تجارب "الإسلام السياسي" بعد الربيع العربي.. تحديات الراهن وآفاق المستقبل

كانت تجارب حركات "الإسلام السياسي" بعد ثورات الربيع العربي ميدانا فسيحا لأبحاث ودراسات عديدة، وعُقدت مؤتمرات وندوات متخصصة في عواصم عربية وغربية لدراسة الظاهرة، وتحديد المفهوم والمصطلح، وتحليل عوامل نشأتها وتكوينها، والحديث عن مآلاتها في ظل التحديات الراهنة، ومناقشة "ما بعد الإسلام السياسي" إن كانت تمثل مرحلة جديدة أم أنها لا تعدو أن تكون رؤى مؤدلجة، مع استشراف المستقبل وتوقع السيناريوهات المحتملة.

أتاحت ثورات الربيع العربي فرصة ذهبية لحركات الإسلام السياسي لتصدر المشهد السياسي، وقد أوصلت مرحلة ما بعد الثورات  بعض تياراتها إلى سدة الحكم، ومكنتها من تحقيق نجاحات متتالية في الانتخابات النيابية والرئاسية في غالب عواصم الثورات العربية، وهي تجارب استثنائية في تاريخ تلك الحركات وتاريخ المنطقة بأسرها، وقد خاضتها بكل ما واجهها من تحديات وعقبات، لكن قوى الدولة العميقة لم تمهلها كثيرا، فانقضت عليها بكل أدواتها وقدراتها وإمكاناتها، ما آل في نهاية المطاف إلى إجهاض التجربة وإحباطها.

في هذا الإطار يأتي كتاب "تجارب حركات الإسلام السياسي بعد ثورات الربيع العربي.. دراسة في التحديات الراهنة وآفاق المستقبل" مؤلف جماعي، والصادر عن المركز الديمقراطي العربي للدراسات الاستراتيجية ببرلين، في طبعته الأولى عام 2019، لدراسة ظاهرة الإسلام السياسي، وتتبع مساراتها، ورصد تجاربها بعد ثورات الربيع العربي، وتحليل نتائجها ومالآتها، وهي الظاهرة التي شغلت الباحثين والدارسين منذ سبعينيات القرن الماضي.

تضمن الكتاب عشر أوراق بحثية، لأكاديميين وباحثين متخصصين، جاءت عناوينها كالآتي: "إطار نظري ومفاهيمي لحركات الإسلام السياسي" للباحث المغربي عبد الواحد أوامن؛ "صعود حركات الإسلام السياسي وتمثلاتها الهوياتية" للأكاديمي العراقي فراس عباس هاشم؛ "حركات الإسلام السياسي وإشكالية الدولة العميقة في دول الربيع العربي" للأكاديمي الجزائري الكر محمد؛ "التحديات الراهنة لحركات الإسلام السياسي (داخليا وخارجيا)" للباحث الجزائري حلوز خالد؛ "حركة الإخوان في مصر" للباحثة الجزائرية رشيدة بوجحفة.

أما البحث السادس فكان عنوانه: "ثورة 25 يناير وصعود حركة الإخوان المسلمين في النظام المصري" للباحث الأردني بشير محمد النجاب، الورقة السابعة بعنوان "الحراك السياسي في تونس بعد الربيع العربي/ حركة النهضة أنموذجا" للباحث أحمد سوالم، وقام الباحثان محمد كاظم هاشم، وداود فيرحي بدراسة "تجربة حركات الإسلام السياسي في السلطة والحكم/ الإسلام السياسي في العراق، دراسة في أسباب فشل التجربة والخطاب". 

كما أعد الباحثان الجزائريان، زيدان سعيد وجبران سفيان ورقة بحثية بعنوان "تطور حركات الإسلام السياسي في الجزائر قبل وبعد الربيع العربي، وكانت آخر تلك الأوراق مخصصة لدراسة حالة "حزب العدالة والتنمية المغربي من المعارضة إلى الأغلبية؛ الثابت والمتغير" أعدها الباحث المغربي، مصعب التجاني، وفيما يلي قراءة وعرض لأبرز الأفكار والمناقشات في تلك الأوراق البحثية.

