قلما تجد فلسطينياً لا يعرف أغاني الثورة وفرقة العاشقين التي كتبها
هذا
الشاعر: اشهد يا عالم علينا وع بيروت. وردة لجريح الثورة. والله لازرعك بالدار
يا عود اللوز الأخضر. دوس ما انت دايس. هبت النار والبارودِ غنى. جمّع الأسرى جمّع
بمعسكر أنصار. عوفر والمسكوبية. يا بنت قولي لأمك. غزة والضفة. صبرا وشاتيلا.
ومن لم يشاهد مسلسل عز الدين القسام (هيثم حقي ـ 1981)، لا بد أن
يكون قد سمع أغانيه الوطنية التراثية ذات
الهوية الفلسطينية الثورية، مثل: أبو
ابراهيم ودّع عزالدين. من سجن عكا طلعت جنازة. يا ويل ويلكم من الشعب. هدّى البلبل
ع الرمان. هذا هو قدر الإنسان. يا حلالي ويا مالي..
شاعر كتب تفاصيل الثورة وعايشها بشعره وأغانيه التي لامست قلوب
العاشقين لفلسطين وقضيتها، هو شاعر المخيم، صاحب "حكاية الولد
الفلسطيني". والكثير من الأغاني الفلسطينية الشهيرة وكاتب المسرحيات الوطنية
ومسلسل عز الدين القسام.
إنه الشاعر أحمد دحبور، أحد أعمدة الحركة الثقافية الفلسطينية والشعر
المقاوم، حيث عاصر المأساة الفلسطينية وعاش رحلة العذاب والتشرد. تمسّك بالعودة
إلى حيفا، وبقيت حلمه الدائم الذي ولد فيه، لكن أهله لجأوا إلى لبنان ثم إلى
مخيمات سورية. ويقول عن حياته المبكرة: "لم يشعل لي أهلي شمعتين احتفالاً
بعيد ميلادي، وإنما حملوني وهربوا بي لاجئين من حيفا إلى المجهول.".
وحين أتيحت له فرصة استثنائية لزيارة حيفا بتصريح مؤقت، ذهب كأنه في
حلم يمشي بين بيوتٍ بنتها في مخيلته ذاكرة أهله وحكاياتهم، وزار البيت الذي ولد
فيه، وعاد يردّد شعره "كل حيّ وله حيفاه، إلا أنت دون حيفا".
حياته ومسيرته
ولد أحمد خضر دحبور في 21 نيسان (أبريل) 1946 في مدينة حيفا، ولجأ
بعد النكبة مع عائلته إلى لبنان، ومنها إلى سورية، حيث استقر به المقام في مخيم
النيرب للاجئين، وبقي فيه 21 سنة.
لم يكمل تعليمه الأساسي، لكنه صقل موهبته الشعرية بالقراءة من عيون
الشعر العربي، حتى اتخذ كرسي الحكواتي ليقرأ لأهالي المخيم فصولاً من حكاية الزير
سالم، الزاخرة بالأشعار الحماسية، وبدأ يجرّب تقليدها، لكن معلم العربية في
المدرسة نبّهه إلى أوزانها، وأنه يجب أن يتعلم هذه الأوزان. وبقي ينظم شعره على
السمع والإيقاع في بقية إنتاجاته.
نظم دحبور الشعر مبكراً، ونشر بواكير قصائده في مجلة
"الآداب" اللبنانية في عمر السادسة عشرة، وأصدر مجموعته الشعرية الأولى
"الضواري وعيون الأطفال" عام 1964 في عمر الثامنة عشرة، ثم توقف حتى عام
1971 ليصدر مجموعته الثانية "حكاية الولد الفلسطيني" التي كانت المحطة
الأبرز في حياته، ومن خلالها بدا واضحاً
مساره السياسي المنحاز للثورة الفلسطينية،
ولحالة شعبه في مخيمات اللجوء والتشرد.
هذه القصيدة صارت صفة له، فحمل لقب "الولد الفلسطيني"
الشاعر المقاتل، وقد أجاب على سؤال للزميل وحيد تاجا حول تسمية "الولد
الفلسطيني" بأنه صار "الولد الأَشْيَب".
أما لماذا اتخذ هذا العنوان؟ فيقول إنه عندما نشر القصيدة كان قد
تجاوز مرحلة الطفولة، لكنه كان أصغر من أن يكون رجلاً، فاهتدى إلى صيغة الولد بما
تعنيه من مغامرة بريئة ورشاقة وقوة في الحركة. وهو يعبّر أيضاً عن روح التحفز
والنشاط لديه.
أعماله
شغل دحبور عدداً من المواقع الصحفية والثقافية، وكرّس حياته للتعبير
عن التجربة الفلسطينية المريرة. التحق بالثورة الفلسطينية مبكراً، وعمل صحفياً
عسكرياً. عمل محرراً سياسياً في "وكالة وفا" فرع سورية، ومحرراً أدبياً.
وتولى إدارة تحرير مجلة "لوتس" حتى عام 1988، كما عُين مديراً عاما
لدائرة الثقافة بمنظمة التحرير الفلسطينية، وترأس تحرير مجلة "بيادر"
التي كانت تصدرها الدائرة.
كان يكتب مقالة أدبية نقدية أسبوعية بعنوان "عيد الأربعاء"
في صحيفة الحياة. وعمل وكيلاً لوزارة الثقافة في السلطة الفلسطينية.
نال دحبور جائزة توفيق زياد في الشعر عام 1998.
