هي الأغنية الأقلّ حظًّا من الشهرة، إذ تسيطِر "يا ليلة العيد" على ذاكرتِنا الجَمعية العربية بوَصفِها أقربَ ما تكون إلى أغنية العيد الرسمية. بدأَت علاقتي بأغنية "يا بهجة العيد" في طفولتي، يومَ اشترى أبي شريط "أغاني فِلم وداد" لأمّ كلثوم (والفِلم من قصة أحمد رامي وسيناريو وحوار أحمد بدرخان وإخراج الألماني فرِتْس كرامپ وإنتاج عام 1936). وبينما أحببتُ "على بلد المحبوب" حُبًّا جارفًا، وظللتُ محايدًا إزاءَ أغانٍ أخرى، بَقيَت علاقتي بهذه الأغنية محكومةً بالاستغراب الذي يكاد يُشفي على الاستنكار! وظللتُ أعوامًا أضربُها مِثالًا لرُوح القصبجي الحزينة بصفتِه ملحِّنَها. لماذا يبدأ أغنيةً عن بهجة العيد هذه البدايةَ الباديةَ الحُزن؟!
ومنذ بضعة أعوامٍ فاجأني صديقي الطبيبُ النفسيُّ الأديبُ (مصطفى السيد) – وهو مُعرِضٌ عن النشر حَدَّ إثارة غيظ مَن يعرفون فرادةَ كتابتِه – بقصّةٍ له يَحمل عنوانُها اسمَ الأغنية (وقد استأذنتُه في الحديثِ عنها رغم أنها لم تُنشر إلى الآن). كانت قصيرةً لا تنطوي على تفاصيلَ كثيرةٍ، غيرَ أنه يصعبُ أن ينسى المرءُ أنّ بطلَها المتحدثَ بضمير المتكلّم فيما أذكر يكتشِف ذاتَ يومٍ أنّ أغنيةَ (يا بهجة العيد السعيد) قد حلَّت محلَّ الكلامِ كُلِّه! نعَم، نداءاتُ الباعة على كلِّ بضاعة، وأصواتُ آلات التنبيه وأحاديثُ الناسِ فيما بينهم – وصولًا إلى أذانات الصلوات وما يُتلى في المساجد – قد أصبحَت جميعًا "يا بهجة العيد السعيد" بلَحنِها المعروف! هكذا ينقلُنا مصطفى إلى عالَمٍ حُلميٍّ بطيء الإيقاع كالأغنية، يتغنى فيه الجميعُ بالأغنية نفسِها في توافُقٍ خارجٍ على عادةِ عالمِنا القائم على الشحناء والتنافُر. ولعلّ كلمات أحمد رامي المحتفية بالسعادة "يا بهجة العيد السعيد/ لما ابتسم زَهرُه النادي/ يا طلعة اليوم الجديد/ يا فرحة الطير الشادي/ يوم التهاني بين الأحبة/ يوم الفرح والأماني/ تحلى في قربه كاس المحبة/ على رنين الأغاني/ يا نديم الروح صفا وقت الخيال/ والنسيم ساهي عليل/ غني لحن الشوق وهنّي بالوصال/ كل من كان له خليل." أقولُ لعلّها تقيمُ تصوُّرًا مغايرًا لِلجَنّة في قصة مصطفى، فالناس والأشياء لم تبرح أماكنها المعهودة، لكنّ ما تفيض به ألسنةُ الخَلق هو هذه الأنشودةُ الفرِحةُ بشِعرها الحزينةُ ببداية لحنِها، ما قد يُحيلُنا إلى قولِه تعالى عن تحية أهل الجنّة: "تحيَّتُهم فيها سلام".
تبدأ مقدمة اللحن بسكون الوتريات مدّةً طويلةً على درجة صول، ثم ما تلبث أن تراوح حولها (لا بيمول – صول – فا دييز) لتستقرّ عليها في كلّ مراوَحة، قبل أن تهبط جنسَ الجذع (وهو عَقد النكريز: دو/ ري/ مي بيمول/ فا دييز/ صول) من مقامِ (نوا أثَر) إلى أساسِه على درجة (دو)، ثم تصعده لتستقرّ على غمّازِه في درجة صول مجدَّدًا، قبل أن تنطلِق منه صاعدةً حتى جواب (مي بيمول)، مرورًا بجنس الفرع من مقام نوا أثر، وهو حجاز على درجة صول. والشاهد أنّ القصبجي قد اختارَ مقامَ نوا أثر الذي تقلُّ استعانةُ الملحّنين به – هو ومقام النكريز - عن استعانتِهم بغيرهما من المقامات، ما يرسّخ الجوَّ النفسيَّ الغريبَ الذي نستشعرُه عادةً في حضور أيٍّ من هذين المقامَين. وربّما يكون من المفيد أن نذكر أمثلةً لارتباط هذين المقامَين بالكلمات الموحية بالغرابة في أغانٍ لاحِقةٍ، فهاهو ذا فريد الأطرش قد غنّي "جميل جَمال مالوش مثال" في النوا أثَر، وعبد الوهّاب قد جعلَ الغُصنَ القائلَ "وكلّ دا وانت مش داري يا ناسيني وانا جنبك" من أغنيته "عاشق الرُّوح" – وهو غصنٌ مُوحٍ بغرابةِ موقِف كلٍّ من طرفَي العلاقة – في مقام النكريز، وصولًا إلى صلاح الشرنوبي الذي لحّن "جرّب نار الغيرة وقل لي/ إيه رأيك؟ جرّب واوصف لي" في النكريز!