إطار نظري ومفاهيمي

في ورقته البحثية الأولى، والمعنونة بـ"إطار نظري ومفاهيمي لحركات الإسلام السياسي" سعى الباحث المغربي، عبد الواحد أوامن إلى تقديم "مقاربة مفاهيمية ونظرية لظاهرة الإسلام السياسي داخل الوطن العربي، من خلال مجموعة من النقاط الأساسية القائمة على التعريف بمفهوم حركات الإسلام السياسي، وتبيان المصطلحات المشابهة لها مع تحديد الخصائص المميزة لها، مع إبراز مختلف العوامل المساهمة في ظهورها".

ووفقا للباحث فإن مصطلح الإسلام السياسي يطلق على "الحركات والقوى التي تصبو إلى تطبيق الشريعة الإسلامية منهجا حياتيا، مستخدمة بذلك منهجية العمل السياسي الحديث القائم على المشاركة السياسية في السلطة، فكل حركة سياسية إسلامية تعتبر المشاركة السياسية منهجا تدخل ضمن هذا التعريف، ومن ثم فإن كلمة سياسي في مصطلح الإسلام السياسي ليست توصيفا للإسلام بمقدار ما هي توصيف وتعريف للحركات التي تقبل بمفهوم المشاركة السياسية، وخوض الانتخابات والاحتكام إلى صناديق الاقتراع".

ممارسة حركات الإسلام السياسي في العراق للسلطة وضعها أمام تحديات حقيقية، ذاتية وموضوعية، كتحدي الشرعية، وتحدي الهوية، وتحدي إدارة الدولة.. إلا أنها لم تستطع التغلب عليها، وقد حالت هذه التحديات بين هذه الحركات وبين النجاح في بناء الدولة، وأجبرتها على التخبط في العمل السياسي،

ورصد الباحث ما طرأ على حركات الإسلام السياسي من تغيرات في رؤاها ومواقفها من الأنظمة السياسية حيث انتقل "الصراع مع السلطة إلى التعايش أو المشاركة في السلطة"، لافتا إلى أن "المتتبع لمسيرة هذه الحركات يرى أنها، ومنذ نهاية السبعينات تحولت نظرتها إلى السلطة من نظرة صراع على السلطة إلى معارضة سياسية لها، أو إلى تعايش ومهادنة، أو مشاركة في السلطة، كما يحدث في مصر وبعض دول الخليج العربي، والأردن والمغرب واليمن وغيرها، ويلاحظ أن خطابها السياسي، وممارستها السياسية تؤكد على إمكانية التعايش مع السلطة".

 وفي بحثه الموسوم بـ"صعود حركات الإسلام السياسي وتمثلاتها الهوياتية في بناء انتقالاتها الإقليمية"، تناول الباحث العراقي، فراس عباس هاشم جملة العوامل التي ساعدت على صعود هذه الحركات للسلطة واكتساب شرعيتها التي كانت مفقودة في الأنظمة السياسة القائمة، وتبنيها لخطاب يعكس بدوره تصوراتها السياسية والاجتماعية والثقافية، والحفاظ على هويتها الدينية".

ولفت إلى أن "رؤى الحركات الإسلامية انطلقت حيال التغييرات التي شهدتها منطقة الشرق الأوسط من ضرورة الاستجابة للواقع الجديد، والتعاطي معه بما يخدم توجهاتها الفكرية، وأضحت الرؤية للحركات تتجه نحو بناء ذاتها وهويتها بشكل يتلائم مع مكانتها ودورها في الحياة السياسية، وبما تمتلكه من رصيد جماهيري".

وكان من ضمن الاستنتاجات التي خلصت إليها الدراسة أن حركات الإسلام السياسي في ظل إدراكها "لطبيعة المرحلة الجديدة وجدت ضرورة في التحرك نحو إبراز هويتها بشعور الانتماء للإسلام، ويرتبط بشعور الانتماء المتولد من إثبات هويتها وخلق انطباع في الأذهان يزيل النظرة السلبية التي كانت ينظر إليها، وتقديم صورة أكثر ديمقراطية".

"الإسلام السياسي" والدولة العميقة والتحديات الراهنة

في بحثه المعنون بـ"حركات الإسلام السياسي وإشكالية الدولة العميقة في دول الربيع العربي.. دراسة مقارنة في المآلات وآليات التعامل" حدد الأكاديمي الجزائري الكر محمد، فرضيات دراسته في النقاط التالية "يختلف واقع حركات الإسلام السياسي في مواجهة الدولة العميقة باختلاف الأنظمة السياسية في العالم العربي، وتتراوح طبيعة العلاقة بين الدولة العميقة وحركات الإسلام السياسي في دول الربيع العربي بين الصدام والتكيف، ويمكن التعامل مع واقع الدولة العميقة من خلال نهج تدرجي في تفكيك مستوياتها".

