نشرت
صحيفة "الغارديان" البريطانية مقالا للكاتب جلال أبو خاطر، وهو من سكان
القدس
المحتلة.
يشرح
خاطر في المقال، الذي نشر الثلاثاء،
الانتهاكات والعنف الذي يتعرض له
الفلسطينيون
في الضفة الغربية والقدس المحتلتين يوميا على أيدي سلطات وقوات
الاحتلال.
ويسلط
خاطر الضوء على سياسة
هدم المنازل، وعلى المعيقات التي تجعل من المستحيل على
الفلسطيني أصلا الحصول على رخصة لبناء منزل.
ما
يتعرض له الفلسطينيون من تنكيل وعنف وعقوبات، ليس محصورا في الحكومة اليمينية
المتطرفة الجديدة، وفق خاطر، بل هو عنف تم التأسيس له منذ احتلال الضفة الغربية
والقدس عام 1967، وقد مارسه جميع السياسيين الإسرائيليين المنتخبين من كل الأحزاب، وما من طبقة من طبقات النظام القضائي، التي يتظاهر آلاف الإسرائليين لعدم المساس بها، إلا وتختم على ذلك وتبصم.
وفي ما
يأتي نص المقال:
ما من
يوم إلا وتتحرك فيه الجرافات، حيث تقوم القوات الإسرائيلية داخل الأحياء الفلسطينية
من مدينة القدس، مدينتي أنا، بهدم البيوت بشكل يكاد يكون يومياً. منذ زمن طويل، بات
التشريد والتمييز واقعاً قائماً هنا في القسم الشرقي من المدينة التي تخضع للاحتلال
العسكري الإسرائيلي منذ ستة وخمسين عاماً، وإن كانت القدس تشهد في ظل الحكومة الإسرائيلية
اليمينية الجديدة ارتفاعاً حاداً في عمليات الهدم، فأكثر من ثلاثين منشأة تم تدميرها
خلال شهر يناير/ كانون الثاني وحده.
ما ينقل
من أخبار عن منطقتنا إلى العواصم الغربية ويبث عبر المنصات الإعلامية يغلب عليه سفك
الدماء، فالشعب الفلسطيني يمر بأشد الأيام عنفاً وتدميراً وقتلاً في التاريخ الحديث.
كانت سنة 2022 الأكثر فتكاً منذ ما يقرب من عقدين داخل الضفة الغربية المحتلة. في كانون
الثاني/ يناير وحده قتل واحد وثلاثون فلسطينياً بالرصاص الإسرائيلي. يخيم الإحباط واليأس
فوق رؤوسنا جميعاً كسحابة سوداء. إلا أن الأرقام وحدها لا تعبر عن مدى هذا التوحش.
لا تكفي
أعداد القتلى ولا العبارات المبتذلة في وسائل الإعلام غير المطلعة والمنحازة والتي
لا تكلف نفسها الاستفسار عن صحة ما تنشره للتعبير عن اختلال التوازن في القوة بين سلطة
الاحتلال وضحايا الاحتلال. فالعنف الذي نتعرض له نحن معشر الفلسطينيين بشكل يومي لا
يقتصر فقط على ما يصدر عن أسلحة الجيش الإسرائيلي، بل هو أيضاً عميق وبنيوي.
لا توجد
"دوائر من هدم البيوت" ولا "تفجيرات انتقامية متبادلة"، والفلسطينيون
لا يصادرون منازل الإسرائيليين ولا يعتقلون آلاف الإسرائيليين عبر محاكمات عسكرية.
ولذلك فإن أي مقاربة تفيد بوجود تطابق في القوة – أو المسؤولية – هي معطوبة تحليلياً
وأخلاقياً.
يمكن
للمرء أن يرى نموذجاً مصغراً لهذا العنف البنيوي هناك في المدينة التي ولدت فيها، في
القدس. في الشهر الماضي أقدم مسلح فلسطيني على قتل سبعة إسرائيليين في مستوطنة "نيفي يعقوب" في القدس الشرقية المحتلة. بعد ذلك مباشرة، تعهد وزير الأمن الوطني الإسرائيلي
إيتمار بن غفير بتكثيف هدم البيوت الفلسطينية التي شيدت بدون رخص بناء، معتبراً الإجراء
رداً على الهجوم.
معظم
البيوت الفلسطينية تُستهدف بحجة عدم حصولها على ترخيص بناء. وبالفعل، في مدينتي، فإن ما
لا يقل عن ثلث المنشآت الفلسطينية لا تملك رخصاً صادرة عن إسرائيل، ما يجعل ما يقرب
من مائة ألف من سكان القدس الشرقية عرضة لخطر الإخلاء القسري في أي لحظة من اللحظات.
وفي
الواقع، أنه منذ أن بدأ احتلال إسرائيل للقدس الشرقية في عام 1967، لم يحصل أي تخطيط رسمي
على الإطلاق للأحياء الفلسطينية. وبينما تم بناء ما يقرب من خمسة وخمسين ألف منزل للإسرائيليين
اليهود في الجزء الشرقي من المدينة، فإنه لم يُبن سوى أقل من 600 منزل للفلسطينيين عبر أي
نوع من الدعم الحكومي. ضمنت هذه السياسة ليس فقط بقاء المساكن الخاصة بالفلسطينيين
في حالة من التردي، ولكن أيضاً بقاء الفلسطينيين أقلية داخل المدينة.
