تبدو
العلاقات
التركية الروسية أحيانا وكأنها تمر بمرحلة من
البرود نتيجة تطورات متلاحقة وتباين وجهات النظر في عدة ملفات، غير أن ذلك لا ولن
يؤدي بالضرورة إلى القطيعة أو الانسداد في مسار العلاقات الثنائية القائمة على مصالح
جدية وراسخة، علما أن التعثر في مسار الاتصالات (لا التطبيع) بين
تركيا ونظام
بشار
الأسد بوساطة روسية، كان تعبيرا عن هذا الجمود أو البرود، برغم كل العمل
الدعائي لحرف الحقيقة من الأسد وحلفائه في
الحشد الشعبي السياسي والإعلامي الإيراني الناطق بالعربية.
تلاحقت التطورات بين
الجانبين خلال الشهور الثلاثة الماضية، بدا الأمر مع الذكرى السنوية للغزو الروسي
لأوكرانيا الشهر الماضي وتصويت تركيا في الجمعية العامة
للأمم المتحدة لصالح مشروع قرار ينصّ على وحدة وسيادة الأراضي الأوكرانية، ويطالب
جيش الاحتلال الروسي الانسحاب إلى خلف خطوط 24 شباط/ فبراير 2022.
التصويت التركي لم
يكن مفاجئا، وهو عبّر ويعبّر عن مواقف سمعتْها موسكو مباشرة
مرارا وتكرارا، ولا يعني تغييرا في القناعات التركية تجاه القضية الأوكرانية وسُبل
حلها، القائمة على رفض الخيار العسكري واحترام سيادة أوكرانيا ووحدة أراضيها؛
والتفاوض المباشر بين الجانبين استنادا إلى القوانين والقرارات والمواثيق الدولية
ذات الصلة.
في السياق، لا بد
من التذكير بأنّ تركيا كانت قد رفضت قبل ذلك الاعتراف بضم
روسيا غير الشرعي لشبه
جزيرة القرم (2014) حتى قبل غزو أوكرانيا، مع تفهّم هواجس روسيا الأمنية والعمل
على طمأنتها وفق الأسس التي تم التوافق عليها في إسطنبول في أول وآخر حوار مباشر
على مستوى عالٍ بين موسكو وكييف.
إلى القصة الفنلندية؛ ساهمت التطورات المتسارعة بليبيا في التباعد وتعكير الأجواء بين الجانبين، مع انفتاح تركيا على العملية السياسية التي تقودها الأمم المتحدة بدعم دولي لإجراء انتخابات عامة تُنهي الأزمة السياسية عليها، بموازاة جهود غربية لتشديد الضغوط على الوجود الروسي ومرتزقة فاغنر هناك، علما أن تركيا عارضت ذلك الوجود دوما، بل واجهته وهزمته عسكريا أيضا.
غير أن هذا الأمر
(التصويت التركي) لم يكن كافيا وحده للبرود على خط أنقرة- موسكو، لولا عدة أحداث أخرى
تلاحقت خلال الشهور الثلاثة الماضية، وأدت مجتمعة إلى تلبّدٍ ما في الأجواء بين
البلدين.
أهم هذه التطورات، كان توقف الشركات التركية بمباركة حكومية وضوء أخضر -علماً أننا نتحدث عن اقتصاد
حرّ في دولة ديموقراطية- عن تصدير البضائع إلى روسيا حتى تلك القادمة من دول أخرى،
خاصة المواد الكيماوية ومعدات التكنولوجيا
الفائقة مزدوجة الاستخدام؛ التي تحتاجها روسيا لمجهودها الحربي في أوكرانيا، وذلك
التزاما بالعقوبات الغربية الأمريكية والأوروبية ضدها.
تطور آخر ساهم في
تعكير الأجواء بين الجانبين وتمثّل بموافقة تركيا رسميا على انضمام فنلندا إلى
حلف الناتو، التي أتت أيضا انسجاما مع المواقف التركية المعلنة منذ اللحظة
الأولى لفتح الباب أمام توسيع الحلف، مع ضرورة أخذ الهواجس والمتطلبات الأمنية للحليف
التركي بعين الاعتبار من قبل هلسنكي؛ لجهة مكافحة الإرهاب دون تمييز مع تسليم
المطلوبين، وهي الشروط التي لبّتها الأخيرة بينما ماطلت وتحايلت عليها ستوكهولم مع
سعيها للاستقواء بواشنطن، ما يفسّر سبب عدم موافقة أنقرة على انضمامها للحلف على
عكس ما حصل مع فنلندا.
هنا، لا بد من
الانتباه إلى التناقض في موقف روسيا؛ كونها هي نفسها لم تعترض على انضمام فنلندا إلى
الناتو؛ باعتبار ذلك لا يشكل تهديدا مباشرا لأمنها، كما قال الرئيس فلاديمير بوتين
حرفيا.
