في يوم وليلة تحول البصل إلى قضية شأن عام، بعد ارتفاع أسعاره بشكل كبير،
وفقدانه بشكل ملحوظ دون الكشف عن سبب مقنع، فهو من أساسيات أغلب الوجبات في المطبخ
الشرق أوسطي، ففي بلادنا قد لا تخلو طبخة في مكوناتها من البصل، ولأن التركي أخو
العربي ومطبخه مزيج من المطبخ العراقي والسوري والمصري، بحكم التواجد العثماني
إبان الخلافة قبل أن تسقط، فقد تشابه الطعام التركي كثيرا بهذه المطابخ التي
تستخدم البصل في أكلاتها.
لم يكد يظهر المرشح الرئاسي للطاولة السداسية (قبل أن تتحول لثمانية أو
تساعية، لو أضفنا حزب الشعوب الديمقراطي من خلف الستار)، كمال
كليتشدار أوغلو، في
مطبخ بيته ممسكا بصلة، في واحدة من دعاياته الانتخابية، محذراً من حياة أكثر بؤساً
من غير البصل الذي ارتفع سعره بشكل جنوني في الأسواق، حتى تندر الأتراك بالقول إن
البصل سيعرض في محلات الذهب في المستقبل.
وكليتشدار أوغلو كان يرتدي في معصمه قلادة ملونة مصنوعة من الخيوط، في
رسالة للأكراد والعلويين تهنئة بعيد النيروز، دلالة على دخول الربيع، وهو لمن يعرف
في الزراعة كما يعرف في الطعام موسم حصاد البصل الجديد، وهو أيضاً لمن يعرف موسم
غلاء البصل المخزن الصالح للطبخ، ما يعني أنه من الطبيعي أن يكون البصل في هذا
التوقيت غالي الثمن، لكن ليس من الطبيعي أن يكون بهذه الأسعار الجنونية.
غلاء البصل بهذا الشكل الجنوني أصبح حديث الشارع التركي، ولأن المعارضة ليس
لها مركب إلا الأزمات فقد ركب رئيس حزب الشعب الجمهوري كليتشدار أوغلو مركب
الأزمة، في محاولة للوصول إلى بر الرئيس
أردوغان وطعنه في واحدة من أساسيات حياة
الأتراك، لكن في المقابل لم يقدم كليتشدار أوغلو ولا حلفه حلاً للأزمة أو وعداً
بالحل، رغم أن شعار حملته هو "وعد لك"، فانتظرنا ذلك الوعد بالحل فلم
يطرحه كمال "بيه". وإذا عُرف السبب بطُل العجب، فسبب حديث كمال كليتشدار
أوغلو عن السبب، ليس فقط موسمه الذي ترتفع فيه أسعاره، بل فيما كشفه أحد المقاطع
المصورة لعشرات الأطنان من البصل المتلف عن عمد والملقى على سفح أحد التلال في
الطريق من أنقرة إلى إسطنبول، قبل أن تعلن الحكومة منذ أسبوعين عن ضبط عشرات
الأطنان مخزنة في إحدى المناطق النائية بغرض تعطيش السوق ورفع الأسعار.
لكن الغرض الذي يسعى إليه أي تاجر جشع يتقاطع بالنتيجة مع أغراض معارضة
تعتاش على الأزمات وتسترزق منها أصوات الموتورين والحاقدين الذين يلغون عقولهم ويغمضون
أعينهم عن الحقائق، فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور. ولأن الذين
من قبلهم فعلوا مثل فعلهم وتشابهت قلوبهم، فإن ما يحدث هذه الفترة قبيل
الانتخابات
في
تركيا، يذكرني بما كان يحدث إبان حكم الرئيس محمد مرسي في مصر وقبيل سقوطه
بانقلاب عسكري شحن فيه الرأي العام بأزمات الكهرباء والبنزين؛ الذي كان يفرغ في
الجبال لكي تلتقط صور طوابير السيارات المكتظة أمام محطات التزود بالوقود.
لكن الأمر الذي يجب التوقف عنده هو ذلك المصدر الذي تستقي منه تلك القوى
المخربة، هذه الأفكار، واسمحوا لي بهذا الوصف، لأن المعارضة لا يمكن أن تكون
معارضة رشيدة بتخريب البلاد، بل بطرح أفكار أكثر إبداعاً، وهو صلب الديمقراطية لو
شئنا. وبنظرة بسيطة نجد أن غرفة عمليات الثورات المضادة، هي نفسها التي تدير
المعارضة في تركيا، ولعل المشهد يمكن أن يتضح أكثر فيما لو أخذنا مشهدا بانوراميا
لما يحدث في المنطقة منذ عشر سنوات، رغبة في تحول شعوب هذه المنطقة إلى الحالة
المائعة من دون قيم بمسخ هويتها لتطويعها من أجل أداء دور مرسوم، وهو أن تكون في
خدمة سادة هذه البلاد وأسياد هؤلاء السادة في الغرب.
إن انتصار أردوغان في حرب "البصل" هو انتصار على مشهد العبثية
الذي يراد لهذه الأمة التي تحاول استعادة نفسها ولم شملها بالعودة لأمتها
وحضارتها، لكن يداً واحدة لا تصفق، لذا فإن دعاة نصرة الرجل على حق، لكن نصرة
أنفسنا بالعمل والتوكل لا التواكل أحق، حتى يستطيع أردوغان أن يبني مشروعه، فأردوغان
ليس رئيساً لدولة، بل مشروع لأمة.