أمّا كلماتُ أغنيتِنا الحالية فليس فيها ظاهريًّا هذا الإيحاءُ بالغرابة الممتزِجة بالحُزن، ولذا يبدو اختيارُ القصبجي خَلقًا آخَر للأغنية، يجعلُها من زاويةٍ ما أقربَ إلى رثاءٍ للحظاتِ الحياةِ الضائعةِ في غير جوّ العيد، ورثاءٍ لمَن لا يُسعدُهم القدَر بعَيش ذلك الجوّ الهنيء. وينبغي ألّا نُسقِط من تحليلِنا سياقَ الفِلم نفسَه، فالفِلم يُفتتح بهذه الأغنية على خلفيّة جوٍّ احتفاليٍّ، لا يعرفُ بطلاه (باهر) و(وداد) أنّ القدَر يخبئ لهما كارثةً ستَلحقُ بالأوّل تُجبرُه على بَيع جاريتِه الحبيبة (وداد)، ما يعني أنّ اللحنَ يُضمرُ لنا إنذارًا بما سيأتي، ورثاءً غريبًا للحظةِ التغنّي به، تلك المحكومِ عليها بالانتهاء لتفرِّقَ الأحداثُ بين الحبيبَين. فإذا ما مدَدنا هذا الخطَّ على استقامتِه لنصِل إلى قصّة مصطفى السيد، فسنجِد أنّ في هذا الاختيار اللحنيّ شكلًا من أشكال الرثاء للعالَم الذي لا يحيا هذا الحُلمَ مع البطل، أو الرثاء لما سبقَ عالَم "يا بهجة العيد" من حياةٍ تعيسةٍ مشحونةٍ بالتنافُر.
وَلْنُضِف إلى ذلك أنّ في شكل أبياتِ أحمد رامي – لا في معناها المباشِر – جُنوحًا آخَر إلى الغرابة. فرامي الذي يَعرفُ ما يَفعلُ جيّدًا قد اختارَ لكلّ شطرَين وزنًا مختلِفًا عن وزن ما سواهما. هكذا جاءت "يا بهجة العيد السعيد / يا طلعة اليوم الجديد" في وزن "مستفعلُنْ مستفعلانْ" وجاءت "لمّا ابتسم زَهرُه النادي/ يا فرحة الطير الشادي" في وزن "مستفعلُنْ فَعلُنْ فَعلُنْ"، وجاءت "يوم التهاني بين الأحبّة/ تحلا فِ قُربُه كاس المحبّة" في وزن "مستفعلاتُ مستفعلاتُنْ" وجاءت "يوم الفرَح والأماني/ على رنين الأغاني" في وزن "مستفعلُنْ فاعلاتُنْ/ مُتَفعِلُنْ فاعلاتُنْ" أي في البحر المُجتثّ، وأخيرًا ختمَ ببحر الرَّمَل "يانديم الروح صفا وقت الخيال/ والنسيم ساهي عليل/ غنّي لحن الشوق وهنّي بالوصال/ كل من كان له خليل" في وزن "فاعلاتُنْ فاعلاتُن فاعلاتْ/ فاعلاتُنْ فاعلاتْ". والخلاصةُ أنّه قد انتقلَ بين أبحُرٍ شتّى في إبداع هذه الأبيات. وهذه الأغنيةُ ليسَت بِدعًا بين أغاني رامي في هذا الأمر، فقد كان مُخلِصًا لفكرة الانتقال بين الأوزان جَريًا على التقليد الأندلُسيّ في صناعة الأغنية. لكنّ قِصَر هذه الأغنية بالتحديد يجعلُ هذه الانتقالات محتشِدةً في مَدىً زمنيٍّ قصير. وربما يكون رامي قد فكّر أنّ هذه الإطافةَ بأوزانٍ شتّى تضيفُ إلى احتفالية الكلمات وإخلاصِها للعيد. ولم يدُر بخَلَدِه أنّ القصبجي سيبني على هذه الغرابة الإيقاعية لحنَه الغريب.
