كتبنا في مقالاتنا السابقة عن الفئات التي حظيت بدعم الإعلام
الفلسطيني، الذي سلط الضوء على شعراء الأرض المحتلة، وشعراء الثورة الفلسطينية،
وقلنا أن الشعراء الإسلاميين لم يحظوا بهذا الاهتمام، لكن ثمة شعراء موجودين في
الثورة الفلسطينية لم يحظوا أيضاً بهذا الاهتمام، بل جرى إقصاؤهم وربما عزلهم، من
أمثال محمد القيسي ومحمد الأسعد وراشد حسين وأصدقائهما، الذين تحدوا هذا العزل
بموهبتهم وإبداعهم ونشاطهم المتعدد الأشكال. فكانوا متعددي المواهب والتخصصات، بين
الشعر والنثر والرسم والنقد والدراما وغيرها، فأثبتوا جدارتهم المهنية..
شاعرنا اليوم، من هذا الصنف المتعدد المواهب من الشعراء الذين كان من
ضمنهم الكاتب المتعدد المواهب أيضاً غسان كنفاني، الذي كسر هذه العزلة بتفرّده
وإبداعه وانطلاقه إلى الصحافة اللبنانية، وفوق ذلك كله مسؤوليته السياسية
والإعلامية في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين (في زمن الذروة وملاحقة العدو في كل مكان).
وعزز شهرة كنفاني استشهاده في عملية اغتيال غادرة، حيث أن للشهداء والمقاومين في
وجدان الفلسطينيين قيمة ونكهة أخرى.
إلا أن شاعرنا محمد الأسعد، تزامل مع ناجي العلي، زمالة حثيثة، حين
كان ناجي يعاني هذه العزلة التي تحدّاها بإبداعه الاستثنائي وشهرته الواسعة. بقيا
ثابتين على ثوابت القضية الفلسطينية، عملا معاً في مجلة "الطليعة" في بداية السبعينات، مجلة
القوميين العرب في الكويت التي حضنت معظم الكتّاب الذين رحلوا إلى الكويت في تلك
السنين. وانتقلا إلى جريدة "السياسة" التي فُصل الأسعد من عمله فيها بعد
نشره رسماً كاريكتورياً لناجي، يقول عنه إنه "تجاوز فيها الخطوط الأمريكية
الحمراء".
حياته
ولد محمد الأسعد عام 1944 في قرية "أم الزينات"، قرب مدينة
حيفا في فلسطين. في الرابعة من عمره تعرّضت قريته لهجوم كبير ليلاً، وسقطت القرية
بعد دفاع مستميت عنها، وتشرّد أهلُها في الدروب الوعرة، وأجبرتهم العصابات
الصهيونية على متابعة طريقهم سيراً على الأقدام إلى جنين. وافترشوا الأرض بين
الأشجار هناك، وعاشوا في العراء. وكما هو حال معظم فلسطينيي العراق، عرض الجيش
العراقي المنسحب من جنين عليهم أن يأخذهم إلى العراق.
أقامت العائلة في بغداد قليلاً، ثم انتقلت إلى البصرة، حيث سكنت في
معسكر مغلق للجيش البريطاني. وبعد سنتين نقلتهم السلطة إلى مساكن شبيهة بالمساكن التي أقاموا بها في بغداد. تابع
شاعرنا تعليمه الأساسي والثانوي في البصرة، ثم عاد إلى بغداد والتحق بجامعتها في
كلية التجارة والاقتصاد عام 1962، وانتسب إلى معهد الفنون الجميلة، ومن هناك بدأ
ينشر قصائده في مجلة "الأقلام" العراقية، ونشر أولى مقالاته النقدية عن
شاعر العراق بدر شاكر السياب، وظهر اسمه عدة مرات كاتباً وشاعراً في مجلة
"الآداب" البيروتية.
وفي العام 1967، حصل على الشهادة الجامعية وانتقل للعمل في الكويت،
وأصبح صحفياً في مجلة "الطليعة"، وفي الوقت نفسه ساهم في الكتابة في صحف
ودوريات عربية عديدة، مثل "الآداب" و"الفكر العربي المعاصر".
