العناوين الآتية هي عيّنة صغيرة مما تضمنته كبريات الصحف والمجلات الغربية عن انتخابات تركيا في الأسبوع الذي سبق الاقتراع يوم الأحد:
ـ
أردوغان في مواجهة شبح الهزيمة (موقع أوريون واحد وعشرون الفرنسي، 4 أيار/مايو).
ـ هذا ما فعله السلطان أردوغان بإسطنبول طيلة عشرين سنة (صحيفة لوتون السويسرية، 6 أيار/مايو).
ـ أهم انتخابات في 2023… أردوغان يجب أن يذهب (مجلة الإيكونومست، عدد الأسبوع الماضي).
ـ استبداد أردوغان على المحك في انتخابات تركيا (افتتاحية الواشنطن بوست، 4 أيار/ مايو).
ـ يهدد بشنّ حروب، حَقود على الغرب وصاحب نزعة توسعية… أردوغان بوتين الآخر (مجلة لوبوان الفرنسية عدد الأسبوع الماضي).
ـ معارك أردوغان للتمسك بالسلطة في تركيا (صحيفة الفاينانشل تايمز، 6 أيار/مايو).
ـ انحدار السلطان (صحيفة لوفيغارو الفرنسية، 7 أيار/مايو).
عُدت إلى الوراء نحو شهرين فاستوقفتني مثل هذه العناوين، وأسوأ أضعاف المرات.
لم يحدث أن اتفقت وسائل الإعلام الغربية حول قضية أو شخص مثلما اتفقت على أردوغان، إذا استثنينا حرب روسيا على أوكرانيا وأيضا عداء الصحافة البريطانية لرئيس زيمبابوي الراحل روبرت موغابي.
تعكس هذه العناوين حالة مزاجية وسياسية لا غضاضة في وصفها بأنها مَرَضية في دوائر التأثير وصُنع القرار الغربية من أردوغان. هذه الحالة متجذرة وليست عابرة، لكنها تعاظمت مع اقتراب انتخابات الأحد وستتواصل إلى أن تنتهي الجولة الثانية المرتقبة.
فماذا قاد إلى هذه الحالة؟
بدايةً، هذا الهوس ليس حُبّاً في المعارضة التركية وزعيمها، كمال كليجدار أوغلو، بل كرها في أردوغان.
سيكون من الخطأ الانجرار وراء الاستسهال القائل إن أردوغان يخيف الغرب لأنه سيُحيي أمجاد الإمبراطورية العثمانية، وأنه سيحرر فلسطين أو يزحف بجيشه نحو وسط أوروبا. لا أحد يُصدِّق هذا التسطيح، وأردوغان نفسه سيضحك ملء فيه عندما يسمعه أو يقرأه هنا وهناك.
أكيد القضية لا تخلو من أبعاد معنوية وعقائدية وشخصية متعلقة بأردوغان تحديدا. لقد نجح الرجل في أن «يدوِّخ» جيرانه والبعيدين. خلال العقدين الماضيَين، فرض اسمه داخليا وخارجيا، بالسلب والإيجاب. يستطيع حلفاء أردوغان، داخل تركيا وخارجها، أن يجدوا له مئة حسنة يمجّدونه بها. ويستطيع خصومه والحاقدون عليه أن يجدوا له مئة خطيئة يعاتبونه عليها. ولكلا المعسكرين مسوغات وحجج مقبولة إلى حد بعيد. لم يُقسِّم رئيسٌ الآراءَ في تركيا وحولها، منذ مصطفى كمال أتاتورك، مثلما يقسّمها أردوغان، ولم يضع رئيس تركي بلاده على خريطة أخبار العالم، منذ أتاتورك، مثلما يفعل أردوغان.
لكن الأبعاد الشخصية والعقائدية ليست كل شيء، وإنما مكمِّلة يلجأ إليها أردوغان لضمان ولاء الحشود في تركيا وخارجها. وبالنسبة للغرب، ما يزعج هي أفعال أردوغان التي منها جهوده لسحب تركيا أكثر نحو الشرق.
لكن القضية بالدرجة الأولى اقتصادية ثم استراتيجية.
اقتصاديا، هناك شقَّان، الأول يتمثل في أن أردوغان نجح في تخفيف تبعية اقتصاد تركيا للغرب، والثاني أنه بعد أن قلّص تبعية اقتصاد بلاده للغرب راح ينافس هذا الغرب في أسواقه التقليدية ومستعمراته السابقة عبر القارات.