ولا يفوتنا أنّ في بعض النُّسَخ المسجَّلة من الأغنية (كما في الرابط السابق) تعريجًا على مقام النهاوند الحجازي على درجة دو من هذه المقدمة، يغير فيه القصبجي الإيقاع من الرباعي الأساسي الذي يَحكم المقدمة إلى آخر ثنائي قريب من الپولكا (وذلك بين الثانية 32 والثانية 11 بعد الدقيقة الأولى)، فيما نَجد هذا الجزء من اللحن منفصلًا في الفِلم، إذ يواكبُ رقصةً جماعيةً للنساء تنتهي مباشَرةً قبلَ أن تبدأ أغنيةُ أم كلثومٍ. لكنّ ظهورَه في هذه النسخة في هذا الموضع المحدَّد يُظهِر القصبجي كأنّه يلفتُنا إلى أنّ الأغنيةَ في النهاية لعبةٌ إبداعيةٌ لا ينبغي أن نصدّق أنها تعبّر عن حقيقة، بعكس قصة مصطفى التي لا يدَع فيها الحُلمُ المهيمِنُ موطئ قدَمٍ لوعيٍ يَنقُض هيمنتَه، اللهم إلا تعاقُدَنا الضمنيّ مع المؤلّف على أنّ ما نقرؤه ليس إلا قصّةً خياليّةً للأسف!
وبين غناء ثومة لكلّ شطرين من الأشطر الأربعة الأولى يَعزف القانون -يؤازرُه الكنتراباص- سلّمًا تتابُعيًّا صاعدًا Arpege (صول/ سي/ ري/ صول) ليتمِّم هيمنةَ المَقام شعوريًّا، وإن كان هذا السلّم التتابعيّ أقرب إلى تلخيص مقام حجازكار على درجة (صول) المسمّى "شدّ عُربان". وفي جملة "يا فرحة الطير الشادي" تمسّ ثومة مسًّا خفيفًا مقام النهاوند لتذكّرَنا بالطبيعة "اللعِبيّة" التي لا تخلو من تأمُّلٍ في الأغنية.
وحين تنتقل أمُّ كلثوم إلى "يوم التهاني بين الأحبّة" تنتقل داخل كلمة "التهاني" إلى مقام البياتي على درجة ري، وهو ما يبدو الاختيارَ الأقربَ إلى الكلماتِ هنا بما يختزنه البياتي من دفء. ويستمر البياتي لتكون له اليدُ العُليا فيما بقي من الأغنية إلى الشطر الأخير "كلّ من كان له خليل" حيث تعود ثومة لتَصعَد عَقدَ النكريز من "دو" لتستقرّ على "صول" لتُنزِلَ النهايةَ منزلَ البداية.
وما أغفَلناه في هذا الحديث إلى الآن هو صوتُ أمّ كلثومٍ نفسُه، غيرَ أنّي أعترفُ أنّي دائمًا لا أجِد كلماتٍ تعبّر عمّا أشعر به تجاهَ صوتِها وأدائها، خاصةً في تلك الحِقبة (ثلاثينات القرن العشرين) حين كان صوتُها معدومَ النظير في البشَر والجانّ، كآيةٍ لم يُخلَق مِثلُها في البلاد. إنه ذلك الامتزاجُ بين المقدرة الصوتية المذهلة والصدق الشعوريّ والاستغراق في جوّ الأغنية، هو في رأيي سرٌّ من أسرار عبقريتِها الخالدة.
وختامًا، تظلّ هذه الأغنيةُ كنزًا غريبًا لا يكشف عن جَمالِه الفريد إلا رُوَيدًا رُويدًا، ولا يفعلُ ذلك إلا لذائقةٍ مُدرَّبةٍ استطاعَت أن تتواضعَ أمامَ الجَمال ليَفتحَ لها بعضَ مغاليقِه، متأبّيًا على الذائقة الطفولية، سواءٌ أوُجِدَت لدى طِفلٍ أم كهل. وهو كنزٌ يمتزِج فيه الفرَح الصادق بالحُزن العميق، ويتجاورُ فيه الأرضيُّ المتّصِل بالخبرة المباشِرة مع السماويّ المُفارِق لمألوفِ خبرتِنا، ليتألّف من هذا المزيج وهذا التجاوُر حُلمٌ فنّيٌّ جديرٌ باستعادتِه كُلَّ عيدٍ إلى جوار أغنيتها المألوفة "يا ليلة العيد".