قالت الناشطة والصحفية
الفلسطينية، علا مرشود، إن استمرار قوات
الاحتلال في الاقتحامات والاعتداءات اليومية لمدينة ومخيم
جنين شمال الضفة الغربية، ينغص حياة السكان، ويحيل حياتهم إلى جحيم لا يطاق.
ولفتت مرشود في مقال لها بـ"
ميدل إيست آي" ترجمته "عربي21" إلى أن بيت عائلتها يقع على بعد أمتار قليلة من مخيم جنين، حيث بإمكانها أن تسمع بوضوح أصوات أزيز الرصاص والقنابل التي يطلقها الاحتلال يوميا خلال اقتحامه، الأمر الذي يرهب ويخيف أفراد عائلتها الصغيرة.
وأضافت: "عندما انتقلت إلى جنين في أيار/ مايو عام 2020، لم أكن أتصور أن الوضع سيكون هناك على هذا النحو. ظننت أنني سأستمتع بصباحات مشمسة مع عائلتي الصغيرة، أحتسي القهوة على شرفة منزلنا التي تطل على مرج ابن عامر (..) ولكن بدلاً من الوجود الشاعري الذي تخيلته في جنين، يمكن للمرء سماع الطلقات النارية في أي وقت من اليوم، وخاصة بعد منتصف الليل، وفي الفجر، وفي ساعات الصباح المبكرة".
وتاليا نص مقال علا مرشود:
عندما انتقلت إلى جنين في مايو / أيار من عام 2020، لم أكن أتصور أن الوضع سيكون هناك على هذا النحو. ظننت أنني سأستمتع بصباحات مشمسة مع عائلتي الصغيرة، أحتسي القهوة على شرفة منزلنا التي تطل على مرج ابن عامر وعلى القرى الواقعة في الجهة الشمالية. تصورت أن الليالي ستكون هادئة، لا يعكر صفو سباتها سوى صراخ طفلي الصغير، تماماً كتلك الأوقات التي كنت أقضيها مع والدتي في "جنتها" المطلة على تلال نابلس.
أقول "جنتها" لأن أمي حولت شرفتها الخرسانية إلى واحة خضراء يانعة. هذا ما تفعله الأمهات – يبعثن الحياة في كل شيء. ولكن في الأسبوع الأول من زواجي، وبعد أن انتقلت إلى جنين، سرعان ما بدأت الصورة التي ارتسمت في ذهني تتبدل.
بدلاً من الوجود الشاعري الذي تخيلته في جنين، يمكن للمرء سماع الطلقات النارية في أي وقت من اليوم – وخاصة بعد منتصف الليل، وفي الفجر، وفي ساعات الصباح المبكرة. يقع منزلي فقط على بعد بضعة أمتار من مخيم جنين للاجئين، ولا تكاد تمر ليلة دون أن تقتحم قوات الاحتلال الإسرائيلي المخيم أو أحد أحياء هذه المدينة الصغيرة.
يُتلى نعي الشهداء في المساء، عبر مآذن مسجد الحي، والذي يمكنني رؤيته من نافذتي.
في شهر أغسطس / آب، فقط بعد ثلاثة شهور من وصولي إلى جنين، صحونا في الفجر على صوت اشتباكات بين عناصر المقاومة وقوات الاحتلال، التي اقتحمت حينا. وسرعان ما انطلقت أصوات صفارات الإنذار من سيارات الإسعاف، ووصل الخبر بأن امرأة أصيبت بجروح بعد أن صحت فجراً لترضع وليدها.
فحينما حاولت إغلاق واحدة من نوافذها حماية لرضيعها من الغاز المسيل للدموع الذي أطلقته القوات الإسرائيلية، أصابتها رصاصة، قيل إنها اخترقت منها الكبد والبنكرياس والشريان الأبهري. ما لبثت داليا سمودي، التي تبلغ من العمر ثلاثة وعشرين عاماً، أن توفيت متأثرة بجراحها. كان بيتها على بعد بضعة مبان فقط من منزلي.
