قال الصحفي والكاتب البريطاني جوناثان كوك؛ إن زعيم حزب القوة اليهودية "الفاشي" إيتمار
بن غفير، يلعب بالنار، ونفذ
اقتحامه للأقصى ليثبت أنه لن يتنازل عن عقيدته المتطرفة.
وأشار الكاتب في مقال بموقع "
ميدل إيست
آي" ترجمته "عربي21"، إلى أن في جعبة بن غفير الكثير من الاستفزازات، وهو
مصمم على "إشعال فتيل حرب دينية، بما يثبت للجميع مدى قوة هذا النوع من
التعصب والبلطجة اليهودية ضد المسلمين".
وفيما يلي النص الكامل للمقال:
لم يضيع وزير الأمن الوطني الجديد في
إسرائيل، إيتمار بن غفير، وقتا حتى يثبت أنه صاحب الأمر والنهي. فيوم الثلاثاء،
قبل أيام من أداء حكومة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو القسم، مشى السياسي القومي
المتطرف إلى مجمع المسجد
الأقصى في البلدة القديمة المحتلة من مدينة
القدس، الذي
ربما كان أكثر المواقع قابلية للاشتعال في الشرق الأوسط.
قام بن غفير بهذا الفعل على الرغم مما قيل عن
أنه اتفق مع نتنياهو على تأجيل مثل هذه الزيارة؛ تجنبا لتداعياتها التي تُخشى
عقباها.
ولكن، من الذي سيحاسبه على اللعب بالنار؟ هل
هو رئيس الوزراء الذي هو بأمس الحاجة لدعم بن غفير من أجل البقاء في السلطة، حتى
يتسنى لنتنياهو سن قانون يضع حدا لمحاكمته بتهمة الفساد ويبقيه خارج السجن؟ أم
قوة الشرطة الإسرائيلية التي غدا بن غفير نفسه اليوم، في سابقة هي الأولى، وليا لأمرها وقائدا لها؟
لقد استخدم زعيم حزب القوة اليهودية الفاشي
الزيارة ليثبت لأتباعه أولا ثم لنتنياهو، أنه لا يخضع لأحد وأنه لن يساوم ولن
يتنازل عن عقيدته المتطرفة حول التفوق العرقي اليهودي.
كما بعثت الزيارة برسالة أخرى، ألا وهي أن بن
غفير يبدو مستعدا لإشعال فتيل حرب دينية، بما يثبت للجميع مدى قوة هذا النوع من
التعصب والبلطجة اليهودية في تحدي كل المعارضة الإسلامية. وبذلك، يمكن للأقصى أن
يتحول إلى صاعق يفجر مثل هذه المواجهة.
مرت زيارة بن غفير هذه المرة على الأقل دون
أن تثير رد فعل كبيرا من جانب الفلسطينيين، وذلك على الرغم من أن حركة حماس حذرت
مسبقا بأنها لن "تبقى صامتة" إزاء "العنف المفجر" الذي يهدد
به.
من الواضح أن بن غفير كان يجري اختبارا أوليا، ومن المؤكد أنه سيعود قريبا وفي جعبته استفزازات أكبر. فقد دعا في أثناء
حملة الانتخابات الإسرائيلية الأخيرة وما بعدها، إلى تمكين اليهود من الصلاة في هذا
المكان المقدس لدى المسلمين، وقال إنه سوف يطالب نتنياهو بالتأسيس لما قال إنه
"حقوق متساوية لليهود" هناك.
احتجاج دبلوماسي
كان الخوف مما يمكن أن يفعله بن غفير فيما
بعد، ما لم يلجمه نتنياهو ويمنعه، جزءا من السبب الذي جعل زيارته تطلق عاصفة من
الاحتجاج الدبلوماسي. فقد استدعى الأردن، الذي يملك الولاية الرسمية على المكان،
سفير إسرائيل وسلمه رسالة احتجاج شديدة اللهجة، بينما كلفت الولايات المتحدة،
الراعية لإسرائيل، نفسها مؤنة وصف الزيارة بأنها غير مقبولة. أما الإمارات العربية
المتحدة، فقررت تأجيل زيارة نتنياهو القادمة إليها.
