كتب

كتاب يدافع عن أصالة الفلسفة الإسلامية وعراقتها.. لا تناقض لها مع الدين

كتاب يشرح أسس وخصائص الفكر الفلسفي عند المسلمين..
الكتاب: "في الفلسفة الإسلامية: منهج وتطبيقه"
المؤلف: د. إبراهيم مدكور
الناشر: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2019


في ظل المطالبة المستمرة بتطوير الفكر الإسلامي ورؤاه من خلال منظور فلسفي، لتقديم تراث إسلامي هائل في هذا المجال، وإعادة إنتاجه والاستفادة منه برؤية ومنظور حديثين، من خلال فلسفة إسلامية عريقة وأصيلة تحتاج للدفاع عنها، يأتي كتاب "في الفلسفة الإسلامية: منهج وتطبيقه" للدكتور إبراهيم مدكور وتحديدا الجزء الأول منه، ليؤكد على عراقة الفكر الفلسفي الإسلامي من ناحية وضرورة تطويره والتأكيد على أصالة الفلسفة الإسلامية وكيانها المستقل ودفع الشبهات عنها من جهة ثانية.

مقدمة وأربعة فصول

يتكون الكتاب من مقدمة وأربعة فصول.. في المقدمة يؤكد الكاتب على تعرض الفلسفة الإسلامية بل والفكر الإسلامي لهجوم ونقد من آن لآخر، ومن بين الاتهامات الموجهة للفلسفة الإسلامية أنها مجرد فلسفة منقولة ومترجمة من الفلسفات القديمة خاصة اليونانية والهندية، وأنها لم تنتج إبداعا خاصا بها وفكرا ومنهجا يعبر عنها ويقدمها كفلسفة أصيلة .

هذه الاتهامات وغيرها التي أوردها الكتاب الذي بين أيدينا يحاول مؤلفه الرد على كل هذه الشبهات، مؤكدا على أصالة هذه الفلسفة ومتانة فكرها وغزارة إنتاجها وخطابها المتميز، مستدلا على ذلك باعتراف من هاجموها لاحقا، خاصة المستشرقين وفلاسفة الغرب الذين أقر العديد منهم بأصالة هذه الفلسفة ومنهجها وفكرها، مؤكدا على عمق هذا المنهج وإمكانية تطبيقه في الواقع وهو ما جاء بعنوان الكتاب"منهج وتطبيقه".

الفلسفة الإسلامية في قفص الاتهام

يتناول الكاتب في الفصل الأول من كتابه الهجوم الذي تعرضت له الفلسفة الاسلامية، مشيرا إلى أنها وضعت  موضع الشك زمنا، فأنكرها قوم وسلّم بها آخرون، وكانت هناك موجة تشكك فيها طوال القرن 19 فظن البعض أن تعاليم الإسلام تتنافى مع البحث الحر والنظر الطليق، وأنها تبعاً لهذا لم تأخذ بيد العلم ولم تنهض بالفلسفة التي لا تنتج إلا انحلالا موغلا واستبدادا ليس له مدى.

ويورد الكاتب نماذج من هذا الهجوم ومنها ما قاله الفيلسوف ليون جوتيه في أوائل هذا القرن مناقشاً الفلسفة الإسلامية، وقد أنكرها قائلا "إن العقل السامي لا طاقة له إلا على إدراك الجزئيات والمفردات منفصلاً، ومن العبث أن نلتمس لدى العرب آراء علمية أو دروساً فلسفية، خصوصاً وقد ضيق الإسلام أفقهم وانتزع منهم كل بحث نظري وأضحى الطفل المسلم يحتقر العلم والفلسفة"، مضيفا: "أما ما يسمونه بفلسفة عربية فليس إلا مجرد محاكاة وتقليد لأرسطو وضرب من التكرار لآراء وأفكار يونانية كتبت باللغة العربية"، تلك كانت دعوة القرن التاسع عشر الشائع وهذا ما زعم به رينان زعيم دعوة العنصرية في عصره."