سوف يبقى اسمها محفوراً إلى الأبد في ذاكرتي. تتكرر هذه المشاهد المرة تلو الأخرى. ففي وقت مبكر من هذا العام، قتلت الجدة ماجدة عبيد، وهي من سكان مخيم جنين، بطلق ناري، بينما هي تصلي داخل بيتها وتدعو الله أن يحمي شبابنا الفلسطيني.
خوف متنام
أكرمني الله بمولودة جميلة في شهر مارس / آذار الماضي. وحينها غدا العبء أشد وطأة، نظراً لأن الخوف مع الأمومة يتنامى. فكلما سمعت صوت طلقات نارية، والتي تكون في العادة قريبة جداً، ينتابني القلق وأخشى أن تصيب إحدى الرصاصات طفلتي أو زوجي. يخطر ببالي أن آخذهما إلى المطبخ الآمن نسبياً، حيث أنه أخفض جزء داخل المنزل ولا توجد به نوافذ أو فتحات تهوية.
أثناء الفترات التي تحدث فيها الاقتحامات بشكل أسبوعي، أناشد زوجي أن يغادر إلى العمل في وقت متأخر قليلاً، حيث أنه ينطلق باتجاه طولكرم مباشرة بعد صلاة الفجر، وهو الوقت الذي تتم فيه المداهمات في العادة. وألح عليه بأن ينتظر إلى أن ينسحب الجيش من المدينة، أياً كانت التداعيات.
عندما تبكي طفلتي طوال الليل، أقلق لأنها قد تكون مريضة أو تعاني من آلام. حتى عندما لا نتمكن من تهدئتها، نعلم بأن أي محاولة للتوجه إلى المستشفى قد تكتنفها مخاطر جمة. يزداد ضجيج إطلاق النار من حولنا مع مضي ساعات الليل، وليس آمناً الخروج من البيت. كل ما بإمكاننا أن نفعله هو الانتظار والدعاء عسى أن يأتي الصباح سريعاً.
في نفس الوقت أنا صحفية، وهذا يعني أنه يتوجب علي أن أكون دوماً في القلب من الحدث. حتى لو لم أكن أعمل في الميدان، فأنا أجري مقابلات عبر الهاتف مع أمهات وزوجات الشهداء والمعتقلين. وبهذا تصبح المشاهد حدثاً يومياً تقريباً. ومع مقتل المزيد من الناس، تتصلب المشاعر بينما يسعى الجميع إلى التأقلم مع المستجدات التي تفرز أمراً واقعاً جديداً.
ومع ذلك، وفي كل مرة أحضر فيها جنازة، وأرى الكفن ملفوفاً بالعلم الفلسطيني، أو عندما أتحدث مع عائلات الضحايا، أشعر بأن قلبي يتمزق، وتنهمر الدموع من عيني رغماً عني.
الكتابة عن المآسي
في صباح السادس عشر من أغسطس / آب، صحونا على مأساة جديدة. قتلت القوات الإسرائيلية أربعة من الشباب، وتحفظت على جثتي اثنين منهم. إلا أن ما جعل الأمر أشد كآبة هو أن أحد الشهداء كان يسكن في البيت المجاور لنا تماماً. كان والده في العادة هو من يرفع الأذان للصلاة في المسجد، بينما كانت والدته هي من أعد مائدة السحور في ليلة القدر من رمضان تلك السنة.
لم أكن شخصياً أعرف نور الدين عبد الله جرار، ولكني عرفت عائلته الطيبة، حتى بالرغم من أن تعارفنا كان سطحياً. ارتديت ملابسي عصر ذلك اليوم وانطلقت إلى بيتهم لكي أعد تقريراً حول الحادثة ولتقديم التعازي لهم. كانت العائلة كلها محطمة، فقد حرموا حتى من فرصة إلقاء نظرة الوداع عليه.
