في 13 كانون الأول (ديسمبر) الجاري، أصدر الرئيس
المصري عبدالفتّاح
السيسي قراراً رئاسياً يقضي بترسيم
حدود مصر البحريّة من الجهة الغربية حصراً، مع
ليبيا، وذلك بشكل أُحادي دون الرجوع إلى الجانب الليبي. أثار القرار الكثير من
الجدل في ما يتعلق بمضمونه وتوقيته ومبرّرات اتّخاذه فضلاً عن مسوّغات تبريره من
الناحية التقنيّة.
اليونان كانت أوّل المحتفلين بالقرار الذي يتعدّى على حدود ليبيا
البحرية ويخلق منطقة متنازع عليها مع ليبيا لم تكن موجودة في السابق. فبعد الإعلان
المصري، أجرى وزير الخارجية اليوناني نيكوس داندياس اتصالاً بنظيره المصري سامح
شكري ناقش فيه الوضع شرق البحر المتوسط بما في ذلك القرار المصري. وفي 15 ديسمبر،
رحّب الوزير اليوناني بشكل علني بقرار السيسي الذي قضى بترسيم الحدود الغربية
للبلاد بشكل أحادي، مشيراً إلى أنّ أثينا والقاهرة تتمتعان بعلاقات قوية ومتناغمة
حول عدد من القضايا. الصحافة اليونانية عنونت في عدد من منشورتها "مصر تلغي
مفاعيل مذكّرة التفاهم التركية-الليبية غير القانونية لترسيم الحدود البحرية".
حكومة الوحدة الوطنيّة الليبية رفضت القرار المصري بالكامل، وردّت
على الخطوة المصرية بالقول إنّها تعد انتهاكاً للمياه الإقليمية والجرف القاري
الليبي، وإنّ قرار السيسي مخالف لما تدّعيه مصر في المحافل الدولية لناحية احترام
السيادة الليبية ووحدة أراضيها، ومخالف كذلك للقانون الدولي لأنّه غير عادل وليس
صادراً عن حسن نيّة -وفق ما يقتضيه قانون البحار- ولا يتطابق مع أحكام القانون
الدولي. حلفاء النظام المصري التقليديون داخل ليبيا، أصدروا من خلال لجنتي الشؤون
الخارجية والدفاع في البرلمان الذي يرأسه عقيلة صالح في 22 ديسمبر بياناً أعلنوا
فيه رفضهم لقرار السيسي وحثّهم النظام المصري على ضرورة التراجع عنه باعتباره
قراراً غير عادل وفق القانون الدولي وينتهك السيادة اللبيبة ويتعدى على حدود
البلاد البحرية.
من جانبها دعت السلطات التركية الطرفين المصري والليبي إلى مباشرة
مفاوضات حول ترسيم الحدود البحرية بينهما في أسرع وقت ممكن. كما ردّ الجانب التركي
على الادّعاءات التي أثيرت من قبل اليونان والقبارصة وعدد من المصريين بشأن تأثير
قرار السيسي على خط الترسيم التركي-الليبي، فنقلت وكالة الأناضول شبه الرسمية عن
مصادر دبلوماسية تأكيدها أنّ قرار مصر الأحادي لترسيم الحدود الغربية مع ليبيا عبر
9 إحداثيات جغرافية، "لا يتداخل مع الجرف القاري لتركيا في شرق البحر المتوسط".
من الناحية التقنيّة، يتعارض القرار عملياً مع اتفاقية قانون البحار
التي تعتبر مصر عضواً فيها، ذلك أنّه تمّ بشكل احادي وبتجاهل تام للجانب الليبي،
علاوةً على غياب حسن النيّة عند التطبيق. وعلى افتراض أنّ حدود مصر الحقيقيّة هي
ما تمّ الإعلان عنه في مرسوم السيسي، فقد كان ذلك يفترض على الأقل دعوة الجانب
الليبي إلى التفاوض بهذا الشأن انطلاقاً من حقيقة أنّ الإعلان المصري أنشأ نزاعاً
لم يكون موجوداً من قبل، حيث تعتبر المساحة البحرية التي تمّ التعدّي عليها مساحة
تابعة لليبيا، إذ لم يسبق للقاهرة أن أثارت موضوع وجود خلاف مع ليبيا أو وجود
تنازع أو وجود مساحة مائية تابعة لها قام الجانب الليبي باغتصابها.
من ناحية المضمون، فضلاً عن إنشائه نزاعاً مستجداّ مع ليبيا، يقضم
مرسوم السيسي عملياً جزءاً من الحيّز المائي الليبي يقدّر البعض مساحته بحوالي 6
آلاف و800 كلم2، وهو ما يعادل حوالي ثلثي مساحة دول مثل لبنان. بهذا المعنى، فانّ المرسوم -بشكله المجرّد وإذا
ما إستبعدنا أيّة مسوّغات أخرى لم يتم الإعلان عنها- يعكس وجود أطماع للنظام
المصري في
المياه والثروات الليبية. صحيفة الأهرام وصفت إجراء السيسي في أحد
عناوينها بانّه "إجراء وقائي"، عازيةً إيّاه الى ما قالت مصادر أنّه
"إجماع على أنّ الخطوة هي خطوة وقائية في ظل حالة عدم الاستقرار في ليبيا".
