إنه من أخطر الأوبئة التي تمزق النسيج
الاجتماعي على مستوى الفرد أو على مستوى الجماعة وهو كذلك من التراكمات التاريخية
التي لم تنجح العقيدة ولا الأخلاق ولا التربية ولا الأسرة في القضاء عليه أو الحدّ
منه. بل ها هو ينتشر ويتضاعف حتى تحكّمَ في كل مفاصل عدد من الشعوب والأمم وصار
اليوم يهددها بالفناء والذوبان.
من جهة أخرى يتردد الباحث كثيرا في الكتابة
حول الموضوع أو حتى في إثارته لسببين رئيسيين أما الأول فيتمثل في طبيعة الموضوع
نفسه بما هو موضوع غير كميّ وغير قابل للحصر أو التحديد أو ضبط السمات مما يجعله
خارجا عن كل أدوات القراءة التاريخية أو العلمية وهو من جهة ثانية موضوع شديد
الحساسية مسكون بالألغام حادّ الأطراف حتى أنه يصعب على التسمية والتوصيف والتصنيف.
إنه طاعون "الحقد الاجتماعي" الذي
صار اليوم العلامة المميزة للمجتمعات
العربية يفتك بها من كل جانب. ماذا نقصد
بالحقد الاجتماعي؟ ولماذا هذا التهويل في الحديث عن ظاهرة سلوكية نفسية تعرفها كل
المجتمعات؟ ما دور التاريخ وتراكماته في
صناعة هذا الوباء وما دور الاستبداد؟ وما نصيب الفرد من طاعون الجماعة؟ وهل من حلّ؟
الحقد الاجتماعي مفهوما ومنسوبا
المفهوم هو أعسر مراحل التحليل في مجال
العلوم الإنسانية لكنّ رصد صفات الظاهرة وخصائصها قد يعين على تبيّنها. نقصد
بمصطلح "الحقد الاجتماعي" حالة الكراهية أو الضغينة المتبادلة بين
الأفراد والجماعات والطبقات والطوائف والقبائل والجهات.. وحتى بين الشعوب. الحقد الاجتماعي
هو الوضع النفسي أو السلوكي المرَضي الذي يعبر عنه الأفراد أو المجتمعات تجاه
بعضهم البعض. الحقد الاجتماعي حالة فردية أو جماعية غير كميّة لا تقبل القياس
لكنها قابلة للتوصيف النسبي بمعنى أن منسوبها قد يرتفع وقد ينخفض حسب حالة المجتمع
السياسية والاقتصادية والأمنية والحضارية عامة.
يضم الحقد الاجتماعي مستويات أصغر ويشمل
مظاهر أخرى مثل النفاق الاجتماعي والتباغض الطبقي والعدوانية الفردية أو غيرها من
التسميات التي لا تخرج عن طائفة السلوكات المرضية التي تسود داخل المجتمعات وبين
الأفراد في فترة تاريخية ما. يدخل الحقد الاجتماعي من جانب آخر ضمن دائرة أكبر هي
دائرة الصراع بين مكونات المجتمع التي تراها المدارس الفكرية اليسارية وخاصة
الماركسية مثلا محركا للتاريخ. فالحقد الاجتماعي هو وقود الصراع الطبقي الذي يدفع
نحو الثورة ويقود نحو التغيير السياسي ونحو إنهاء حقبة سيطرة طبقة على أخرى.
يتحول الحقد الفردي والجماعي إلى ظواهر عنف
شديدة في فترة الأزمات والحروب الأهلية والمجاعات وانفلات الأمن وغياب الدولة أو
ضعفها. وهو الأمر الذي بدا جليا في العراق خلال الاحتلال الأمريكي أو في الجزائر
خلال العشرية السوداء أو اليوم في ليبيا واليمن وسوريا ولبنان والسودان.