توفي الشاعر أحمد دحبور في 8 نيسان (أبريل) 2017 في رام الله بالضفة
الغربية، عن عمر ناهز السبعين سنةً، بعد تدهور حالته الصحية إثر إصابته بالفشل
الكلوي قبلها بحوالى سنة.
أصدر دحبور عدداً من المجموعات الشعرية، معظمها من شعر التفعيلة ذات
الإيقاعات العروضية التي تتميز بها الأغاني الشعبية، ومنها:
ـ الضواري وعيون الأطفال، حمص 1964.
ـ حكاية الولد الفلسطيني، بيروت 1971.
ـ طائر الوحدات، بيروت 1973.
ـ بغير هذا جئت، بيروت 1977.
ـ اختلاط الليل والنهار، بيروت 1979.
ـ واحد وعشرون بحراً، بيروت 1981.
ـ شهادة بالأصابع الخمس، بيروت 1983.
ـ ديوان أحمد دحبور، بيروت 1983.
ـ كسور شعرية..
ـ هكذا، بيروت 1990.
ـ هنا، هناك، عمان 1997.
ـ جبل الذبيحة، 1999.
قصيدة "حكاية الولد الفلسطيني"
لأن الوردَ لا يجرح
قتلتُ الورد
لأن الهمسَ لا يفضح
سأعجنُ كلَّ أسراري بلحمِ الرعد
أنا الولد الفلسطيني
أنا الولد المُطلُّ على سهولِ القشِّ والطينِ
خَبِرتُ غُبارَها، وَدوارَها، والسّهد
وفي المرآة أضحكني خيالُ رجالِنا في المَهد
وأبكاني الدَّمُ المهدورُ في غيرِ الميادينِ
تحارب خيلُنا في السند
ووقت الشايِ نحكي عن فلسطينِ
ويومَ عجزتُ أن أفرح
كبرتُ، وغيَّرَت لي وجهَها الأشياء
تساقطتِ الجراحُ، على الربابةِ، فانبرَت تَصْدَحْ
بلادُ الله ضيقةٌ على الفقراءْ
بلاد الله واسعةٌ وقد تطفحْ
بقافلةٍ من التجارِ والأوغادِ والأوباء
أيأمر سيّدي فَنكُبُّ أهلَ الجوعِ والأعباءْ؟
أتقذفُهم؟ ومن يبقى ليخدمَنا؟
إذن تَصفحْ
ويومَ كَبرْتُ لم أصفحْ
حلَفتُ بنومةِ الشهداءِ، بالجرحِ المشعشعِ فيَّ: لن أصْفَحْ.
* * *
أنا الرجلُ الفلسطيني
أقول لكم: راْيتُ النوقَ في وادي الغضا تُذبحْ
رايتُ الفارسَ العربيَّ يساْلُ كسرةً من خبزِ حطينِ ولا ينجحْ
فكيف بِربِّكُم أصفحْ؟
أنا الرجلُ الفلسطيني
أقولُ لكم: عرفتُ السادةَ الفقراء
وأهلي السادةُ الفقراء
وكان الجوعُ يشحذُ ألفَ سكينِ
وألفَ شظيةٍ نهضتْ مِنَ المنفى تناديني
ـ غريبٌ وجهُك العربيُّ بين مخيماتِ
الثلجِ والرمضاءْ
بعيدٌ وجهُك الوضّاءْ
ـ فكيفَ يعود؟
ـ بالجسدِ الفتيِّ تعبد الهيجاء
سنرفعُ جرحَنا وطناً ونسكنُهُ
سنلغم دمعَنا بالصبرِ بالبارودِ نشحنه
ولسنا نرهبُ التاريخ، لكنا نكونه
ـ جياعٌ نحن
ـ طابَ الفتحُ، إن الجوعَ يفتنُهُ
جياعٌ نحن؟ ماذا يخسرُ الفقراءْ؟
إعاشتهم؟ مخيمهم؟
أجبنا أنتَ ماذا يخسرُ الفقراء؟
أنخسرُ جوعنا والقيدَ؟
أتعلمُ أن هذا الكونَ لا يهتمُّ بالشحّاذ والبَكَّاء؟
أتعلمُ أن هذا الكونَ باركَ من يردُّ الكيدَ؟
ـ علمت
ـ إذن؟
ـ لِيَغلِ وطسُينا المخزونُ في كل
الميادينِ
لِتَغلِ مخيماتُ القشِّ والطينِ
* * *
أنا العربي الفلسطيني
أقولُ، وقد بدلتُ لساني العاري بلحمِ الرعدِ
ألا لا يَجهلَنْ أحدٌ علينا بعد
حرقنا منذُ هلَّ الضَّوءُ ثوبَ المَهد
وألقمنا وحوشَ الغابِ مما تنبت الصحرا رجالاً لحمُهم مرُّ
ورملاً عاصفَ الأنواء
ولما ليلةٌ جُنَّتْ أضاءَ الوَجد
وقد تعوي الثعالبُ وهي تدهنُ سمَّها بِالشَّهد
ـ صِغار عظمُهُم هشٌّ بدونِ كِساءْ
ـ أيحتمِلونَ بردَ الليل؟ هل نصرٌ بهم
يُحرز؟
ـ أجل ونهارُنا العربيُّ مفتوحٌ على
الدنيا على الشرفاءْ
أَجَل… ويضيءُ هذا النصرُ في الطرقاتِ والأحياء
لأن الكفَّ سوفَ تلاطمُ المِخرَزْ
ولن تعجز.
ألا لا يجهَلَنْ أحدٌ علينا بعد.
إنَّ الكفَّ لن تعجز