الكتاب: "البوابة السورية والعودة الروسية"
الكاتب: عايدة العلي سري الدين
الناشر: الدار العربية للعلوم - ناشرون، بيروت،
2016
(عدد الصفحات: 335 من القطع الكبير)
تناقش عايدة العلي سري الدين في الفصل الثالث من
كتابها "البوابة السورية والعودة الروسية"، التدخل الروسي في سوريا
وتداعياته على المشهد الإقليمي، ذلك أنَّ النظرة المتعجلة للتدخّل الروسي عسكرياً
في سوريا تكتفي بإعطاء انطباع بأنها غيرت معادلة القوى القائمة في المنطقة بالكامل
كما كشفت إلى حد كبير ضعف وتراجع الدور الأمريكي، لكن الغوص في أعماق ما جرى
يقودنا إلى ضرورة استدعاء تاريخ الدور الروسي في المنطقة.
فروسيا القيصرية كانت تسعى دائماً للوصول
إلى المياه الدافئة في شرق
روسيا وجنوبها وغربها، وعندما هزمت اليابان روسيا عام
1905 لم يلبث الحكم القيصري طويلاً حيث انتهى بإعدام أسرة رومانوف بفعل الأحداث
اليومية للثورة البلشفية عام 1917، وعندما تكسرت قوة الجيش النازي على الأرض
الروسية كان ذلك إيذاناً بميلاد قزة عظمى على الصعيد الدولي تسمى الاتحاد السوفييتي،
وانفتاح شهيته في مواجهة التطورات الكبرى بعد الحرب العالمية الثانية وبداية الحرب
الباردة التي اعتمدت على اختلاف الأنظمة بين المعسكرين عندما قادت الدولة السوفييتية
باسم الأيديولوجيا وغطائها السياسي حلفاءها في شرق أوروبا والأقاليم الروسية في
الجنوب فضلاً عن منطقتي البلقان والشرق الأوسط، وظهرت موسكو بمظهر الداعم لحركات
التحررالوطني في البلدان المستعمرة وشبه المستعمرة، والمناوئة للإمبريالية
الغربية، بل دخل السوفييت إلى المنطقة العربية بقوة من بوابة مصر عبد الناصر
ولعبوا على الخلاف بينه وبين الولايات المتحدة الأمريكية والغرب عموماً، كما لعبوا
على الصراع بينه وبين الأنظمة التقليدية في العالم العربي، لأن الاتحاد السوفييتي
كان يعاني دائماً من البحار المغلقة والمياه المتجمدة ويبحث عن شواطئ البحر الأبيض
المتوسط وغيره من البحار المفتوحة فهو إذاً حلم قديم بالتواجد في منطقة الشرق
الأوسط على مقربة من تطلعات موسكو وأهدافها عبر القرون الماضية.
ولا بد أن نستوعب هنا عدداً من الملاحظات:
أولاً ـ تضرب
العلاقات التاريخية بين روسيا
القيصرية والشعوب الإسلامية بجذورها إلى قرون عدة، إذ أنه فضلاً عن دول الجوار
الإسلامية مثل إيران وتركيا فإن هناك شعوباً إسلامية اندمجت في كيان الدولة
الروسية الكبيرة وأصبحت جزءاً منها في ظل روسيا السوفييتية، حيث كان الغطاء
الأيديولوجي المتمثل في اعتناق النظرية الماركسية يمثّل رابطاً بين مكونات الاتحاد
السوفييتي بغض النظر عن القوميات والديانات والثقافات الفرعية، ولكن الأمر الذي لا
خلاف عليه هو أن روسيا كانت تنظر بحذر إلى الأقليات الإسلامية في داخلها قبل
اندلاع حركة المقاومة في الشيشان، كما أن روسيا باعتبارها دولة أرثوذكسية كبرى
كانت تشعر برباط قوي مع المسيحيين العرب
عموماً وأتباع الكنيسة الأرثوذكسية خصوصاً حتى أن القيصر الروسي أوفد قنصل بلاده
في مصر أثناء القرن التاسع عشر ليقابل البابا كيرلس الخامس ويبلغه رغبة القيصر في
أن يكون أقباط مصر تحت حمايته، ولكن البابا الوطني رد بحكمة بالغة قائلاً للمبعوث
الروسي: هل القيصر يعيش أبداً أم أنه يموت كسائر البشر؟ فأجابه القنصل الروسي بل
هو حاكم البلاد يعيش ويموت فرد كيرلس الخامس: إن الأقباط المصريين في حماية من لا
يموت أبداً وهو الرب الذي يحمينا.