سوف يسعد بن غفير بما صدر عن هذه الأطراف من
توبيخ فارغ، فهو يرمق ببصره سابقة وقعت في أيلول/سبتمبر عام 2000 حينما زار
المسجد الأقصى زعيم المعارضة آنذاك آرييل شارون، مدعوما بألف من عناصر الأمن
الإسرائيلي، رغم اعتراض شرطة القدس على ذلك.
وقتها، فجر ذلك الاقتحام الانتفاضة
الفلسطينية الثانية، التي استخدمت لتبرير سنوات من القمع العسكري الإسرائيلي
الوحشي. بل استخدمت إسرائيل الدبابات لفرض طوق على الزعيم الفلسطيني آنذاك ياسر
عرفات وإبقائه حبيسا داخل مقره في رام الله، بينما راح الجيش الإسرائيلي يفتك
بالسلطة الفلسطينية وينهي فعليا التعهد بإقامة حكم ذاتي للفلسطينيين بموجب ما ورد
في اتفاقيات أوسلو. واستنزف المجتمع الفلسطيني بالتدريج حتى فقد القدرة على
الإبقاء على جذوة الانتفاضة التي كلفته آلاف الأرواح.
ربما كان بن غفير يرغب في تفجير مواجهة
مشابهة من أجل توفير الذريعة للقضاء على ما تبقى من السلطة الفلسطينية. ولعل ذلك
يحقق له مكسبا سياسيا محليا أيضا، فقد كان شارون قد ركب موجة القومية اليهودية
التي أطلقها وأوصلته إلى مكتب رئيس الوزراء، وكان الجمهور الإسرائيلي حينذاك
يريد جنرالا لا يساوم ولا يتنازل، وزعيما يهوديا وطنيا، لديه العزيمة على إجبار
الفلسطينيين على الخضوع.
لربما كان بن غفير يرجو تكرار السيناريو تارة
أخرى، خاصة أنه اليوم يمتطي ظهر موجة من الشوفينية اليهودية، متسلحا بشرعية
سياسية منحه إياها نتنياهو من خلال ضمه إلى حكومته.
قوميات متنافسة
وسائل الإعلام الإسرائيلية، والدول العربية،
والدبلوماسيون الغربيون، كلهم اعتبروا زيارة بن غفير مهددة لما يعرف بمصطلح
"الوضع القائم"، ألا وهو مجموعة المبادئ التي تم التوافق عليها في القرن
التاسع عشر، وتم تجديدها بعد احتلال إسرائيل للقدس في عام 1967، بهدف ضمان السيادة
الإسلامية على مجمع المسجد الأقصى والإبقاء على الصلاحيات الإسلامية لتنظيم الدخول
إليه والعبادة فيه.
ولكن في واقع الأمر، لم تزل إسرائيل تقوم
بتقويض الوضع القائم بوتيرة متسارعة منذ زيارة شارون إلى المسجد. ولعل هذا هو
السبب في أن الانفجار الذي أسفر عنه اقتحام الجنرال للمسجد، وما وقع من رد فعل
غاضب من قبل الفلسطينيين قبل عقدين، لم يتكرر في حالة بن غفير، على الأقل حتى هذه
اللحظة. بمعنى آخر، لم تعد انتهاكات الوضع القائم من قبل السياسيين الإسرائيليين
المتطرفين أمرا غير معتاد.
ولربما أكثر من أي زعيم إسرائيلي في وقته،
كان شارون يدرك مدى الرمزية التي كان يمثلها المسجد الأقصى، من حيث كونه القلب
النابض لعملية التدافع بين القوميتين المتنافستين، الإسرائيلية والفلسطينية. فمن
خلال تشجيعه لطمس الخط الفاصل بين المشاعر القومية والمشاعر الدينية، كما فعل
عندما اقتحم المسجد الأقصى، تمكن من توحيد المجتمع الإسرائيلي الذي كان يعاني من
انقسام عميق حول مسائل الدين والتدين.
يُنظر إلى ملكية مجمع المسجد الأقصى – أو جبل
الهيكل كما يسميه اليهود الإسرائيليون، في إشارة إلى معبدين يهوديين قديمين، يُزعم
أنهما يقعان تحت أرض المجمع –، باعتبارها متلازمة طبيعية ودليلا يؤكد حق اليهود في
الأرض، أو كما عبر عنه شارون حينذاك، حين قال؛ إن الموقع المقدس هو "الأساس
الذي يقوم عليه وجود الشعب اليهودي، وأنا لا أخشى الشغب الذي يمارسه
الفلسطينيون."