بمعنى آخر، الجانب المصري قرر قضم مساحة بحرية ليبية بسبب حالة عدم
الاستقرار في ليبيا وعدم قدرة البلاد على الدفاع عن نفسها في وجه أطماع او تعدّيات
الاخرين. وتأكيداً على هذا السلوك، برّر عدد من المصريين الطريقة الأحادية لهذا
القرار بأنّها تأتي في سياق "الإستعجال لإستثمار الثروات شرق البحر
المتوسط" لاسيما في المنطقة المحاذية للحدود مع اليونان وليبيا، وهو ما يبدو
متناغماً مع التعدّيات اليونانية على المياه الليبية، ممّا يعكس تفاهماً على أن
تكون ليبيا ضحيّة لتجاوزات الطرفين.
الجانب المصري قرر قضم مساحة بحرية ليبية بسبب حالة عدم الاستقرار في ليبيا وعدم قدرة البلاد على الدفاع عن نفسها في وجه أطماع او تعدّيات الاخرين. وتأكيداً على هذا السلوك، برّر عدد من المصريين الطريقة الأحادية لهذا القرار بأنّها تأتي في سياق "الإستعجال لإستثمار الثروات شرق البحر المتوسط"
إذا كان الأمر يتعلق بالوقت، فالمفاوضات المصرية مع قبرص واليونان
حول ترسيم الحدود استغرقت سنوات قبل أن يتم التوصل الى إتفاق بشأنها. أمّا إذا كان
الامر يتعلق بمصالح مصر الحيوية، فانّ ذلك كان يفترض أن تُعطي الأولوية لترسيم
الحدود البحرية مع تركيا نظراً لما تؤمّنه من مساحات بحرية إضافية للجانب المصري،
علماً أنّ المفاوضات في هذا الشأن مُعطّلة بقرار سياسي مصري وذلك بخلاف الترسيم
المصري الذي تم مع اليونان والذي يأتي على حساب مساحات مصرية قام الجانب المصري
بالتنازل عنها لصالح أثينا في إتفاق ذو طابع سياسي.
من ناحية التوقيت، يأتي قرار السيسي في توقيت غاية في الحراجة
بالنسبة الى النظام المصري، لاسيما بالنظر الى الازمة الاقتصادية الخانقة التي
يعاني منها في هذه المرحلة، وصعوبة الحصول على دعم مالي ساخن كما يُقال بعد أن كشف
الرئيس المصري عن وجود تململ من تقديم دعم مالي من قبل "الدول الشقيقة"،
والتي لم تعد تقدّم الدعم المالي بالشكل الذي كانت تقدّمه منذ الانقلاب العسكري في
البلاد في العام 2013. فضلاً عن ذلك، يأتي الإعلان الأحادي هذا بُعيد توقيع مصر في
نهاية شهر نوفمبر 2022 لمذكرة تفاهم عن "البحث والإنقاذ" مع الجانب
اليوناني شرق البحر المتوسط، والمصافحة التي تمت كذلك بين السيسي والرئيس التركي
رجب طيب أردوغان في الدوحة على هامش إفتتاح مباريات كأس العالم لكرة القدم-قطر
2022، وإعلان اليونان عن تعاقدها مع شركات دولية للبحث والتنقيب عن النفط والغاز
في منطقة بحرية متنازع عليها مع ليبيا.
لا يوجد مسوّغات منطقية لقرار السيسي خاصّة أنّه يتعارض مع ما كانت
القاهرة واليونان يسوّقانه لناحية القانون الدولي. هل أراد النظام المصري باباً
للتفاوض مع ليبيا؟ لا يبدو ذلك. هل يريد إرسال رسالة غير مباشرة لليونان بانّ
الموقف المصري لا يزال متناغماً مع الرؤية اليونانية لشرق البحر المتوسط بالرغم من
المصافحة مع أردوغان؟ ربما. هل يريد أنّ يقول للاتراك أنّ تحركاتي شرق البحر
المتوسط أثبتت مرة أخرى انّها لا تأتي على حساب تركيا؟ ربما.
لكن في نهاية المطاف، قد يكون مبرّر القرار داخلياً صرفاً، إذ يسهل
إستثارة المصريين بقرارات يتم إطفاء الطابع الوطني والقومي عليها. فنظراً للوضع
الاقتصادي الحرج، وبعد حجم التنازلات التي قدّمها النظام المصري من مياه لليونان،
وجُزر للسعودية، وشركات و أصول للإمارات، وبعد أن فشل الرهان على حفتر في ليبيا،
وعلى إيقاف سدّ النهضة في أثيوبيا، يجد النظام نفسه في حاجة الى انتصار وهمي وسريع
ومن دون أي تكاليف. القرار الأخير ربما يحقق له ذلك، بل وربما يعتقد أنّه سيعود
عليه بالمنفعة اذا ما تمّ إرساؤه كسياسة أمر واقع والتفاهم مع اليونان على حساب
ليبيا وحقوق الشعب الليبي في مياهه وثرواته.