لهذا يهتم الغرب منذ سنوات بضرب اقتصاد تركيا وعُملتها، وليس بالهذيان عن إحياء الإمبراطورية الإسلامية أو إعادة صياغة الخطاب التركي تجاه إسرائيل.
لو سألت أحد كبار المسؤولين الفرنسيين وأجابك بصدق، ستسمع منه أن الشركات التركية تنافس نظيرتها الفرنسية في كل مكان وفي كل المجالات… من تصنيع الملابس الداخلية إلى مشاريع البنى التحتية وتطوير السلاح والطائرات المسيّرة، من إفريقيا إلى القوقاز وجنوب شرق آسيا.
في العديد من دول إفريقيا انسحبت فرنسا بعد أن بسطت الشركات التركية نفوذها على ما كانت بالأمس أسواقا فرنسية بامتياز وبلا منافس.
هذا الشعور بالمرارة هو الذي يفسر الخطاب العدواني حد الهوس في وسائل الإعلام والدوائر السياسية الفرنسية، حتى العليا منها، تجاه تركيا أردوغان. النظرة في باريس لتركيا مشحونة بعواطف وأحكام مسبقة عمرها مئة سنة، وتتغذى من ضغط لا يتوقف يمارسه لوبي أرميني قوي نجح في التغلغل في الأوساط السياسية والأكاديمية الفرنسية.
المشهد نفسه حيال تركيا يتكرر في الدول الأوروبية الكبرى ومعها الدول الإسكندنافية، مع فروق في التفاصيل تفرضها البيئة المحلية.
استراتيجيا، لا يستطيع الغرب الاستغناء عن تركيا. ليس فقط لأن تركيا عضو في حلف شمال الأطلسي وثاني أقوى جيش فيه، ولكن أيضا لأنها بوابة رئيسية نحو منطقة الشرق الأوسط وآسيا والقوقاز بكل قنابلها الموقوتة وخيراتها التي لا تنضب فوق الأرض وتحت الأرض.
قليلة هي الدول التي تمتلك مثل هذه المفاتيح التي تُسيل لعاب الغرب ولا يملك هذا الأخير ترف التفريط فيها.
لكن الغرب يريد تركيا من دون أردوغان ليطمئن ويضمن ولاءها في صراعاته الاستراتيجية، مثل الحرب التجارية مع الصين وروسيا. وفي وجود أردوغان يتراجع هذا الاطمئنان.
استراتيجيا أيضا، نجح أردوغان في أن يوفر لتركيا هامشا من المناورة واللعب على أكثر من حبل لتفادي موجة التبعية التي يحاول الغرب بقيادة أمريكا فرضها على العالم.
لكن هل نجح هذا الهوس في الإضرار بأردوغان من قبيل تأليب الأتراك والعرب المتعاطفين معه عليه؟
غالبا لن تنجح حملة الإساءة لأردوغان، بل قد تكون في صالحه. الذين يقودون هذه الحملة يجهولون التغيرات الاجتماعية والمعنوية في منطقة الشرق الأوسط، ومن ضمنها تركيا: خلال العقدين الماضيين تراجع الانبهار بالغرب، وتآكلت الثقة فيه وفي خطابه المزعوم عن الحريات والديمقراطية وحقوق الإنسان. من أسباب هذا التآكل سياسة الكيل بمكيالين، خصوصا حيال إسرائيل وجرائمها اليومية في الأراضي الفلسطينية، وتحالف الغرب مع أنظمة مستبدة، بعضها من صنعه، تحكم شعوبها بقبضة حديدية أسوأ من قبضة أردوغان على تركيا.
مجتمعات الشرق الأوسط فقدت الثقة في حكامها وفقدت الإيمان بالغرب. لكنها رغم ذلك أكثر استعدادا الآن للتعاطف مع القائد المحلي الذي يستهدفه الغرب وتصديق أنه بطل يعرقل مصالح الغرب الاستعماري. وسيرة أردوغان الذاتية تضعه ضمن هذه الخانة بامتياز.
لهذا غالبا ستأتي الحملة الغربية على أردوغان بعكس المقصود منها، على الرغم من أن الرجل ارتكب من الأخطاء، داخليا وخارجيا، ما يُسهِّل الإطاحة به من دون هذه الحملات الضارية، وبعضها وضيعة فعلا.
وما نتائج انتخابات الأحد إلا علامة على حفاظ الرجل على شعبيته وإنْ تآكلت قليلا.
القدس العربي