الحقد الاجتماعي في المجتمعات العربية
لكن من جهة ثانية يرى علم النفس الاجتماعي
أن هذه الظاهرة النفسية موجودة في كل المجتمعات ولا يكاد يخلو منها مجتمع واحد بل
هي ملازمة للاجتماع الإنساني نفسه منذ قابيل وهابيل. هذا صحيح لكن خصوصية المجتمعات العربية الإسلامية تفرض
قراءة أخرى للظاهرة لسببين أساسيين : أما الأول فيتثمل في الطبيعة المحافِظة لهذه
المجتمعات وتأصل الجانب العقدي والديني في النسيج الاجتماعي القاعدي وأما الثاني
فيظهر في المنسوب الذي بلغه الحقد الاجتماعي بين أفراد نفس المجتمع وبلوغه مستويات
خطيرة جدا صارت تهدد وجود هذه المجتمعات وتدفعها نحو الفناء.
لا يقتصر الأمر هنا على معدلات الجريمة
والمخدرات ومنسوب الانحراف وقضايا التحيل والغش والسرقة والنهب والدعارة والعنف
وكل أصناف الفساد الذي تمكّن من كل طبقات المجتمع خاصة في الدول الاستبدادية. بل
يشمل الأمر كذلك تحوّل الأدوات والوسائل المحافِظة على
القيم والأخلاق مثل الدين
والمدرسة والأسرة والعلاقات الاجتماعية إلى أدوات عاجزة عن مواجهة الطوفان الجارف.
كيف نفسر مثلا عجز النخب العربية عن الاتفاق
ولو في الحدود الدنيا حول مشترك تُخرج به الشعوب من النفق المظلم؟ وكيف نفسر
انخراط الشعوب في سلوكيات الفساد بشكل مرعب؟ هل يكفي اتهام النظام السياسي بذلك أم
أنّ الشعوب قد طورت قابليتها للفساد والإفساد حتى بلغت طور إدمان الفساد؟ كيف تحول
الحقد الاجتماعي من محرك للتاريخ إلى أفيون تُفني به الشعوب بعضها؟ أين ذهبت القيم
والمبادئ والأخلاق؟ ألم نبلغ فعلا طور القصيد "إنما الأمم الأخلاق ما بقيت
فإن همُ ذهبت أخلاقهم ذهبوا"؟ ألسنا في طور الذهاب نحو الهاوية بسرعة الضوء؟
أليست الأنقاض وأكوام الخراب من حولنا شاهدا على أننا قد تحولنا إلى خلايا سرطانية
يأكل بعضها بعضا؟
نحن بحاجة إلى ثورة أخلاقية قيمية تعيد ترميم ما بقي من أشلاء الإنسان علّنا ننجح في تفادي الكارثة الكبيرة. لسنا بحاجة إلى ثورة سياسية ولا إلى ثورة اقتصادية ولا إلى ثورة ثقافية أو اجتماعية لأنها كلها لن تجد سبيلا إلى النجاح ما لم تسند أولا وقبل كل شيء إلى ثورة أخلاقية قيمية.
قد تنجح القوانين الاقتصادية في تفسير جزء
من الظاهرة بالقول بأن الفقر والتهميش والبطالة والاستبداد السياسي ظواهر قادرة
على إفساد أكثر المجتمعات فضيلة وورعا وأخلاقا. وقد تنجح المقولات الاجتماعية أيضا
في تعليل الخراب الأخلاقي والقيمي للمجتمعات العربية برصد المؤثرات من إعلام فاسد
وثقافة موبوءة وسياسية منحرفة وهيمنة خارجية وتجارة بالدين لكنها لا تُعفي الشعوب
والنخب من المساءلة : لماذا نجحت المنوالات الثقافية اليابانية والألمانية
والفرنسية والتركية مثلا في منع انهيار المجتمع والدولة؟ لماذا تحوّل الحقد
الاجتماعي في هذه الدول إلى وقود للمنافسة وصقل الموهبة والإبداع في العمل ؟ لماذا
نجح هؤلاء وفشلنا نحن ونحن نملك أعظم الرسائل السماوية وأغزر المقولات الأخلاقية
والأدبية والسلوكية؟
إن الجواب التقليدي بأن سبب انهيارنا
الأخلاقي إنما يعود إلى بُعدنا عن الدين لا يجيب عن جوهر المعضلة لأن المقولات
العقائدية المهيمنة اليوم والتي انتزعت الجوهر الأخلاقي للدين وحولته إلى طقوس
وعبادات وفلكلور أجوف إنما هي جزء من المشكل لا جزء من الحلّ.