وتوضح هذه النقطة الرغبة الروسية الكامنة في
الامتداد والسيطرة حتى قبل مجيء روسيا السوفييتية التي تواجدت في المنطقة بعد ذلك
فقد كان الروس يريدون أن يكونوا حماة الأقباط الأرثوذكس مثلما أن الفرنسيين هم
حماة الموارنة في لبنان على سبيل المثال.
ثانياً ـ إن التواجد السوفييتي في المنطقة
العربية قد بدأ مع أجواء الحرب الباردة التي سيطرت على سياسات كثير من الدول
العربية وفي مقدمها مصر، إذ أن البوابة المصرية هي التي دخل منها الروس في عهد عبد
الناصر إلى أن خرجوا من البوابة ذاتها في عهد السادات عندما أنهى فجأة وجود
الخبراء السوفييت في الجيش المصري ليدخل الحرب مع إسرائيل من دونهم عام 1973.
وقد جاء على مصر زمن عندما كانت القوات
المسلحة المصرية تحتفل بذكرى ميلاد فلاديمير لينين حيث كان التغلغل الواضح للسوفييت
في ذلك الوقت إلا أن إنهاء وجودهم لم يستغرق أكثر من ساعات محدودة ولا ينسى الروس
ذلك أبداً ومع ذلك يحتفظون بنوع من المرارة تجاه السادات بسبب قراره المفاجئ
حينذاك، لذلك فإنهم يتبعون الآن أسلوب إقامة القواعد العسكرية البحرية إذا ما تيسر
لهم ذلك بالقرب من المياه الدافئة، وهذا ما حدث مع سوريا، حيث تمكنوا من الحصول
عليها في اللاذقية على ساحل البحر المتوسط ويفسر الكثيرون التدخّل الروسي الحالي
بالرغبة في الاحتفاظ بتلك القاعدة البرية الباقية لهم في الشرق الأوسط.
بدأ التواجد السوفييتي في المنطقة العربية مع أجواء الحرب الباردة التي سيطرت على سياسات كثير من الدول العربية وفي مقدمها مصر، إذ أن البوابة المصرية هي التي دخل منها الروس في عهد عبد الناصر إلى أن خرجوا من البوابة ذاتها في عهد السادات عندما أنهى فجأة وجود الخبراء السوفييت في الجيش المصري ليدخل الحرب مع إسرائيل من دونهم عام 1973.
ثالثاً ـ لقد استمر الروس سياسياً في سوريا
من خلال نظام الرئيس حافظ الأسد الذي وقع معاهدة استراتيجية مع الاتحاد السوفييتي
في عهد الزعيم الراحل ليونيد بريجنيف عام 1980، واستمر ابنه الرئيس بشار الأسد على
نفس النهج لوالده، واضعين في الاعتبار القرب الجغرافي نسبياً بين موسكو ودمشق،
فضلاً عن أهمية سوريا البالغة من الناحية الاستراتيجية لذلك جاء التدخّل العسكري
الروسي الأخير لضمان استمرار حكم الأسد أو بديله من بين من يؤمنون بأهمية العلاقة
مع موسكو واستمرار التواجد العسكري داخل الدولة السورية، بغض النظر عن حجمها حتى
ولو تحولت إلى شريط ساحلي يرتبط بالعاصمة دمشق من دون اعتبار لتماسك الدولة
السورية التي عرفناها في المئة عام الأخيرة.
رابعاً ـ إن الإيرانيين لاعب رئيس في
العلاقات مع سوريا وقد كان الرئيس الراحل حافظ الأسد يستخدمهم مثلما حدث أثناء
الحرب العراقية الإيرانية ورأى الرئيس السوري البعثي أنها فرصته لتصفية حساباته مع
جناح حزب البعث في العراق بقيادة صدام حسين فدعمت سوريا وهي الدولة العربية إيران
أثناء حربها مع العراق والتي استمرت قرابة ثماني سنوات، ونضيف إلى ذلك طبيعة
العلاقات المذهبية بين شيعة إيران والعلويين في سوريا، وبذلك تعززت العلاقات بين
طهران ودمشق على نحو غير مسبوق حتى تمكن السفير الإيراني في دمشق من رعاية
"حزب الله" في لبنان أثناء نشأته وبدايات تكوينه لأن سوريا كانت تسيطر
على لبنان حينذاك والسفير الإيراني هو الذي فقد أصابعه بطرد ملغوم، ثم أصبح هو
الراعي الأول لميلاد ذلك الحزب الذي يمثل المقاومة اللبنانية ضد إسرائيل مع ارتباط
كامل بالدولة الإيرانية.
