تقارير

الشاعر أحمد محمد الصِّدِّيق.. إسلامي المنهج فلسطيني الهوية والانتماء

الشاعر أحمد محمد الصديق.. توفي في الدوحة بعد مسيرة عطاء لفلسطين ستبقى في التاريخ
شاعر إسلامي فلسطيني، أثرى الساحة الأدبية بشعره الفصيح الذي يفيض غيرة على الإسلام ومقدساته، وعلى فلسطين وشعبها.. انقسم شعره بين الهَمّين الديني والوطني، فحمل قضايا العالم الإسلامي وفي مقدمتها القضية الفلسطينية بشعره، مؤكداً هويته الفلسطينية الإسلامية كلاجئ يعرف سبيله ورافض للاحتلال والتسويات الظالمة ومطالب بالتحرير والعودة.

يصلح مسار حياته ليكون نموذجاً لرواية تلقي الضوء على بعض جوانب الحياة الاجتماعية لشريحة واسعة من الفلسطينيين، ولو أنه قُدّر له أن يكتب مذكرات تتصل بعلم الاجتماع لكان شهادة مهمة على العصر. فقد واكب أحداثاً كبيرة في فلسطين والعالم الإسلامي ومناسبات دينية ووطنية وشارك فيها، فكان شعره توثيقاً لها، وخصوصاً قصائده التي نشرها في الصحف والمجلات المحلية والعربية.

وكان ذا قدرة نادرة على قول الشعر، كما يقول عنه خطيب المسجد الأقصى الشيخ الشاعر محمد صيام رحمه الله: يسيل الشعر من فمه كالماء.

عانى كثيراً في بداياته، حتى وصل إلى قطر، فابتدأ الطريق الذي انتهى به، وحقق إنجازات وتولى مناصب هامة في الدوحة، ونال الجنسية القطرية ضمن سياسة الدولة بمنح الجنسية لمن يقدمون خدمات وأدواراً هامة في البلد، كالشيخ يوسف القرضاوي والشاعر معروف الشيخ محمود (ابن أخ الشاعر عبد الرحيم محمود).

إنه الشاعر أحمد محمد الصديق، شاعر العودة الذي توافقت ذكرى ولادته لاحقاً مع اليوم الذي سبق انتفاضة الشعب الفلسطيني، في 7/12/ 1941، توفي في اليوم الذي سبق ذكرى النكبة من عام 2017 في قطر.

محطات حياته

ولد شاعرنا في 7/12/1941 في قرية شفاعمرو، في جبال الجليل المحتلة، وعلى بُعد 20 كم فقط عن الناصرة، وتقع المدينة على سبعِ تلال، ويقال أنها نالت اسمها لأن الصحابي عمرو بن العاص توقف فيها زمن الفتوح وكان مريضاً فتعافى من مرضه. فنودي في الجيش: شفي عمرو، فسميت به.

قضى شاعرنا طفولته وصباه وبداية شبابه في فلسطين، سبع سنوات قبل النكبة وثماني سنوات بعدها، وكان الولد الوحيد لأهله بين ثلاث بنات، وله أخ مُتوفّى. ونشأ في أسرة مسلمة محافظة مستورة الحال، غلب عليها الفقر بعد أن كانت ميسورة سابقاً، لكن أفقَرتها الإجراءات التعسفية التي قام بها الانجليز بعد ثورة 1936 وما تبعها من نكبة وتشريد وتنكيل. وما لبثت أن تفرقت العائلة في أحداث النكبة عام 1948.

درس الطفل أحمد الابتدائية في مدرسة شفاعمرو، ثم انتقل إلى حيفا ودرس سنتين بعد الابتدائية بمنحة حكومية لقي أثناءها معاناة شديدة بسبب حواجز الاحتلال، وأكمل دراسته بمدرسة كفرياسيف الثانوية ولم يكمل دراسته الثانوية فيها (وهي ثانوية شهيرة على مستوى فلسطين أسستها البعثات الأجنبية وتسمى "ينّي ينّي" ودرس فيها محمود درويش وسميح القاسم، والشاعرة كلثوم عرابي التي كانت موضوع المقال السابق).

في أحداث النكبة، انشطرت عائلة الطفل أحمد (7 سنوات).. غادرت أختان من أخواته، وبقي هو والأخت الثالثة مع والديه.