تلك كانت الكيفية التي من خلالها أعاد شارون،
العلماني والقومي المتطرف، تعريف الصراع، حين أكد الحق اليهودي في السيادة على
المجمع، فغدا ذلك شرطا لنجاح أي سياسي إسرائيلي يطمح في الوصول إلى السلطة.
ولهذا، وبمجرد أن وصل إلى الحكم في أوج الانتفاضة الثانية، فرض شارون في عام 2003
إجراءات تتيح لليهود ولغير المسلمين الآخرين الدخول إلى المكان، غير عابئ بمعارضة
دائرة الأوقاف، الهيئة الإسلامية التي تناط بها مهمة إدارة شؤون المسجد الأقصى.
واليوم لم يبق من اتفاق الوضع القائم إلا
النزر اليسير؛ فقوات الاحتلال الإسرائيلي هي التي تقرر حصريا من يسمح له بالدخول
إلى المسجد الأقصى. بل بات من الممكن فرض قيود على صلاة المسلمين كيفما تقرر
إسرائيل. ولا أدل على ذلك من أن الفلسطينيين من قطاع غزة، والذين يعيشون فيما يشبه
السجن الكبير، تحيط بهم الأسوار وأبراج المراقبة من كل جهة، يمنعون قطعيا وبشكل
دائم من الوصول إلى المكان المقدس.
في الوقت نفسه، تفتح الأبواب بلا قيد أو شرط
أمام الجنود الإسرائيليين، الذين يدخلون إلى المكان بكامل عدتهم وعتادهم، وكذلك
أمام اليهود المتدينين والمستوطنين، الذين عادة ما يستخدمون الزيارة لأداء
العبادات، الأمر الذي يمثل انتهاكا صارخا لاتفاق الوضع القائم. كما تقوم قوات
الأمن الإسرائيلية، وبوتيرة متزايدة، باقتحام المسجد متى ما شاءت. وعندما فعلت ذلك
في شهر أيار/مايو من عام 2021، اندلعت أعمال عنف استمرت لأسابيع، وانتشرت في أنحاء المناطق المحتلة كافة، وفي داخل إسرائيل نفسها.
علاقة السيد بالعبد
مثله مثل شارون، يرى بن غفير في الأقصى قضية
قومية عليا. ولقد عبر عن ذلك أحد زملائه المشرعين، واسمه زفيكا فوجيل، الذي كان
في السابق قد شغل منصب القائد العسكري الإسرائيلي المكلف بشؤون قطاع غزة، حيث أكد أن هدف بن غفير يمكن أن يتحقق دون إثارة رد فعل من قبل الفلسطينيين قائلا:
"لا ينبغي أن نتعامل مع زيارته كما لو كانت ستؤدي إلى نوع من التصعيد. لم لا
نراها جزءا من تحقيق سيادتنا (اليهودية)؟"
بالنظر إلى أن نتنياهو بات ضعيفا، لا بد أن
بن غفير يرجو أن يتمكن من الدفع بأجندة شارون إلى الأمام، ليس فقط من حيث تأكيد مبدأ ملكية اليهود للمكان المقدس، وإنما أيضا من خلال التخندق من وراء الواقع
الفعلي، حيث يفرض اليهود سيطرتهم المطلقة على المكان.
وهذا يشمل منح الأولوية لعبادة اليهود، كما
هو حاصل الآن في المسجد الإبراهيمي في الخليل. إنه النموذج الذي يريد المستوطنون
الذين يتبعون بن غفير تكراره في المسجد الأقصى، مما سيفضي فعليا إلى التقسيم
المكاني لمجمع المسجد الأقصى، تماما كما وقع في الخليل.
تؤكد مثل هذه الطموحات علاقة السيد
بالعبد التي طورتها إسرائيل في المناطق المحتلة؛ في الضفة الغربية وفي القدس
الشرقية. ففيما لو ثار احتجاج على فرض السلطة اليهودية على المجمع، سوف يكون
باستطاعة الحكومة الإسرائيلية معاقبة المسلمين وحظر دخولهم إليه، حيث ستمكن شرطة الدولة
– التي تقع الآن تحت إمرة بن غفير – من اقتحام المسجد، أو أي موقع آخر داخل المجمع
متى ما رأت الحكومة ضرورة في ذلك.
