في
الانتخابات التركية الأخيرة برز بين ظهرانينا، نحن العرب، تياران شقّا أوساط رأي عام يتابع بكل حماسة مجرياتها وكأنها تجري في عقر داره وكأن نتائجها، الرئاسية بشكل خاص قبل البرلمانية، ستنعكس مباشرة على حياته اليومية ولقمة عيشه.
لا ضير طبعا في متابعة هذه الانتخابات أو غيرها باهتمام خاص ولكن من الغريب أن يصبح جزء من الرأي العام العربي، سواء عبر مواقع التواصل أو غيرها، جزءا من الاستقطاب الحاد الذي عرفه المجتمع التركي إلى حد الانخراط في تأجيجه عندنا.
الشق المناهض للرئيس التركي رجب طيب
أردوغان نزل بكل ثقله وكأن لديه ثأرا شخصيا مع الرجل، شرع جمهوره في تعداد ما يرونه عيوبا فيه حتى تستغرب كيف قبل هؤلاء الأتراك ببقائه طوال هذه السنوات ثم لتجزم لاحقا أن عليهم أن يطيحوا به فورا. حدثني أحد الأصدقاء أنه في العاصمة العربية التي يقيم فيها تعالت في حيّه لفترة صيحات الفرح ومنبهات السيارات بمجرد أن نزلت نسبة أردوغان عن 50% خلال عملية الفرز…نعم إلى هذا الحد!!
هذا الشق تختلط عنده الاعتبارات وتتداخل في فوضى حقيقية، فأردوغان بالنسبة إليه «سيئ وشرير» إما لأنه وقف مع الثورات العربية المختلفة وأيّد الحركات الإسلامية التي تصدّرت المشهد بعدها أو لأنه بالتحديد، كل وفق زاويته الخاصة، ضد بشار الأسد أو ضد الانقلاب العسكري في مصر الذي أطاح بالراحل محمد مرسي، أو ضد انقلاب خليفة حفتر في ليبيا إلى حد إرسال قوات له لنصرة الحكومة الشرعية في طرابلس، أو ضد حصار قطر من قبل مصر وجيرانها الخليجيين وإرسال قوات عسكرية إلى الدوحة.
بعض هذا الشق، وفي تماه شبه كامل مع أغلب الإعلام الغربي المستنفر بغلّ شديد ضد الرجل، يركّز على ما يرونه استبدادا في عهده وكأنهم يرفلون في بلادهم في نعيم من الديمقراطية لا مثيل له، مع أن الانتخابات الهزيلة، والهزلية في آن معا، التي شهدتها بعض بلدانهم بلغت فيها نسبة المقاطعة المرتفعة ما بلغته نسبة المشاركة في انتخابات تركيا (!!)، ناهيك عن أن بعضهم لم تعرف بلاده أصلا مثل هذه الانتخابات أبدا، وإن عرفتها فالتزوير الفاحش هو من يحسمها بطبيعة الحال.
في المقابل، نجد شقا آخر أبدى من الحماسة لأردوغان، بل والمغالاة في ذلك أحيانا، ما لا يفترض أن يقبل من أناس لا تجري هذه الانتخابات على أرضهم أصلا. لا أحد من هؤلاء أشار إلى الرجل بملاحظة نقدية واحدة حتى لأن تظن أننا أمام شخص معصوم وليس سياسيا يخطئ ويصيب. لا لوم يمكن أن توجهه هنا مثلا للاجئين السوريين الذين يخشون إن فاز خصمه كليجدار أوغلو أن يتم ترحيلهم عنوة إلى بلادهم أو أن تبدأ مرحلة محمومة من الملاحقات ضدهم، خاصة مع موجة العداء للعرب عند معسكره، لكن المشكل مع آخرين وغالبيتهم من الإسلاميين، من أكثر من دولة عربية، انطلقت أكفّهم بالدعاء لأردوغان الذين وجدوا فيه الظهير الذي وقف معهم في محنتهم وكذلك النموذج الذي نجح طوال عقدين في حين قصفت تجاربهم وخابت في بضع سنين لا غير.
الاعتراف بالجميل طيب لكن ما لا يدركه هؤلاء هو أن مغالاتهم في تأييدهم للرجل لا تسهم فقط في إظهارهم بمظهر التابعين له بشكل يمس من مكانتهم الوطنية ومدى حرصهم على استقلالية توجهاتهم وقرارتهم، وإنما أيضا قد يؤدي، من حيث لا يشعرون، إلى إظهار صاحبهم وكأنه الراعي لمصالحهم بما يوازي أو يفوق مراعاته لمصالح شعبه، وهذا مسيء له فضلا عن أنه غير صحيح.
ربما تقود الشقَ الأول النكايةُ لا غير، والشقَ الثاني العرفانُ والخوفُ من المستقبل، لكن كليهما من حيث لا يدري أصيب بغبار معركة ليست معركته. صحيح أن جمهور الشق الأول سينكّد فوزُ أردوغان عليهم حياتهم، وصحيح كذلك أن جمهور الشق الثاني تنتظرهم سنوات صعبة إن لم يفز، لكن الفرق هو أن المسألة مع الشق الأول تبدو مزاجية خالصة ومع الشق الثاني مصلحية خالصة، وكلاهما قد يكون أخطأ في إظهار هذا القدر من الكره أو من المحبة.
ينسى الشقان أن هذه الانتخابات تجري في تركيا وليست عندنا، وأن أردوغان ومنافسه يسعيان لكسب ود الناخب التركي وليس العربي، وأن الرهانات والتحديات تركية خالصة، رغم امتداداتها الإقليمية والدولية التي لا شك فيها، وأنه كان من الأنسب أن تتم متابعة هذه الانتخابات المشوّقة بأعلى قدر من الإيمان بأن الشعب التركي هو وحده من سيقرر مستقبله، ويكفيه شرفا وفخرا بأن تجري انتخاباته بكل هذا القدر من التنافس والإقبال الشعبي.
بعد أن يهدأ غبار هذه المعركة السياسية سيلتفت كل من الشق الأول والشق الثاني ليعاين كل منهما بنفسه أن كليهما ما زال في بؤسه السابق، السياسي أو المعيشي، أو كليهما، في حين يمضي الأتراك في طريقهم لفرض أنفسهم قوة إقليمية ولاعبا دوليا رغم كل شيء.
القدس العربي