الكتاب: "البوابة السورية والعودة الروسية"
الكاتب: عايدة العلي سري الدين
الناشر: الدار العربية للعلوم - ناشرون، بيروت،
2016
(عدد الصفحات 335 من القطع الكبير)
من المؤكد أن
روسيا تنظر إلى نفسها كقوة
عظمى وكلاعب أساس على المستوى الدولي، بما يجيز لها الحق بأن تمتلك حرية المناورة
الاستراتيجية واستعمال فائض قدراتها العسكرية، لمدّ نفوذها وتحقيق مصالحها،
وبالتالي العمل على استعادة موقعها الذي فقدته بعد تفكك الاتحاد السوفييتي.
وفي بداية الأزمة السورية ومع اقتراب الصراع
بين الدولة الوطنية السورية والحركات المعارضة من الساحل السوري، وتحديداً من
طرطوس، شعرت موسكو بأن التهديد قد اقترب من قاعدتها البحرية الوحيدة على الشاطىء
الشرقي للبحر المتوسط. ويذهب بعض المحللين إلى أن هذا التهديد قد شكّل الدافع
الأوّلي لموسكو لاتخاذ القرار في أيلول/ سبتمبر 2015 بالتدخل عسكرياً في النزاع
السوري.
عملت موسكو منذ اليوم الأول لحشد قواتها على
تقوية قاعدة طرطوس البحرية وتوسيع قاعدة حميميم الجوية، بما يعزز ويقوي حضورها
العسكري في شرقي المتوسط، كما يؤهلها استراتيجياً للعب دور مؤثر وفاعل على مستوى
المنطقة.
أمَّا العامل الثاني الذي دفع روسيا إلى
التدخل في
سوريا، فيرتبط بحرص الرئيس فلاديمير بوتين على المحافظة على الاندفاعة
الاستراتيجية التي بدأها بالرَّدِ على الاتحاد الأوروبي، لمنعه من مدّ نفوذه إلى
أوكرانيا وضمّها إلى الاتحاد وإلى حلف شمالي الأطلسي.
تُضاف إلى ذلك رغبة بوتين في الرد على
القرار الأمريكي بنشر الدرع الصاروخية في الدول المجاورة لروسيا، التي كانت جزءاً
من المنظومة السوفييتية. وهكذا سعى بوتين إلى الإفلات من الحصار الذي فرضه الغرب
على روسيا بعد ضم شبه جزيرة القرم إلى بلاده، من خلال التوجه إلى المتوسط لفتح
جبهة جنوبية على حلف شمالي الأطلسي، ويبدو بأن ضغوط الغرب على روسيا في أعقاب
الأزمة الأوكرانية هيأت الظروف الملائمة لاتخاذ قرار التدخل في سوريا. وبالفعل،
نجحت موسكو من خلال ديناميكية وفعالية تدخلها في سوريا في تحويل الأنظار والاهتمام
عن الأزمة الأوكرانية.
أخيراً، شكلت الحرب على الإرهاب العنوان
الأبرز في الاستراتيجية الروسية للتدخل في سوريا، وجاء هذا الإعلان بعد سنة وثلاثة
أشهر من تشكيل التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة من أجل شن الحرب ضد
"الدولة الإسلامية" بعد احتلالها مدينة الموصل وإعلان دولة الخلافة
وعاصمتها مدينة الرقة السورية.
وعبّرت القيادة الروسية عن هواجسها من الخطر
الإرهابي المتنامي في سوريا بعدما أدركت أن ثلث أعداد الإرهابيين الغرباء الذين
انضموا إلى الدولة الاسلامية وعددهم ثلاثون ألفاً، هم من الاتحاد الروسي أو من دول
وسط آسيا. واعتبرت هذه القيادة أن أفضل سياسة دفاعية يمكن أن تعتمدها ضد هؤلاء
الإرهابيين تتركز على مقاتلتهم والتخلص منهم قبل عودتهم إلى ديارهم.
في هذا الكتاب الجديد، المعنون تحت "البوابة
السورية والعودة الروسية"، المتكون من مقدمة وتسعة فصول، للكاتبة اللبنانية
عايدة العلي سري الدين، التي ألفت العديد من الكتب في ميدان الجغرافيا السياسية، والصادر
عن الدار العربية للعلوم ناشرون في بيروت، تقدم لنا رؤيتها حول موقع القيادة في
الشرق الأوسط بين موسكو وبين واشنطن حين كان ملف الصراع في إقليم الشرق الأوسط
موضع استقطاب ومحل شد الحبال الأميركية ـ السوفييتية طيلة المرحلة الباردة، ثم
اليوم وعلى ضوء الانسحاب الأمريكي الواضح من الإدارة اليومية لأزمات الشرق الأوسط
وانحسار رغبة واشنطن في أي دور قيادي في هذه الملفات، إذْ وجدت موسكو أن الفرصة
مهيأة لها لإمساك زمام الأمور وملء الفراغ والإقدام من أجل حياكة القيادة الروسية
في منطقة الشرق الوسط برمتها.