وأصدر مجموعته الشعرية الأولى "الغناء في أقبية عميقة" عام 1974.
بعد الغزو العراقي للكويت، تنقل الشاعر في عدة بلدان عربية وغربية،
وتعرض للاعتقال والإبعاد في قبرص بسبب موقفه السياسي المعارض لنهج منظمة التحرير
الفلسطينية في "التفريط بحق اللاجئين الفلسطينيين بالعودة، ومحاولة تطويع
العقل الفلسطيني للقبول بواقع الاحتلال الصهيوني لفلسطين".
عاد إلى الكويت عام 2002، وأصدر سيرته الذاتية عام 2009 بعنوان
"سحر الكتابة"، وتابع نشاطه الشعري والنقدي والصحفي من هناك، وتُرجمت
كتبه إلى أكثر من لغة منها الفرنسية والإنجليزية والبرتغالية واليونانية والعبرية.
واهتم بشعر الهايكو الياباني، ونقله إلى القارئ العربي في كتاب شامل لأول مرة في
اللغة العربية بترجمته لكتاب الباحث والشاعر كينيث ياسودا "واحدة بعد أخرى تتفتح
أزهار البرقوق" في العام 1999، وأصبح مرجعاً معتبراً بهذا الشعر وأدواته
ومضامينه ووعيه العميق بطبيعته الدينية وفلسفته.
تميَّز أسلوب الأسعد بالإحكام والحيوية منذ بدايته، وبقي ملتزماً
بشعر الخمسينيات وأسلوبه. شعره غني بالصور الحسية والعاطفة ـ تقول سلمى الخضراء
الجيوسي في كتابها عن الشعر الفلسطيني ـ وهو ما يعكس استغراقه في موضوعات الحب
الشخصي والمعاناة الجماعية للاجئين الفلسطينيين في الشتات.
ورغم الكتابة المتنوّعة بين الشعر والرواية والنقد والأبحاث
والترجمات، بقي الشعر شغفه الأول باعتباره الحجر الأساس في تجربته، إذ يقول:
"أنا شاعرٌ وكفى، سواءً كتبت شعراً أو رواية أو بحثاً أو ترجمت كتاباً".
توفي الشاعر محمد الأسعد عام 2021 في الكويت عن 77 عاماً، قضاها بين
الكتب والمحابر والمنابر..
الأعمال الشعرية
ـ "الغناء في أقبية عميقة"، بغداد،
1974.
ـ "حاولتُ رسمكِ في جسد البحر"، الكويت، 1976.
ـ "لساحلكَ الآن تأتي الطيور"،
بيروت، 1980.
ـ "مملكة الأمثال"، بيروت، 1986.
ـ الأعمال الشعرية الجزء الأول (8
مجموعات)، مصر، 2009.
الأعمال النقدية
ـ "مقالة في اللغة الشعرية"، بيروت، 1980.
ـ "الفن التشكيلي الفلسطيني"، دمشق، 1985.
ـ "بحثاً عن الحداثة"، بيروت، 1986.
الأعمال الروائية
ـ "أطفال الندى"، لندن، 1990.
ـ "نص اللاجئ"، القاهرة، 1999.
ـ "حدائق العاشق"، القاهرة، 2001.
ـ "شجرة المسرات: سيرة بن فضلان السرية"، بيروت، 2004.
ـ "أصوات الصمت"، بيروت، 2009.
ـ "أطفال الندى"، بالفرنسية ـ 2022، باليونانية ـ 2003،
بالبرتغالية ـ 2005، بالعبرية ـ 2005.
السيرة الذاتية
ـ "أبعد من الجدران: محمد الأسعد ويوسف الغازي" لاجئ
فلسطيني وإسرائيلي يعودان إلى زيارة تاريخهما (الفرنسية)، باريس، 2005.
ـ "سحر الكتابة"، بيروت، 2009.
الأبحاث
ـ "مستشرقون في علم الآثار: كيف قرأوا الألواح وكتبوا
التاريخ"، بيروت، 2010.
