعد.
كان دون جيوفاني في مشهد سابق قد سخر من تمثال القائد المقتول والد إحدى ضحاياه، لما دعاه للتوبة، فرد عليه دون جيوفاني ساخرا: "أرجو أن تقبل دعوتي للعشاء" (الدعوة للعشاء إشارة لاستمراره في سلوك الغواية).
طرقات مخيفة على الباب، ينظر دون جيوفاني إلى "ليبوريلو"، فيجده قد أصيب بالشلل بسبب الخوف، فيقوم ليفتح الباب بنفسه.
التمثال يتكلم على خلفية موسيقى وترية إيقاعية شيطانية: "دون جيوفاني.. لقد دعوتني لتناول العشاء معك.
يٌقَبل دون جيوفاني بوقاحة يد التمثال الممدودة، وعندما يصافحه تستولي عليه قشعريرة مفاجئة وينهار..
يمنحه التمثال فرصة أخيرة للتوبة قبل الموت.. يرفض دون جيوفاني بشدة.
يخرج التمثال ويدخل الشياطين، ويبدأ دون جيوفاني في الصراخ تحت تأثير الألم والرعب، بعد أن تحلقت حوله جوقة الشياطين ليهبطوا به إلى الجحيم، بينما "ليبوريلو" يراقب الرعب من تحت الطاولة ويصرخ مذعورا.
تدخل شخصيات الضحايا تباعا بحثا عن المخادع الشرير، فيخبرهم "ليبوريلو" من تحت الطاولة أن "دون جيوفاني" ذهب ولن يراه أحد مرة أخرى.
تتحدث الشخصيات عن خططها للمستقبل: ستتزوج دونا آنا ودون أوتافيو، وتعتكف دونا إلفيرا بعيدا عن المجتمع لبقية حياتها، وتعود زيرلينا لمنزل زوجها الفلاح ماسيتو، ويذهب "ليبوريلو" إلى الحانة للعثور على سيد أفضل.
وتصدح أغنية الختام الأخلاقية عن نهاية فاعل الشر: "موت الخاطئ يعكس صورة حياته دائما".
الحكمة
عاشت مصر طويلا مأساة الغواية والخداع، فمتى ينهض تمثال القتلى والشهداء، وتحين لحظة الحساب وعقاب الشرير؟