الحياكة الروسية في منطقة الشرق الأوسط
بعد
العرض التاريخي والجغرافي للإمبراطورية
الروسية كأكبر دولة في العالم.. تمتد من بولندا إلى الصين كما جاء ذلك في الفصل
الأول، تناقش الكاتبة في الفصل الثاني المقاربة الروسية للتدحل في منطقة الشرق
الأوسط، أي الأسلوب الذي اختارته القيادة الروسية لهذا المسعى لا فتة الانتباه، أنَّ
فحوى السياسات الروسية كانت موضع تساؤلات من قبل الولايات المتحدة، فهناك رأي يفيد
بأن الديبلوماسية الأمريكية لا تبالي بأية إنجازات لروسيا في الشرق الأوسط الذي
قررت الاستغناء عنه ـ باستثناء ما تستدعيه علاقتها التحالفية مع الكيان الصهيوني ـ
وذلك في أعقاب اكتشاف النفط الغزير في الأراضي الأمريكية واتخاذ القرار بالتوجه
شرقاً نحو الصين وجاراتها.
أما الرأي الآخر فيرى في التخلي الأمريكي عن
الأدوار القيادية للولايات المتحدة قراراً مرحلياً يريحها من اللوم والمسؤولية
ويلقي بروسيا في التورط في أزمات ونزاعات دموية ومستنقعات حروب أهلية ودينية
ومذهبية وبعد التوريط لكل حادث حديث.
تنطلق المقاربة الروسية من ربط نزاعات الشرق
الأوسط بالإرهاب، وقد أدرجت ذلك في رسالة وجهتها الخارجية الروسية إلى الأمين
العام للأمم المتحدة بان كي مون طالبت فيها بعقد جلسة لمجلس الأمن على المستوى
الوزاري في 30 أيلول (سبتمبر) 2015، بوصفها وثيقة رسمية.
تقول موسكو حسب ما جاء في ورقة الرؤية
الروسية، إنَّ على مجلس الأمن أن يلعب "الدور الرئيس في تنسيق المقاربات
الجماعية" وأن "يصمم طرقاً ووسائل التطرق إلى التحديات الأمنية" في
المنطقة، وتتحدث عن "الحداثة" في الفكر والإجراءات لإزالة الأسباب
الجذرية للنزاعات، وتدعو إلى "مفهوم مشترك للأسباب والوضع الأمني الخطير في
المنطقة وللعناصر السياسية التي تؤجج الأزمة".
النزاع في سوريا وفق الرؤية الروسية هو صراع ضد الإرهاب لأنَّ النزاع الدموي بات أرضاً خصبة لقيام "الخلافة" ببسط نفسها على أجزاء من البلاد والمطلوب وفق المقاربة الروسية هو حل سياسي على أساس بيان جنيف "وكذلك حشد جهود الأطراف السورية والإقليمية والأسرة الدولية بهدف التصدي لخطر الإرهاب الضخم وذلك على أساس رفض الازدواجية واحترام مبادئ سيادة الدول".
تقول الكاتبة عايدة العلي في معرض شرحها
للمقاربة الروسية، إنَّها "تبدأ بالنزاع الفلسطيني ـ الإسرائيلي وتنص على عدم
التوصل إلى حل للنزاع، إنما يساهم في ضخ "الراديكالية" في "الشارع
العربي" ويخلق "الظروف المؤاتية لانتشار الأفكار الإرهابية".
النزاع في سوريا وفق الرؤية الروسية هو صراع
ضد الإرهاب لأنَّ النزاع الدموي بات أرضاً خصبة لقيام "الخلافة" ببسط نفسها
على أجزاء من البلاد والمطلوب وفق المقاربة الروسية هو حل سياسي على أساس بيان
جنيف "وكذلك حشد جهود الأطراف السورية والإقليمية والأسرة الدولية بهدف
التصدي لخطر الإرهاب الضخم وذلك على أساس رفض الازدواجية واحترام مبادئ سيادة
الدول".
ليبيا ما زالت تعاني من العواقب الوخيمة لما
حدث لها عام 2011 وفق الورقة الروسية إشارة إلى اقتحام قوات حلف شمال الأطلسي
(ناتو) البلاد للتخلص من معمر القذافي، مشكلتها اليوم هي مشكلة إرهاب والحل فيها
يتطلب إنشاء "حكومة توافق وطني" مدعومة دولياً بالصورة المناسبة
"لتمكين الجيش والهياكل الأمنية كي تنجح فعلياً في صد التهديد الإرهابي
المتصاعد".
وتنص الورقة الروسية على أن اليمن يتدهور
ويحتاج وقفاً للنار وإطلاق عملية سياسية تحت رعاية الأمم المتحدة، وخطوات لتحسين
الأوضاع الإنسانية وكذلك التطرق إلى "الخطر الإرهابي" في ذلك البلد.