خامساً ـ إن بوتين وجدها فرصة تاريخية ليوجه
صفعة للإدارة الأمريكية الضعيفة بقيادة باراك أوباما وسياسته المتمردة في الشرق
الأوسط وانعدام رغبته في حسم الصراع على أرض سوريا، حيث ترك نظام الأسد من دون
تحديد مستقبله وضمان مخرج لنظام الرئيس السوري وهو الحليف الروسي الأول في
المنطقة، لأن موسكو تدرك أن غياب الأسد وحدوث تغيير ضخم على أنقاض الدولة السورية
سوف يطيحان المصالح الروسية في المنطقة كلها، لذلك كان قرار بوتين بالتدخّل
العسكري من دون تردد خصوصاً في ظل حسابات علوية تدرك أن التدخّل الروسي المفاجئ
سوف يحقق نتائج خاطفة وقد تقف واشنطن المترددة في حالة عجز عن المواجهة، ثم إن هناك
تبريراً قوياً وجاهزاً للتدخل الروسي يتمثل في الرغبة في ضرب "الإرهاب"
في المنطقة وتصفية حركة "داعش" وغيرها من جماعات "الإرهاب"
التي عجز التحالف الغربي عن تصفيتها.
إن التدخّل الروسي قد غيّر المعادلة تماماً في المنطقة وقلب المائدة على الكثيرين وكشف بوضوح تردد الموقف الأمريكي وضعفه في هذه المرحلة وأعطى موسكو فرصة للإمساك بزمام المبادرة والتحكم بمستقبل هذه المنطقة ولو على المدى القصير
ولقد غلّفت موسكو هدفها في الحفاظ على
مصالحها في سوريا بمهمة دولية كبرى وهي مواجهة المدّ الإرهابي تحت مظلة الإسلام في
المشرق العربي وتداعياته الحزينة على الأقليات المسيحية والإيزيدية وغيرها ممن
تعرضت لعمليات التهجير القسري مع فرض جزية عليهم وخطف نسائهم وقتل المئات منهم.
سادساً ـ إن فلاديمير بوتين يدشن زعامته في
المنطقة ويفرض وجوده على نحو غير مسبوق في العقود الأخيرة ويعيد روسيا إلى مسرح
الأحداث الدولة خصوصاً بعد ما جرى في الأعوام الثلاثة الأخير من مواجهة في البلقان
وعلى الحدود الروسية مباشرة حيث فرض بوتين إرادة بلاده وحقق بعض أهدافها، ويأتي
تدخّله العسكري حالياً في الشرق الأوسط ليؤكد به زعامته وحضور بلاده في المشهد
السياسي الدولي بقوة لم تتحقق لها منذ عقود عدة ولا يستطيع أوباما أن يتخذ مواقف
حادة ويبرح موقعه وقد ترك وراءه تورطاً عسكرياً جديداً في المنطقة يذكّر الجميع
بما فعلته الولايات المتحدة الأميركية في العراق، ولا شك أن بوتين يراهن على الوضع
العام دولياً وعلى الولايات المتحدة الأميركية وسياساتها المترددة في المنطقة،
وهنا نضيف نقطة أخرى يجب ألا تغيب عن البال وهي شعور روسيا بأن الدولة التركية قد
ساعدت حركة "داعش" بخدمات لوجستية كبيرة فضلاً عن رغبة أنقرة الشديدة في
الخلاق من نظام الأسد باعتبار ذلك هو الحل المطروح للأزمة السورية من وجهة نظر
الأتراك.
سابعاً ـ إن التدخّل الروسي يترك آثاراً
ضخمة على الساحة الدولية تفوق بكثير كل التوقعات ويمثّل مفاجأة قلبت كل موازين
القوى وغيّرت من حسابات الجميع وأدت إلى اختلاف وجهات النظر داخل المجموعة العربية
فبينما رحب بعض الدول العربية بالموقف الروسي الجديد، نظرت إليه دول عربية أخرى
على أن محاولة لتحقيق مكاسب روسية في المنطقة على حساب أمنها واستقرارها
واستغلالاً لشعار "الحرب على الإرهاب" في تحقيق استمرار التواجد الروسي
في سوريا والإبقاء على نظام الأسد.
إن التدخّل الروسي قد غيّر المعادلة تماماً
في المنطقة وقلب المائدة على الكثيرين وكشف بوضوح تردد الموقف الأمريكي وضعفه في
هذه المرحلة وأعطى موسكو فرصة للإمساك بزمام المبادرة والتحكم بمستقبل هذه المنطقة
ولو على المدى القصير، والأمر يحتاج إلى أخذه كلياً من منظور تاريخ العلاقات
الروسية العربية وتطلعات موسكو لاستعادة دورها بقيادة بوتين، إن لما جرى جذوراً لا
يمكن إغفالها فالتاريخ يشرح الحاضر ويوضح المستقبل.
إقرأ أيضا: دور الأزمة السورية في تعزيز موقع روسيا في الشرق الأوسط