بطلان دعوة العنصرية

هنا يرد الكاتب على ما سبق بالقول: "ما كان أيسر أن ترسل دعوة عامة كالتي قدمناها على علاتها وأن تطلق إطلاقا دون سند واضح ولا دعامة قوية، ولكن المنهج العلمي الصحيح أضحى يمقت أمثال هذه الدعاوي وينكرها.. ومن ذا الذي قال إن الفلسفة الإسلامية وليدة الفكر العربي وحده؟ فقد ساهمت في تكوينها شعوب أخرى مختلفة من فرس وهنود وأتراك ومصريين وسوريين، هذا إلى جانب أن الحضارة الإسلامية إبان مجدها وعظمتها لم تعترض سبيل العلم بل أيدته وشجعت عليه، ولم تحارب الفلسفة بل جدّت في طلبها واتسع صدرها لشتى الآراء وتباين واختلاف المذاهب."

من الخطأ أن نحاول تفسير ظواهر هذه الحياة في ضوء المؤثرات الخارجية وحدها التي يُظَن أنها لم تُهضَم ولم تتأقلم ولم تنسجم مع العالم الإسلامي، أو أن نستهين بشأن العوامل الداخلية التي امتزجت بها فكانت أوثق اتصالاً وأنفذ أثراً، فهناك علم وفلسفة إسلاميان كما أن هناك لغة وأدب ارتبطا بالإسلام واتسما بسماته
وهنا يؤكد الكاتب على معنى آخر مفاده أن الفلسفة الإسلامية جاءت مصاحبة للطابع الديني، إلا أنها لم تهمل المشكلات الفلسفية الكبرى، فعرضت نظرية الوجود عرضا موسعا و أدْلت برأيها  فى الزمان والمكان والمادة والحياة والعقل والفطري والمكتسب والصواب واليقين وفصلت القول في نظرية الفضيلة والسعادة.

التصوف والفلسفة

ويتناول الفصل الثاني الذي جاء تحت عنوان "تعليم الإسلام والنزعة الصوفية".. التصوف وعلاقته بالفلسفة وقسمه إلى تصوف إسلامي وتصوف شبه فلسفي.. وتحدث عن بعض علماء الفلسفة المتصوفين قائلا: "في القرآن البذور الحقيقية للتصوف وهذه البذور كفيلة بتنميته في استقلاله عن أي غذاء أجنبى" ليؤكد على وجهة نظره.

وهنا يقول الكاتب: لسنا نحاول التحدث عن التصوف في جملته ولا التعرض لمختلف مظاهره وأدواره منذ نشأته، وإنما نريد فقط أن نفصل القول في نزعة صوفية سادت الفلسفة الإسلامية فنبين كيف تكونت  ونشرح الأصول التي صدرت عنها والعوامل التي أثرت فيها ونحدد مدلولها، ونشرح ما جاء به الفلاسفة المسلمون ووقفوا على الجانب الصوفي في الفلسفة الإسلامية، مشيرا إلى أن الفلسفة الإسلامية لا تزال محطّ أنظار المستشرقين وكذلك تعطشهم لصوفية الشرق .

وفي هذا السياق يتناول الكتاب نماذج من فلاسفة الإسلام ومنهم  الفارابي، باعتباره أول من صاغ الفلسفة الإسلامية في ثوبها الكامل ووضع أصولها وأقام دعائم مذهب فلسفي متصل الحلقات، مدللا على ذلك بقوله.. لعل أخص خصائص النظرية الصوفية التي قال بها الفارابي أنها قائمة على أساس عقلي، فليس تصوفه بالتصوف الروحي البحت الذي يقوم على محاربة الجسم والبعد عن اللذائذ لتطهر النفس، بل هو تصوف نظري يعتمد على الدراسة والتأمل وطهارة النفس، في غاية لا تتم عن طريق الجسم والأعمال البدنية، بل عن طريق العقل والأعمال الفكرية .