نماذج من شعره
قصيدة ناجي العلي
أنتَ خلَّيتني في اللغاتِ جميلاً
أنتَ خلَّيتني
ومضيتَ
أليس قليلاً إذا ما انزوى الموتُ عنا
أليس قليلاً؟
أيها المدهشُ المتجاهلُ أن لنا موعداً
في التقاويمِ
أبسطَ ممّا اجترحتَ
لماذا تغيّرَ كوني
وتطلعَ مثل مناخٍ جديدٍ على الأرضِ
تمحو
وتمحو
وتوجز حتى يصير المقدّسُ
جرحاً طويلاً؟
أنت خلَّيتني في العراءِ وحيداً
وسمّيتَ
حتى تخيّلتُ أرضاً سوى الأرضِ
شعباً سوى الشعبِ
حتى تعدّدتُ مثلكَ
عدتُ جميلاً كما لم أكنْ
ذات يومٍ جميلاً..
يا ندى البسطاءِ
ولونَ البلادِ البعيدةِ
والنارِ
وهي تقاوم جيلاً فجيلاً
أيها الأبيضُ المطلقُ المستثارُ
إذا ارتبك العارفون
وأضحى الرماديُّ
عصراً طويلاً
أيها الغجريُّ الذي طاردتْهُ القبائلُ باسمِ الأفولِ
فهيّأ فجراً لنا
وأصيلاً
أيها الغجريُّ الذي لم تكن قبله لغةٌ للجمالِ
ولا لغةٌ للبهاءِ
وكان اختلاطٌ
على مسرحِ الكائناتِ
يسيّدُ ضبعاً
ويرفعُ فيلاً
وحدكَ الآن في قفصِ الكائناتِ
تراقبُ عصراً
ذليلاً
وحدكَ الآن تفضحُ كذبَ الرواةِ
وتغري بعصرِ المسوخِ الحجارةَ
والمستحيلا
كنتَ حلماً
وواصلتَ حلمكَ حتى نهايتهِ
قاتلاً أو قتيلاً
لم تصلْ..
كيف لي أن أكونَ شهيداً
وحيداً
على بذرةٍ
تستقرُّ بها أمةٌ
وضميرٍ
يودّعُ جيلاً ويبعثُ جيلاً؟
نشيـدٌ من أجـل أطفـال شـاتيلا
قالوا قصائدَهُم لأنفسِهِم
وبقيتَ مشتعلاً
قالوا مواعظَهُم لأنفسِهِم
وبقيتَ محتكِماً
لألواحٍ من الصلصالِ
تشبهُ خبزَكَ اليوميَّ
من ألفٍ ومن ألفٍ
من السنواتِ
منذُ اليومِ أنتَ نشيدُنا
ورموزُكَ العهدُ الجديدْ
يطوي المسافةَ
حكمةً قرويةً
تتأجلُ الأزمانُ فيها
والبنفسجُ والورودْ
من قالَ إن الثورةَ الحمراءَ
ترحلُ باتجاهِ البحـرِ
جاريةً تمرّ على موائدهم؟
روحي ترف ُّعلى المياهِ
لتوقظ القتلى
وعشاقَ الحياةِ
وشهوةَ الميلادِ
من يشهدُ سوى الشهداءِ
حتى آخر الأبدِ الأبيدْ؟
أنتَ النشيدُ
وبيتُنا الطينيُّ
ثوبُ نسائنا القروياتِ
لثغةُ طفلِنا
في آخر الوقتِ الحزينِ
سويـّةً نأتي
وننهضُ للقيامةِ والحروبِ
وفي الهزيمةِ
نستعيدُ دفاترَ الإنشاءِ
نبدأُ آيةً
ألفٌ وباءٌ
يبدأ التكوينُ من دمِنا
والخلقُ
ها أحبابنا ذهبوا عميقاً في النقوشِ
وفي السنابلِ
لم يكونوا يملكون تذاكرَ الموتِ المؤجلِ
والإقامةَ في الفنادقِ
منذ أن كنـّا
خُلقنا للرحيلِ بلحمها
نحنُ الجذورُ
وهم سلالاتُ البغايا والغزاةْ
*كاتب وشاعر فلسطيني