وعلى
الرغم من أن الفلسطينيين يشكلون ما يزيد على الـ37 بالمائة من سكان القدس، إلا أن ما نسبته
8.5 بالمائة من أراضي المدينة فقط مخصص لأغراض تتعلق بسكناهم (وحتى مع ذلك فإن الأفق يبقى أمامهم محدوداً والبناء مقيداً). ما بين 1991 و 2018، فقط 16.5 بالمائة من رخص البناء
الصادرة عن بلدية القدس كانت للأحياء الفلسطينية في الجزء الشرقي المحتل والذي تم ضمه
بشكل غير قانوني. وما يعرف بالبناء الفلسطينيي غير القانوني أو غير المصرح به ما هو
إلا رد فعل على النقص الكبير في عدد البيوت المتاحة، وذلك أمر ناجم عن سياسة من التمييز
المزمن.
ومؤخراً،
أعلن بن غفير ومعه نائب عمدة القدس آريه كينغ عن الهدم الوشيك لبناية سكنية في وادي
قدوم في حي سلوان، على أساس أنها أقيمت على أرض مخصصة "للرياضة والترفيه"
وليس للسكن. حينما يتم تنفيذ القرار، فإن ذلك سيكون هدماً على مستوى ضخم، إذ سيتشرد بسببه
مائة من السكان. وخلال السنوات العشر الماضية فقط، تم هدم ما تعداده 1508 منشآت فلسطينية
شرق القدس، ما تسبب في تشريد 2893 إنساناً، نصفهم من القصر.
ولم تسلم
الضفة الغربية من هذا الواقع العنيف؛ إذ إنه لا يسمح بإنشاء أي أبنية في ما يعرف بمنطقة
جيم (والتي يبلغ حجمها 60 بالمائة من مساحة الضفة الغربية تقريباً). وتقوم السلطات الإسرائيلية
باستمرار بهدم بيوت الفلسطينيين وخلع الطرق وتدمير خزانات النضح وإزالة الألواح الشمسية،
وغير ذلك من الإجراءات. وبينما يتم توسيع المستوطنات التي تعتبر غير شرعية في القانون
الدولي يتم حصر الفلسطينيين بشكل متزايد داخل مساحات ضيقة ومفتتة من الأرض.
ومع
تزايد الهدم والتشريد في القدس وفي الضفة الغربية، فإن مجتمعات بأكملها تتعرض للتهديد.
ولكن علينا أن نتذكر أن التكلفة أوضح ما تكون على المستوى الفردي: على مستوى العائلة
التي تفقد كل ما تملكه في هذا العالم. تنهار الجدران، ويبكي الأطفال، ويصاب أولياء
الأمور بالهلع، فماذا عساهم يفعلون وإلى أين سيذهبون؟ إنها نكبة، وهي نكبة مستمرة.
انعدام
الرخصة التي من المستحيل على أي حال الحصول عليها ليس السياق الوحيد لهدم البيوت الفلسطينية؛ بل تعمد سلطات الاحتلال الإسرائيلي إلى تدمير أو إغلاق البيوت كنوع من العقاب الجماعي،
وهو المحظور بموجب القانون الدولي. بل إن الإخلاء القسري للسكان في المناطق المحتلة
يشكل جريمة حرب. وبالمحصلة، فإن التوحش مذهل.
هذا
الهدم وهذا التشريد، ما هو سوى جزء من العنف البنيوي الذي نتعرض له نحن معشر الفلسطينيين
بشكل يومي. قد تمارس هذه الحكومة الإسرائيلية أنماطاً جديدة من مظاهر الاحتلال الوحشية، لكنّ الأسس تم وضعها على يد الائتلافات الحكومية المتعاقبة منذ عام 1967، سواء كان المشكل
لها حزب العمل أو حزب الليكود.
ولهذا
السبب فإننا لا نجد نحن معشر الفلسطينيين سلوى في الجموع الإسرائيلية التي تحتج ضد الإصلاحات
القضائية المقترحة. فمنذ عقود وأراضينا تُحتل وشعبنا يُشرد على أيدي سياسيين إسرائيليين
منتخبين من مختلف الأحزاب، وما من طبقة من طبقات النظام القضائي إلا وتختم على ذلك
وتبصم. وما زال الاحتلال وما يصاحبه من سياسات عنصرية يُفرض علينا من قبل من يشاركون
في الائتلاف الحالي، تماماً كما فُرض علينا من قبل كثيرين ممن هم الآن خارجه.
هذا
العنف هو واقعنا، ومواجهة هذا الواقع هي الخطوة الأولى اللازمة في نضالنا من أجل الكرامة
والعدالة. إن توجيه اللوم إلى الضحية أو إغلاق الباب على الحوار، من شأنه فقط أن يطيل
معاناتنا. لسنا في دورة من العنف، وإنما تحت حكم نظام فصل عنصري (أبارتايد)، وينبغي
على العالم الخارجي أن يتعامل معنا على هذا الأساس.