ثم يشير الكاتب إلى نموذج آخر وهو ابن سينا  الذي سلك نفس منهج الفارابي وإذا كان في فلسفة الإسلام من يصح أن نسميه تلميذ الفارابي وخليفته الأعظم فهو بلا جدال ابن سينا.. الذي جاء مفسرا لمختلف اراء الفارابي الصوفية وتولاها بالشرح والدرس في رسائل متعددة وقد فسرها على حسب عادة أفكار الفارابي وفسّر القول فيها وعرضها عرضا مرتبا وسهلا.

وجاءت الفلسفة الإشراقية التي دعا إليها السهروردي بحسب الكاتب متأثرة في بدايتها ونهايتها بتعليم الفارابي، غير أن هذه الفلسفة صوفية كلها أو التصوف هو كل شيء فيها في حين أنه ليس لدى الفارابي إلا قطعة من مذهب متنوع الأجزاء.. هذا إلى دانب أن الإشراقي لا يقنع بالاتصال بالعقل الفعال وحده بل يطمع في الاتحاد بالله مباشرة والامتزاج بنور الأنوار، فكان السهروردي حين دعي للاختيار بين تصوف الحلاج الذي دعا بالاتصال بين الخلق والمخلوق دون فواصل وجعل منهما وحدة واحدة وبين تصوف الفارابي فرأى أن يجمع بينهما وأن يقول بالاتصال والاتحاد معا. وهذه نزعة توفيق أخرى تتفق مع روحه العامة.

اما بالنسبة للتصوف السني فيرى الكاتب أن الغزالي كان له علاقة بالتصوف السني فهو تقريبا واضع أصوله وقواعده ومبين طرقه في كتابه (إحياء علوم الدين)، الذي أضحى عمدة المتصوفين المتأخرين بلا استثناء، فكتابه هو مصدر التصوف السني من غير جدال وعليه نعتمد اولاً وأخيرا ً وهو الذي أثر وحده تقريبا من بين كتب الغزالي الصوفية في المتصوفين المتأخرين.

نظرية النبوة

وفي الفصل الثالث يؤكد الكاتب على أنه ليس هناك شيء ألزم لفيلسوف مسلم، من أن يحتفظ في مذهبه بمكان للنبوة والوحي إذا شاء أن تقبل فلسفته وتقابل بالتسامح من جانب إخوانه المسلمين، وقد كان فلاسفة الإسلام حريصين كل الحرص على أن يوفقوا بين الفلسفة والدين وبين العقل والنقل وبين لغة الأرض ولغة السماء، لهذا لم يفتهم أن يشرحوا لغة السماء ويوضحوا كيفية وصولها إلى سكان العالم الأرضي ويبينوا الدين، على أساس عقلي، فكّونوا نظرية النبوة التي هي أهم محاولة قاموا بها بالتوفيق بين الفلسفة والدين.

يؤكد الكاتب على أنه ليس هناك شيء ألزم لفيلسوف مسلم، من أن يحتفظ في مذهبه بمكان للنبوة والوحي إذا شاء أن تقبل فلسفته وتقابل بالتسامح من جانب إخوانه المسلمين
ثم بدات موجة الشك وإنكار النبوة فأنكرها ابن الرواندي وتحامل على الاسلام وتعاليمه حملة ععنيفة، ولزم الملحدين واتصل بهم.. ويظهر أنه اضحى دسيسة ضد المسلمين يدبر لهم المكائد وينشر الإلحاد.. وقد كتب كتبا كثيرة كلها انتقاص من الإسلام.. ولكن كان موقف الفارابي من هذا الشك والإنكار أنه كتب رداً على ابن الرواندي وما طرحه، والمتوقع أن يرد الفارابي المنطقي الفيلسوف على ابن الرواندي في شيء يتصل بالمنطق والجدل اللذين أخل الآخر بقواعدهما أو في مبدأ من مبادئ الفلسفة والإلهيات التي خرج عنها، على أن الفارابي لم يكتف بهذا الموقف، بل كذلك الدفاع الذي رد عن النبوة بعد خصومها الحاضرين، فهو  يمنح أسلحه تستعين بها على هجمات المستقبل.. وعلى هذا أجهد نفسه في أن يقيمها على دعائم عقلية ويفسرها تفسيراً علمياً، وبذا استطاع أن يبطل كلمة أنصار العقل الموهومين، و يدحض دعوى  المتفلسفين الذين يزعمون أن الدين لا يمكنه التآخي مع الفلسفة.