ويبدو أن المراسيل والمسافرين كانوا يتنقلون بسهولة في تلك الفترة بين فلسطين ولبنان، فكان البعض يعود من لبنان إلى الجليل، وكانت تصله أخبار أخواته وشعبه في لبنان.. فكتب عنهم:

وهنا.. هنا في الخيمة السوداء.. خيمتنا الحزينة.
طرحت على الأسمال أكباد ممزقة طعينة
وتكومت في كل زاوية كآلام دفينه
أوصال إخوتيَ الصغار يتضورون
من الطوى.. يتقلبون على انتظار
والليل يعصف يستبد ولا يقر له قرار!

وعندما شبّ شاعرنا خرج من فلسطين المحتلة أيام العدوان الثلاثي على مصر عام 1956، مهاجراً إلى لبنان (وهو ما حدث مع الشاعرة كلثوم عرابي، إثر العدوان الثلاثي، على ما يبدو أنها هجرتهم كانت بتأثيرٍ من مجزرة كفر قاسم).

في لبنان، لم يستقبلوه استقبال الأبطال، بل أوقِفَ الشاب ابن الخمس عشرة سنة لدى السلطة اللبنانية، وحوكم وألقي في السجون، لأنه غير مسجل ضمن اللاجئين الفلسطينيين في لبنان.

بعد خروجه من السجن عمل في مصنع للألبان في لبنان، وأجاد عمله. وبقي في لبنان أربع سنوات، فلما اشترى المصنع أحد رجال الأعمال القطريين، استقدمه إلى قطر عام 1960، ليعمل مسؤولاً للإنتاج في مصنع الألبان الذي افتتحه هناك.

في عام 1963 التحق بالمعهد الديني الثانوي بالدوحة وفيه التقى بخيرة الأساتذة والعلماء، وتخرج عام 1966.

عن تلك الفترة يقول الشيخ يوسف القرضاوي رحمه الله في تقديمه لديوان الصّدّيق "نداء الحق": "عرفته، وعرفت قصته، فوجدت فيه شاباً متألق الفكر، متوثب الروح، متوقد العزم، صادق الرغبة في طلب العلم، فلم آلُ جهداً في معاونته، حتى التحق بالمعهد، وبرز فيه، وأنهى به دراسته الثانوية، بتفوق ظاهر، ليكمل دراسته العالية بجامعة أم درمان الإسلامية بالسودان، ثم يعود إلى قطر مرة أخرى، معلماً ومربياً."

درس الشريعة في جامعة أم درمان الإسلامية بالسودان ونال شهادة الليسانس عام 1970. ثم حصل على الماجستير في الشريعة الإسلامية من جامعة الأزهر الشريف. وحصل على الدبلوم العام في التربية بجامعة قطر.



نشر قصائده في الصحف اليومية والمجلات الأسبوعية والشهرية في فلسطين المحتلة أيام دراسته في السنة الثامنة الابتدائية ثم المرحلة الثانوية التي تليها (حسب النظام التعليمي هناك). وشارك، وهو فتى، هناك بشعره في مهرجانات ومناسبات وطنية عديدة.

ألقى القصائد وشارك في الندوات الشعرية في قطر والإمارات والكويت والبحرين، فانتشرت قصائده الدينية والوطنية والاجتماعية، وأُنشدت وانتشرت أشرطتها المسجلة على نطاق واسع، ومنها الأنشودة الشهيرة (عودي إلى الإسلام عودي.. وتسنّمي عرش الوجود).

نشر قصائده (وأحياناً مقالاته) في مجلة الميثاق الإسلامي (السودان) ومجلتي الشهاب والأمان (لبنان) ومجلة الأمة (قطر) ومجلتَي المجتمع والوعي الإسلامي (الكويت) ومجلتي الإصلاح ومنار الإسلام (الإمارات) ومجلتي الفيصل والمسلمون السعودية) ومجلة البعث الإسلامي (الهند).

اعتمدت وزارات التربية في قطر والإمارات والكويت والمدارس الفلسطينية في لبنان بعض قصائده ضمن المقررات التدريسية في مناهج اللغة العربية.

عمل في قطر مدرساً لمدة ثماني سنوات، ثم انتقل للعمل بوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية رئيساً لقسم العلاقات الخارجية. وتولى خطابة الجمعة عشرين سنة. ثم اعتزلها بسبب المرض.