وأكد الباحث من خلال تتبعه لطبيعة العلاقة بين حركات الإسلام السياسي والدولة العميقة أن "حركات الإسلام السياسي في العالم العربي والإسلامي لا سيما في دول الربيع العربي أمام تحديات جسام خاصة مع مسار الثورة، وما آلت إليه الأوضاع في عودة النظام القديم، ومخلفاته من خلال تجذر عميق للدولة العميقة التي حالت دون أن تلعب حركات الإسلام السياسي الدور الأبرز في المشهد السياسي بعد جملة الانقلابات والمواجهات التي عرفتها".

نتج عن تجربة الإخوان المسلمين في مصر فشل الجماعة في التعاطي مع مسألة السلطة والحكم بنحو فعال وناجح، ويجب أن لا ننكر بأنه كان للدولة العميقة في مصر دور بارز في إسقاط مرسي.. والتي نجحت على مدار السنة التي حكم فيها الإخوان حيث استغلت ضعف خبرتهم وقدرتهم على ترويض مؤسساتها من أجل العمل لصالحهم

وتابع: "وهذا يدعوها إلى إعادة النظر في نمطية عملها وأسلوب مشاركتها، وأن تعيد النظر في آلياتها المتعلقة بالعمل السياسي، وأن تدرك يقينا أن عملية التغيير في مجتمعاتنا العربية تستدعي عملية غرس القيم، وبناء الفرد من خلال تكوينه وتأطيره، والدعوة إلى الله وإلى التحلي بالأخلاق، والتدرج في عملية التمكين، لأن آليات المشاركة وممارسة اللعبة السياسية في ظل العداء المستميت من طرف مخلفات الأنظمة السابقة في دول الربيع العربي بالإضافة إلى دعم خارجي وإقليمي من عدة أطراف دولية كلها تصب في مواجهة حركات الإسلام السياسي".

وخلص الباحث إلى أن مآلات تجارب الحركات الإسلامية بعد الربيع العربي ومخرجاتها "تدعو إلى التبصر والتريث وإعادة النظر في التعامل مع المشهد بكل مقاطعه وتفاصيله المختلفة، والاستفادة من التجارب المختلفة سواء التي باءت بالفشل، أو التي حققت نجاحات، ويقصد هنا التجربة التركية".

وجاءت دراسة الأكاديمية الجزائرية، الدكتورة بوجحفة رشيدة، تحت عنوان (حركة الإخوان المسلمين في مصر: تاريخ يعيد نفسه..بين الماضي الملبد.. الحاضر المجهول.. المستقبل المنشود) لتحدد إشكالية البحث الذي تريد الإجابة عنها في ورقتها البحثية المتمثلة بالأسئلة التالية: كيف ستتعدى حركة الإخوان المسلمين هذه الأزمة منذ تولي السيسي الحكم في مصر؟ وهل ستتخطى التحديات الراهنة؟ وهل سيعود زمن الإخوان كما كان يقال 2011؟.

وخلصت الباحثة إلى أن "جماعة الإخوان الأكثر انتشارا في العالم، وفي سنتها التسعين، تعيش بعد الانقلاب محنة ليست الأولى، وربما تكون الأصعب في تاريخ محنها وصراعاتها المفتوحة مع السلطة في بلدها الأم مصر وفي بلدان عربية متعددة امتدت إليها ظلال الإخوان المسلمين.. وهو ما يعني أن زمن الإخوان الذي كانت تتحدث عنه القنوات الإعلامية قد ولى".

وأكدت الباحثة في نتائج بحثها على أن "الجماعة حافظت على وجودها التنظيمي منذ تأسيسها، حيث تمكنت خلال ما يقرب من ثمانية عقود من البقاء والاستمرار حركة دعوية ذات طابع ديني، وتنظيما سياسيا واجتماعيا، أعطاها عناصر القوة والتميز مقارنة بالقوى السياسية الأخرى".

وأشارت إلى أن "الأزمة التي تمر بها الجماعة في الوقت الراهن دعت مجموعة من شبابها، والأعضاء السابقين بها إلى القيام بمراجعات لإعادة ترتيب أوراق الجماعة، وبنيتها التنظيمية، وتجنب الأخطاء التي يرون أن قيادات الجماعة وقعت فيها بعد توليها السلطة، فهي تجربة علمتها الكثير، وأعطتها دروسا ستستفيد منها بشكل أفضل في الحياة السياسية، لتجنب الإضرار بالمشروع الإسلامي".