طور التوحش الأخير
نقف اليوم دون شك على أطلال الخراب الكبير
الذي لم تزده الثورات الأخيرة إلا كشفا وهو ما يؤكد أن المنطقة العربية شعوبا
ونخبا وأنظمة سياسية تعيش أيامها الأخيرة. ليس هذا القول رجما بالغيب ولا نبوؤة
ولا هو إفراز يأس قاتل بل هو تشخيص صريح صادم للحالة المؤلمة التي بلغتها كثير من
المجتمعات العربية اليوم.
لقد تحوّل الفساد إلى طبقة خانقة نجحت في
اكتساح كل أوجه الحياة وبلغت المجتمعات حدا مرعبا من التوحش الذي رأينا مظاهره
الدامية في اليمن والعراق وسوريا وليبيا والذي نرى أشكاله الأخرى في مصر والجزائر
وتونس والسودان وغيرها من الأقطار. الحسد والنفاق والغدر والنهب وقلة المعروف
وانتشار المنكر.. كلها مؤشرات على حلول طور الشعوب الأخير.
إن تعطيل مرفق العدالة قد ساهم بقوة في دفع
المجتمعات نحو التوحش لأن "الظلم مؤذن بخراب العمران" كما ذكر صاحب
المقدمة ولأنّ إيمان الفرد بسلطة العدالة قد انهار مما ضاعف من حالات الكبت
الاجتماعي والرغبة الفردية والجماعية في الانتقام والتشفي وتدمير الآخر الذي هو في
الحقيقة تدمير للأنا أيضا.
لم تعد الأسرة قادرة على حماية الطفل
وتحصينه من الوباء الكبير ولم تعد المدرسة أداة لردع الدوافع العدوانية لدى
الناشئة بعد أن اخترق الطاعون كل الحصون والقلاع. لقد تطورت النزعة الفردانية
الجامحة في مجتمعات تأسس بناؤها الحضاري الأصيل على فعل الجماعة لا على فعل
الفرد. لقد صارت الفردانية المتوحشة منوال
النجاح الوحيد الممكن في مجتمع يسير بسرعة قوية نحو إدمان سلطة المادة القاتلة. ثم
تحوّل إشهار الثراء والرفاه والجاه والنجاح إلى تقليد وطني في مجتمعات تأسست
عقيدةً على التواضع وإنكار الذات وإيثار الضعيف ونجدة المحتاج. إن انكسار قلعة
القيم وانفجار منسوب الحقد الاجتماعي سيحوّل المجتمعات بسرعة كبيرة إلى منظومات
متآكلة ستنتهي حتما إلى التحلل وربما إلى الاندثار بفعل القانون الوضعي أو القانون
السماوي.
بناء على ما تقدّم فإننا اليوم بحاجة
مستعجلة إلى إنقاذ الأداة الوحيدة القادرة على مواجهة الطوفان الجارف. نحن بحاجة
إلى ثورة أخلاقية قيمية تعيد ترميم ما بقي من أشلاء الإنسان علّنا ننجح في تفادي
الكارثة الكبيرة. لسنا بحاجة إلى ثورة سياسية ولا إلى ثورة اقتصادية ولا إلى ثورة
ثقافية أو اجتماعية لأنها كلها لن تجد سبيلا إلى النجاح ما لم تسند أولا وقبل كل
شيء إلى ثورة أخلاقية قيمية. وهي الثورة التي ستجدد تشكيل رأس المال الأول واللبنة
الأولى في كل بناء حضاري: إنه الإنسان منطلَقا والإنسان سبيلا والإنسان غايةً.