قصة فنلندا وحدها
لم تكن كافية أيضا، غير أن تزامنها مع التطورات المتراكمة الأخرى ساهم في زيادة المناخات
السلبية وتعكير الأجواء بين الجانبين.
إلى القصة
الفنلندية؛ ساهمت التطورات المتسارعة بليبيا في التباعد وتعكير الأجواء بين الجانبين،
مع انفتاح تركيا على العملية السياسية التي تقودها الأمم المتحدة بدعم دولي لإجراء
انتخابات عامة تُنهي الأزمة السياسية عليها، بموازاة جهود غربية لتشديد الضغوط على
الوجود الروسي ومرتزقة فاغنر هناك، علما أن تركيا عارضت ذلك الوجود دوما، بل واجهته
وهزمته عسكريا أيضا، بينما وصل النفاق الغربي مداه باعتبار الرئيس الفرنسي إيمانويل
ماكرون وحتى دول أوروبية أخرى روسيا أقرب إليها من تركيا، رغم عضوية هذه الأخيرة في
الناتو؛ فقط ضمن حسد وغيرة وحقد تاريخي حضاري على أنقرة، واعتبار موسكو منتمية إلى
نفس المنظومة الحضارية الثقافية الغربية، وذلك قبل خطيئة بوتين التاريخية الكبرى في
أوكرانيا.
كل التطورات السابقة
تجلّت بساحة التقاطع الرئيسية بين الجانبين في
سوريا، حيث سعت روسيا، القوة الكبرى
القائمة بالاحتلال هناك، للتقارب بين تركيا ونظام الأسد ضمن تصوراتها وقناعاتها الخاصة
للإحساس بأنها لا تزال قوة عظمى، مع الانتباه إلى أنه حتى في سوريا اعتبر الغرب
دوما روسيا أقرب إليه من تركيا لعدة اعتبارات تاريخية وسياسية
وواقعية.
قبل أن تتراكم الأحداث
والتطورات السابقة، إضافة إلى فاجعة الزلزال وتداعياتها السياسية، سارت الأمور جيدا مع استضافة موسكو اجتماع وزراء الدفاع الثلاثة (الروسي والتركي ووزير دفاع النظام)
في كانون الأول/ ديسمبر الماضي، وكان يفترض أن تتواصل السيرورة مع لقاءات مساعدي وزراء
الخارجية في كانون الثاني/ يناير ثم الوزراء أنفسهم في شباط/ فبراير، والتحضير
لاجتماع محتمل بين الرئيس أردوغان وبشار الأسد في آذار/ مارس.
تمثّل الغرض
الأساسي لمساعي روسيا بتخفيف عزلتها وإشعارها أنها لا تزال لاعبا دوليا، رغم أوضاعها
المتأزمة وتراجعها، وفي السياق تعويم نظام الأسد، بينما أبدت القيادة التركية
انفتاحا على الجهود الروسية لمواجهة انتهازية ونفاق المعارضة الداخلية في قضية
اللاجئين السوريين، وتصويرهم بديماغوجية أمام الرأي العام، وكأنهم السبب الرئيسي لأزمات
البلاد الاقتصادية، ولا بد من إعادتهم إلى بلادهم، وأن هذا يمرّ حصرا عبر الحوار
والعلاقة مع نظام الأسد.
كان انفتاح القيادة التركية جزئيا وتكتيكيا حتى الانتخابات المقررة منتصف أيار/ مايو لإفراغ دعاوى المعارضة من محتواها، وإثبات أن الأسد غير ذي صلة ولا يستطيع، هذا إذا أراد أصلا، وأنه عاجز عن توفير البضاعة في محاربة التنظيمات الإرهابية دون تمييز، التي تتولاها تركيا بنفسها، بينما يتحالف معها الأسد سرا وعلانية، علما أن اللاجئين كانوا ضحيته أصلا.
كان انفتاح
القيادة التركية جزئيا وتكتيكيا حتى الانتخابات المقررة منتصف أيار/ مايو لإفراغ
دعاوى المعارضة من محتواها، وإثبات أن الأسد غير ذي صلة ولا يستطيع، هذا إذا أراد أصلا،
وأنه عاجز عن توفير البضاعة في محاربة التنظيمات الإرهابية دون تمييز، التي تتولاها
تركيا بنفسها، بينما يتحالف معها الأسد سرا وعلانية، علما أن اللاجئين كانوا
ضحيته أصلا، ضمن القاعدة سيئة الصيت "الأسد أو نحرق البلد"، التي تم تحديثها
إقليميا، عبر إلقاء تبعية اللاجئين على دول الجوار لتصبح "الأسد أو نحرق
المنطقة".