وعلى الرغم من كل الأشواك والعقبات الكثيرة التي تواجه الجماعة، وصفت الباحثة عملية القضاء على الجماعة بـأنه "أمر صعب للغاية، لأن الجماعة مصممة على لعب دور عندما تسنح الفرصة للتغيير لاحقا في مصر، لكنه دور مختلف عن الدور الذي لعبته في المرة السابقة، لأن التجارب أثبتت أنها قادرة على التكيف، فقط مسألة وقت تعيد فيه ترتيب أوراقها، حيث تلح الحركة على إجراء تغيير أعمق مما كان عليه الحال في الفترة 2011 ـ 2013، وربما تحدد الجماعة في الوقت المناسب أهدافها الإصلاحية".

تجارب الحركات في السلطة.. دراسة وتقييم

ترصد بقية أوراق الكتاب البحثية تجارب حركات الإسلام السياسي بعد ثورات الربيع العربي، لافتة إلى "تعدد النماذج العملية لحركات الإسلام السياسي في أقطار الوطن العربي"، فمنها من حققت نجاحات نسبية، كحركة النهضة التونسية، ومنها من أخفقت وفشلت، لأسباب واعتبارات عديدة، وهو ما تناولته الأبحاث بالدراسة والتحليل. 

ففي ورقته البحثية "ثورة يناير وصعود حركة الإخوان المسلمين في النظام السياسي المصري"، وفي سياق تقييمه لتجربة الإخوان ذكر الباحث الأردني بشير محمد النجاب، أن جملة من العوامل في نهاية المطاف أدت لعزل الرئيس محمد مرسي، ومنها "القرارات الرئاسية التي اتخذها مرسي، مثل إعادة مجلس الشعب الذي سبق للمحكمة الدستورية العليا حله، وجعل القرارات الرئاسية نهائية غير قابلة للطعن من أي جهة أخرى".

وأضاف في خلاصاته البحثية "وقد نتج عن تجربة الإخوان المسلمين في مصر فشل الجماعة في التعاطي مع مسألة السلطة والحكم بنحو فعال وناجح، ويجب أن لا ننكر بأنه كان للدولة العميقة في مصر دور بارز في إسقاط مرسي.. والتي نجحت على مدار السنة التي حكم فيها الإخوان حيث استغلت ضعف خبرتهم وقدرتهم على ترويض مؤسساتها من أجل العمل لصالحهم".

أما تجربة الإسلام السياسي في العراق، فكانت محل دراسة الباحثين محمد كاظم هاشم، وداود فيرحي، وعنوانها "الإسلام السياسي في العراق، دراسة في أسباب فشل التجربة والخطاب"، وتكمن أهمية الدراسة في تسلطيها الضوء، والتعرف على الأسباب التي أدت إلى فشل تجربة الإسلام السياسي في العراق في نباء دولة حديثة ذات هوية وخطاب واضح.

وتشير الدراسة إلى أن "ممارسة حركات الإسلام السياسي في العراق للسلطة وضعها أمام تحديات حقيقية، ذاتية وموضوعية، كتحدي الشرعية، وتحدي الهوية، وتحدي إدارة الدولة.. إلا أنها لم تستطع التغلب عليها، وقد حالت هذه التحديات بين هذه الحركات وبين النجاح في بناء الدولة، وأجبرتها على التخبط في العمل السياسي، وهو ما أدى إلى فقدان هويتها، وتخليها عن خطابها التأسيسي الذي كسبت مشروعية وجودها منه".

وبالعموم فإن لكل "محور من محاور هذا الكتاب رؤية خاصة بالباحث، وبمنهج مقارب للتحليل والمعالجة.. لوضع القارئ بصورة أبرز الحركات الإسلامية السياسية، وتجاربها السياسية في أغلب أقطار الوطن العربي من خلال التفاعل والمشاركة في تناول هذه الدراسات، وجمعها في كتاب جامع وافٍ يصدر عن المركز الديمقراطي العربي للدراسات الاستراتيجية والسياسية والاقتصادية في برلين"، وفق ما قاله رئيس اللجنة العلمية في المركز، الأكاديمي والباحث الأردني، إياد خازر المجالي.