موسكو لا تقترح أن تتحمل أعباء مكافحة
الإرهاب بمفردها في الشرق الأوسط ولا تنصب نفسها وحدها الراعي لحلول هذه النزاعات،
تقول إن هناك حاجة إلى "تحليل شامل وموسّع لطبيعة النزاعات في الشرق الأوسط
وشمال أفريقيا بهدف وضع توجهات لعمل جماعي على أساس ميثاق الأمم المتحدة".
ووفق المفهوم الروسي إن "التدخّل في
الشؤون الداخلية للدول السيادية واستخدام القوة من دون صلاحية من مجلس الأمن، ونقل
السلاح إلى عناصر غير حكومية ذات أيديولوجية راديكالية إنما تؤجج الوضع في المنطقة
وترفع مستوى الأخطار الإرهابية"، كل شيء في نظر موسكو يجب أن ينصب على مكافحة
إرهاب المجموعات وليس أبداً على أي إرهاب آخر، الحكومات معفية من تهمة الإرهاب
باسم السيادة وهي يجب أن تبقى خارج المحاسبة باسم السيادة، رأيها هو أن العمل
الجماعي للأسرة الدولية يجب أن ينصب أولاً على "دعم الحكومات الشرعية في
حربها ضد الإرهاب على أراضيها" من دون أي "ازدواجية"(ص47 ـ 48).
ترى موسكو في تحليلها للنزاعات في الشرق
الأوسط وتطورها "في أعقاب ما يسمى الربيع العربي" فذلك بأنًّ تاريخ صعود
الحركات الإسلامية الجهادية كان بدعم غربي، لذلك اعتمدت روسياً سياسة التعطيل لمنع
مجلس الأمن من تناول الأزمة السورية متمسكة منذ البداية ببقاء بشار الأسد في
الرئاسة. فاستخدمت الفيتو أربع مرات برفقة الصين ـ حليفتها الاستراتيجية ـ وتبنت
سياسة التعطيل معها الدول الأخرى المنتمية إلى دول "البريكس" ـ الهند
والبرازيل وجنوب أفريقيا ـ عملياً أجهضت موسكو عملية جنيف لأنها تنطوي على هيئة
حكم انتقالي بصلاحيات تنفيذية موسعة شملت الصلاحيات الأمنية.
كانت روسيا تحاول الجمع بين المهتمين: مهمة
صيانة النظام في دمشق بما فيه ـ حتى الآن ـ بقاء الأسد في السلطة بكل ما يتطلبه
ذلك من دعم عسكري، ومهمة رعاية مقاربة سياسية جديدة قوامها الشراكة مع الأطراف
السورية والإقليمية في الحرب على الإرهاب.
موسكو لا تقترح أن تتحمل أعباء مكافحة الإرهاب بمفردها في الشرق الأوسط ولا تنصب نفسها وحدها الراعي لحلول هذه النزاعات، تقول إن هناك حاجة إلى "تحليل شامل وموسّع لطبيعة النزاعات في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بهدف وضع توجهات لعمل جماعي على أساس ميثاق الأمم المتحدة".
أما الولايات المتحدة، فقد تبنت "الفوضى الخلاقة" وسيلة لإحداث
التغيير في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وروسيا تستثمر الآن في رغبة الغرب ـ
بما فيه الولايات المتحدة ـ بفكرة "التفاهمات الخلاقة" و"الترتيبات
الخلاقة".
أوروبا تعمل على حلول "خلاقة"
للخطر الذي يحدق بها وبأمنها وفق تقويمها، خطر تدفّق آلاف اللاجئين إليها عبر
الحدود، تتناسى دورها عمداً في ليبيا مثلاً، عندما غزت وهرولت تاركة وراءها مئات
الآلاف من القتلى مشرّعة البلاد أمام الإرهاب، رافضة الموافقة على رفع حظر السلاح
على الحكومة الشرعية كي تقوم بمهمة صد الخطر الإرهابي، أوروبا وأميركا لم تريا
تعطيل روسيا والصين بجدية في المسألة السورية فأتى قرار امتناعها عن الانخراط
ليساهم في مأساة إنسانية، قررت واشنطن أن سورية ليست ذات أولوية وانصبت على التوصل
إلى الاتفاق النووي مع إيران رافضة استخدام الأدوات لديها للتأثير في النظام ودعم
طهران له.وها هي الآلاف من المشردين واللاجئين تعبر الحدود إلى أوروبا لترغمها على
استقبالها فيما الولايات المتحدة التي ترفض فتح أبوابها خوفاً من الإرهاب.
ذلك الإرهاب الذي سيشكل الأولوية الأمريكية
والروسية المشتركة بات اليوم يشكل الاختزال المشترك بينهما للنزاعات في الشرق
الأوسط وشمال أفريقيا، الفارق أن لدى روسيا مشروع وخريطة طريق إلى ما تبتغيه في
المنطقة فيما لدى واشنطن مشروع غياب وامتناع عن الانخراط.