أدى الزلزال إلى تغيّرات مهمة وجذرية في تركيا، ورغم استغلاله من بعض الأنظمة العربية
للهرولة إلى الأسد والدعوة للتطبيع العلني معه، إلا أنه في المقابل أدى إلى إزاحة قضية
اللاجئين عن جدول الأعمال في تركيا، فلم تعد تحتل أولوية ملحّة، رغم مساعي المعارضة
اليائسة لإقحامها بأي طريقة في السجال الانتخابي.
إلى ذلك، كان الدخول
السلبي لإيران على خط الاتصالات وتعثرها عبر تحريض
النظام رغبة من طهران في فرض نفسها كما فعلت في آلية أستانا، التي كانت أساسا ثنائية
ثم تحولت إلى ثلاثية تركية روسية إيرانية، ولكن أقرب إلى صيغة "2+1".
وعليه،يبدو واضحا تماما عدم رغبة روسيا في الضغط على رَجلها أو أداتها الأسد لاستئناف الاتصالات، مع إعطائه حرية للدعاية وتبييض صفحته وترويج انتصار وهمي لا أساس له على أرض الواقع، بالحوار بين النظام الساقط المنهار والفاقد السيادة والشرعية؛ والقيادة التركية التي لم تعد تعتبر الأمر ملحّا؛ كون العملية الانتخابية تسير بشكل جيد، ويفترض أن ترى الخواتيم السعيدة منتصف أيار/ مايو القادم.
مع ذلك، لا بد من
الانتباه إلى حاجة بوتين لأردوغان والتحالف الحاكم؛ كونه لا يثق في المعارضة
التركية الهشة والمنقسمة، مع قناعته التامة والواضحة أصلا بأنها لن تصمد أمام الضغوط
الغربية الأمريكية والأوروبية، خاصة مع التدخلات الواضحة لتشجيعها ورصّ صفوفها من أجل
إعادة تركيا القديمة كمخلب قط غربي ضد روسيا، وحتى ضد إيران الموتورة تجاه الرئيس أردوغان
والتجربة التركية وتأثيرها الإيجابي عربيا وإسلاميا، وتقديم نموذج مضاد مناقض
للدموي الاستعماري الإيراني وأكثر جاذبية وقبولا أمام الرأي العام العربي والإسلامي.
إذا رأت القيادة التركية أن الضرورات خلال الأمتار الأخيرة من الماراثون الانتخابي تدفع باتجاه استئناف الاتصالات مع نظام الأسد لإفراغ دعاية المعارضة الانتخابية من محتواها، فروسيا لن تمانع بذلك عبر لقاءات ثلاثية أو رباعية، مع قناعاتها التامة بأن تركيا الجديدة بقيادة أردوغان لن تكون عدوا وجزءا من المخططات ضدها، حتى مع الاحتفاظ بقناعاتها الخاصة تجاه العلاقات والمصالح الثنائية، والقضية الأوكرانية وسبل حلها حلا عادلا شاملا ومستداما، مع الانتباه كذلك إلى أن الظروف تغيّرت.
إلى ذلك، كانت زيارة
لافتة لوزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف لتركيا مطلع نيسان/ أبريل الجاري والتواصل
حول تمديد اتفاقية تصدير الحبوب العالمية، وتفهم تركيا للموقف الروسي تجاه تحسينها
وتفعيلها، ثم اجتماع نواب وزراء الخارجية الأربعة في موسكو، رغم تأجيل اجتماع وزراء
الخارجية، علما أن الأمر كما اللقاء الرئاسي لم يعد ملحّا على جدول الأعمال
التركي، ولا حتى الثنائي مع روسيا المتخم بقضايا وملفات عديدة سياسية واقتصادية وأمنية، يبدو بشار الأسد ونظامه عنصرا هامشيا وصغيرا فيها.
بالعموم، إذا رأت القيادة التركية أن الضرورات خلال الأمتار الأخيرة من الماراثون الانتخابي تدفع باتجاه استئناف الاتصالات مع نظام الأسد لإفراغ دعاية المعارضة الانتخابية من محتواها، فروسيا لن تمانع بذلك عبر لقاءات ثلاثية أو رباعية، مع قناعاتها التامة بأن تركيا الجديدة بقيادة أردوغان لن تكون عدوا وجزءا من المخططات ضدها، حتى مع الاحتفاظ بقناعاتها الخاصة تجاه العلاقات والمصالح الثنائية، والقضية الأوكرانية وسبل حلها حلا عادلا شاملا ومستداما، مع الانتباه كذلك إلى أن الظروف تغيّرت، فبعد العزلة والغرق في المستنقع الأوكراني، لم تعد روسيا في وضع
يسمح لها بالابتزاز أو الضغط على تركيا بالدم والجرائم كما فعلت سابقا في سوريا وليبيا، وتلقيها الردود المناسبة عبر عمليات درع الربيع وعاصفة السلام رغم نفاق وخذلان أمريكا
وأوروبا والمجتمع الدولي بشكل عام.