وفي هذا الفصل أيضا يشير الكاتب إلى علاقة الفلاسفة المسلمين بأرسطو، إذ لم يكن عبثا أن يحتفي فلاسفة الإسلام بأرسطو وعظيم حكماء اليونان والرجل الإلهي بحسب الكاتب، وأن يرفعوه إلى منزلة لم يصل إليها واحد من الفلاسفة السابقين أو اللاحقين، وذلك لأنهم وجدوا لديه حلولا لكل مشكلة اعترضتهم ووقفوا في كتبه على مختلف المعلومات التي تاقت إليها نفوسهم ودائرة المعارف الأوسطية واسعة وشاملة حقا، بحيث يكاد يصادف الإنسان فيها كل المسائل الفلسفية مدروسة دراسة مفصلة.

النفس وخلودها

يتناول الكاتب في الفصل الرابع والأخير من كتابه خلود النفس، واصفا إياها بأنها سر  من أسرار الله وخلقه وآياته في عباده ولغز الإنسانية لم يحل بعد، وقد لا يحل يوما ما، فهي مصدر المعرفة المختلفة والمعلومات التي لا حصر لها ولكنها لم تسم بعد إلى أن تعرف حقيقتها معرفة صادقة يقينية ومنبع الأفكار الواضحة الجلية، إلا أن فكرتها عن ذاتها مشوبة بقدر كبير من الغموض والإبهام.. ومع هذا فالإنسان منذ نشأته تواق إلى تعريفها وتفهمها ولا يزال حتى اليوم يبذل قصارى جهده في إدراكها ويدرك السر بينها وبين الجسم، مشيرا إلى إحالة الكتاب والسنة للنفس باعتبارها مبعث الحياة.

ويتناول الكاتب رؤية ابن سينا للنفس واستيعابه لها في بحثه ودراسته، فيؤاخي بين الطب والفلسفة ويوفق بين إفلاطون وأرسطو وجمع بين فلسفة الغرب وحكمة الشرق، وعني ابن سينا بعلم النفس عناية لا نكاد نجد لها مثيلا لدى واحد من رجال التاريخ القديم والمتوسط فألمّ بمسائله المختلفة إلماماً واسعاً واستقصى مشاكله وتعمق فيه تعمقا كبيرا وأكثر من التأليف فيه إلى درج’ ملحوظة.. وهذه عناية بالغة تضع ابن سينا في مقدمة من شغلوا بموضوع النفس في التاريخ القديم والمتوسط وكان لها أثرها في آرائه .

ويختتم الكاتب كتابه قائلا في صفحه رقم ١٩٥: "وأخيراً قادتنا هذه الدراسة إلى نتائج ثلاثة رئيسية أولها أنه كيفما كانت الأفكار الأجنبية التي سرت إلى المسلمين فإنهم استطاعوا أن يخلقوا بيئة عقلية خاصة بهم ويكونوا حياه فكرية مستقلة، ومن الخطأ أن نحاول تفسير ظواهر هذه الحياة في ضوء المؤثرات الخارجية وحدها التي يُظَن أنها لم تُهضَم ولم تتأقلم ولم تنسجم مع العالم الإسلامي، أو أن نستهين بشأن العوامل الداخلية التي امتزجت بها فكانت أوثق اتصالاً وأنفذ أثراً، فهناك علم وفلسفة إسلاميان كما أن هناك لغة وأدب ارتبطا بالإسلام واتسما بسماته، وإذا كان الأدب الإسلامي قد تغذى أولاً من الأدب الجاهلي فإنه تأثر دون منازع بلغة القرآن وأحاديث الرسول وخطبه، وكذلك العلم والفلسفة فإنهما إن كانا قد استمدا الكثير من المصادر الأجنبية، إنما قاما على جهود المسلمين وتم دراستهم بروح وعقلية إسلاميتين.