في أكتوبر / تشرين الأول الماضي، قتلت القوات الإسرائيلية الطبيب والمقاوم عبد الله أبو التين. أجريت مقابلة مع زوجته، التي تحدثت عن فقده بحب غامر وحزن عميق. رغم أنني في العادة أعتبر نفسي رصينة، إلا أنني بكيت بصمت. وبعد المقابلة عانقتها – ثم وقفت هناك بلا حول ولا قوة، غير قادرة على النطق بأي كلمات تواسيها.
إلا أن أصعب صباح مررت به كان ذلك اليوم الذي صحوت فيه على اتصال هاتفي من رئيسي في العمل، يقول لي: "لقد قتلت شيرين أبو عاقلة، فتابعي الموضوع بسرعة".
قمت وأنا ما زلت في حالة من الصدمة بتصفح آخر الأخبار حتى أفهم ما الذي حدث. نظرت في الصور ومقاطع الفيديو التي توثق الحادثة. وشاهدتها مراراً وتكراراً عشرات المرات، ثم لم يعد بإمكاني أن أبقى متماسكة. فقد قتلت شيرين أبو عاقلة على بعد بضعة أمتار من منزلي، وكانت ترتدي سترة تعرفها بأنها صحفية. لم أتمكن من تصديق ما حدث – وحتى هذا اليوم، لم أتمكن من تجاوز صدمة موتها.
شرف وفخر
لربما كانت مثل هذه الحوادث أقل صعوبة على الناس الآخرين من أبناء جيلي الذين عاشوا في زمن الانتفاضة الثانية وما بعدها، وكانوا محشورين مع عائلاتهم في منازلهم لأيام أو أسابيع وسط حظر التجول والمداهمات. فقد شهدوا سفك الدماء، وتعرض أفراد عائلاتهم للاعتقال.
ولكن بالنسبة لي، وأنا التي نشأت في نابلس، بدا كل هذا جديداً علي، على الرغم من أننا أنشئنا على الإيمان بالقضية الفلسطينية من سن مبكرة. تابعنا الانتفاضة والحروب المتعاقبة على غزة من خلال شاشات التلفاز، وكنا نشاهد الأخبار أكثر مما نشاهد الرسوم المتحركة، وحيثما ذهبنا كنا نحن صوت فلسطين.
وعبر الجزيرة شاهدنا أخبار اغتيال عمي – شقيق والدي الأصغر والأقرب إلى قلبه – على يد القوات الإسرائيلية. وللمرة الأولى، رأيت والدي يبكي.
إلا أن العيش في جنين، والتواجد في قلب الحدث، أمر مختلف جداً. في طريق عودتي من الجامعة إلى البيت، وبينما أسير في طرقات جنين، أستمع إلى الأغاني الوطنية التي تمجد شهداء المدينة. أحياناً تنبعث الموسيقى من داخل حقول الذرة، وأحياناً تنطلق من نوافذ السيارات المارة في الشوارع.
وذات يوم ركبت الحافلة التي تقلني إلى الحي الذي أسكن فيه، فسمعت امرأة تقول للسائق: "أنزلني عند بيت الصبراني يا عزيزي." فقال لها رجل يجلس على بعد مقعدين منها: "هل أنت والدة ضياء يا خالة؟ رحمه الله. لقد كان صديقي".
نمر ونحن في الحافلة بعلامات وضعت في المواقع التي قتل فيها الشهداء، والتي خضب دمهم ثراها. لا تبعد العلامة عن الأخرى سوى بضعة أمتار. فجرت لدي هذه العلامات إحساساً عميقاً. فأمهات الشهداء هم جيراني، وهم يستقلون نفس الحافلة التي أستقلها، ويمشون في نفس الشوارع والطرقات التي أمشي فيها، ويصلون في نفس المسجد الذي أصلي فيه. وهذا يجعلني أشعر بعظيم الشرف والفخر.