مؤلفاته

ـ نداء الحق، شعر، الدوحة 1977.
ـ الإيمان والتحدي، شعر، عمان 1985.
ـ قصائد إلى الفتاة المسلمة، شعر، عمان 1984.
ـ جراح وكلمات، شعر، عمان 1990.
ـ هكذا يقول الحجر، شعر، عمان 1990.
ـ قادمون مع الفجر، شعر، عمان 1987.
ـ أناشيد للصحوة الإسلامية، شعر، عمان 1985.
ـ أناشيد للطفل المسلم، شعر، عمان 1988.
ـ طيور الجنة، شعر، الدوحة 1993.
ـ يا سراييفو الحبيبة، شعر، عمان 1997.
ـ ملحمة الشيشان، شعر، عمان 1997.
ـ هو الله، صياغة شعرية لأسماء الله الحسنى، الدوحة 1998.
ـ البُردة الجديدة في مدح الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم، قصيدة طويلة، الدوحة عام 2001.
ـ ويخضرّ غصن الأمل، قصص شعرية للناشئين، الدوحة 2002.
ـ ملحمة القدس، شعر، الدوحة 2010.
ـ واحات وظلال، شعر، الدوحة 2013.

ـ وعن شعره قُدّمت رسالة ماجستير بعنوان "الاتجاه الاسلامي في شعر أحمد محمد الصديق- دراسة وصفية تحليلية"، وذلك في كلية الأداب في الجامعة الإسلامية في غزة، إعداد الطالبة معالي شحدة الكحلوت، عام 2015.

نماذج من شعره

جزء من قصيدة "وابلدتي!!"

ما زلت يا أبي والذكريات بلا حدودْ
يوم ارتحلنا عن مغانينا وخلّفنا الديار
طللاً، تُخيّم فيه أشباح الدمار
ما زلت أذكر يوم أن هجم التتار
وصرختُ من أعماق صوتي في الظلام

وابلدتي!!

هجموا علينا يا أبي مثل الجراد بلا عدد
بين الكروم، على البيادر يزحفون
والليل معتكر وصوت البوم ينعق من بعيد
في حائط خرب عتيق
والريح تعول.. والنساء مولولات في الطريق
ودويّ قنبلة.. وأشلاء تناثر في العراء
ويضج صوت شارد النبرات.. يخنقه البكاء:
ويلاه! مات أخي تحطم بيتنا، حُرق الأثاث
وتطل أحداق النجوم بلا اكتراث
وتفرّ أسراب الحمام عن السطوح
وروائح البارود في الأجواء خانقة تفوح!
ويخرُّ جندي على الأنقاض.. والهفي عليه!!
غدرت قذيفته.. فعادت عندما انطلقت إليه!!


رسالة إلى صلاح الدين..

عفواً صلاح الدينِ
ليلُ التيهِ يحملنا إليكَ
على جناح الشوقِ
مقهورينَ
تصفعنا أعاصير الهزيمهْ

نشكو، نئنُ
وأنت ترقد في الضريح
كأننا نرجوك أن تهتز من غضبٍ
ونحن العاجزين
نغطُّ في أوهام غفلتنا العقيمهْ

بالأمسِ كنت هناك إذ دوّى نداءُ القدسِ:
"وا أقصاه!!"
والأفعى على أعناقنا تلتفُ..
كانَ البحرُ يقذف بالعلوجِ..
وأنذرتْ صفارةُ التاريخِ
والاخطارُ محدقةٌ وخيمه

ووقفت كالعملاق في وجه الرياح الهوجِ
تنفخُ في الضمير الوعي
تنسجُ من خيوط النور آفاقاً
تؤجج نخوة الإيمانِ
في أوجاع صحوتنا القويمه

ناديت: باسم الله
فارتجت مُفزّعةً قلاع الكفرِ
وامتشقت صواعقها السيوفُ
توحدت في كفك الراياتُ
واندفعت سيول البرق في الميدانِ
تمضغُ من تغيظِها الشكيمه

حطّين، عبرَ جراحنا
مِن غرْبةِ الأحزانِ
سوفَ تعودُ
تكسرُ شوكةَ الظُّلم اللئيمه

وهناكَ سرُّ الله
والأرحامُ تُنجِبُ
والغدُ الموعودُ يُؤذنُ بالقدومِ
وفي يديهِ وثيقةُ النصرِ القديمه

 فإلى هناكَ
إلى هناكَ
تعَجلي يا نفسُ
فالآمالُ دانيةٌ
وغايتها وَإِنْ دَمِيَتْ عظيمهْ

*كاتب وشاعر فلسطيني