ولكن الأمر لا ينتهي عند ذلك الحد؛ فمثله مثل
أنصاره، يريد بن غفير تدمير الموقع الإسلامي المقدس وإعادة بناء الهيكل، ولقد صرح
بذلك علانية في شهر أيار/مايو الماضي عندما زار مجمع المسجد الأقصى، وهو يرفع
صورة تدعو إلى هدم المسجد من أجل "إقامة معبد يهودي فوق الجبل".
"الحرب الأخيرة"
يبدو في هذه الأثناء، أن بن غفير يستخدم مشرعي
حزبه أبواقا تتحدث باسمه؛ وذلك تجنبا للإضرار باتفاق الائتلاف الذي أبرمه مع
نتنياهو. بعد زيارة الثلاثاء، كان فوجيل يتمنى أن تنتقم حماس فتطلق صاروخا من
غزة، حيث قال؛ إن مثل هذا التصعيد "سيكون مستحقا؛ لأن تلك ستكون الحرب الأخيرة، وبعد ذلك بإمكاننا أن نجلس ونرفع الحمائم وكل ما هو موجود من طيور جميلة."
لا يحتاج بن غفير لإضرام النار بشكل مباشر في
المسجد الأقصى. فالآن، وبما أن قوات الشرطة الإسرائيلية أصبحت تحت إمرته، وبما أن
حليفه السياسي بيزاليل سموتريتش بات مسؤولا عن إدارة الاحتلال، فالسبل
ومختلف الوسائل كافة متاحة لديه، وخاصة داخل القدس، لاستفزاز السكان الفلسطينيين ودفعهم
نحو المواجهة.
إطلاق الشرطة النار وقتلهم للمدنيين، وتوسيع
المستوطنات، وهدم البيوت، وإقامة خط للعربات المعلقة بهدف نقل السواح اليهود إلى
داخل ساحة المسجد الأقصى، كل ذلك من شأنه أن يؤجج التوترات. كما أن بإمكان بن غفير
تحويل حياة السجناء الفلسطينيين إلى جحيم ومفاقمة معاناتهم، كما تعهد بذلك في أثناء
حملة الانتخابات؛ لدفعهم نحو الإضراب عن الطعام.
عادة ما يجد الغضب الفلسطيني متنفسا داخل
الأقصى؛ نظرا للدور الذي يؤديه المكان المقدس كرمز ديني وقومي، وخاصة بالنسبة لشعب
محروم من أي رمز آخر من رموز الدولة الوطنية.
ها هم حلفاء بن غفير الأقرب له ضمن حركة جبل
الهيكل، يضعون نصب أعينهم أعياد الفصح في شهر نيسان/إبريل، التي تتصادف هذا
العام مع منتصف شهر رمضان. ولقد ناشدوا الشرطة، كما يفعلون في كل عام، السماح لهم
بالقيام بشعائر مستفزة، مثل ذبح القرابين، التي ترتبط بطموحات بناء الهيكل اليهودي
في نفس موقع المسجد الأقصى. تحاول الشرطة كل عام منعهم، ولكن بن غفير هو الذي يضع
السياسة التي تسير عليها الشرطة هذا العام.
يشير الباحث تومير بيرزيكو، الذي لديه اطلاع
جيد على جذور بن غفير الكاهانية، إلى أن زعيم حزب القوة اليهودية كان قد قال في
مقابلة أجريت معه في عام 2019؛ إن الفرق الكبير بينه وبين معلمه، الحاخام المتطرف
مائير كاهانا، هو أنهم "يعطوننا ميكروفونا"، بينما تجاهلت المؤسسة
السياسية في إسرائيل كاهانا ونأت بنفسها عنه.
كان ذلك قبل ثلاث سنين. أما الآن، فقد غدا بن
غفير، وبسرعة فائقة، جزءا لا يتجزأ من التيار السائد داخل إسرائيل. واليوم، بفضل
ما يتمتع به من صلاحيات وزارية ومنصة قومية يبث من خلالها تحريضه، باتت المسألة
مسألة وقت قبل أن يضرم النار ويفجر الأوضاع.