أوقع تسليم ضابط المخابرات الليبي، بوعجيلة المريمي، إلى الولايات
المتحدة الأمريكية، جدلا وإرباكا كبيرين بين الفرقاء الليبيين، وانقسم من أدلوا
بدلوهم في القضية ما بين مستنكر بشدة لفعل يمس السيادة الليبية، ومن رأى أنه مجرم
متورط في قتل أبرياء ومطلوب من الشرطة الدولية وتسليمه لا مفر منه.
وبالنظر إلى جل المواقف والتي تعددت ما بين تلك التي صدرت عن جهات
سيادية كمجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة، وأحزاب ومنظمات مجتمع مدني ونشطاء ومن
في حكمهم، يمكن القول إن الحس الوطني لم يغب لدى شريحة ممن نددوا بتسليم المعني،
إلا أن الحسابات السياسية والتوظيف السياسي كان حاضرا عند تقييم موقف العديد ممن
أقاموا الدنيا ولم يقعدوها احتجاجا على الواقعة، وهذا يشمل بعض الساسة الرسميين بل
ومبرزين منهم.
أكثر ما يثير الاستغراب هو موقف أنصار النظام السابق الذين كانوا من
بين المستنكرين لتسليم المريمي، وجلهم انطلق في معارضته من مبدأ النيل من هيبة
الدولة وسيادتها وكيف أن ذلك من الشواهد على تدهور الأوضاع في البلاد بعد
"نكبة فبراير"، فأزمة البلاد على مستوى علاقتها بالخارج ترجع إلى سياسة
القذافي المتهورة تجاه العالم الخارجي، خاصة ممارساته خلال عقدي السبعينيات والثمانينيات،
والتي جعلت
ليبيا في حالة عداء شديد مع عشرات الدول وتورط النظام في تنفيذ أعمال
تدخل ضمن التآمر وتهديد الأمن القومي لتلك الدول، ولم يتوان نظام القذافي عن استخدام العنف لتنفيذ توجهاته.
ورغم أن شكوكا تحوم حول تورط النظام في عملية
لوكربي إلا أن سلوكه
لم يجعله بعيدا عن الحادثة، فقد أقر النظام بارتكاب عمليات تصفية لعسكريين ومدنيين
ليبيين وأجانب في العديد من العواصم الغربية، وانتهى به الأمر إلى تحمل مسؤوليات
تلك الأعمال وتسليم مواطنين ليبيين اتهموا بتنفيذ تلك العمليات، فهل يقبل الصمت
عن ما وقع زمن القذافي بل تبريره ليصبح الموقف من حالة ربما مشابهة اليوم صائبا؟!
يبدو أن الحكومة لم تفرق بين وضع المريمي القانوني الذي لم يصدر بحقه حكم وبالتالي لا يمكن الجزم بأنه مجرم تسبب في قتل مئات الأبرياء، وبين السبيل للتعاطي مع طلب الإدارة الأمريكية تسليمه والذي يستدعي استفراغ الوسع بعدم الرضوخ للمطلب بغض النظر عن تورط المعني من عدمه،
قس على موقف أنصار النظام السابق مواقف غيرهم ممن سكتوا عن أعمال
مماثلة وأخرى أكثر انتهاكا للسيادة وقع فيها من يناصرونها من قادة سياسيين
وعسكريين في الشرق، وتقبلوها بصدر رحب بل إنهم وجدوا لها المعاذير والمسوغات، فهؤلاء جميعا
تحركهم السياسة وتدفعهم الخصومة لاتخاذ هذا الموقف اليوم.
هذا التقديم لا يعني أن تسلم المريمي لا غبار عليه وأن حكومة الوحدة
الوطنية محقة في تسليمه وأن المصالح لم تكن حاضرة، ذلك أن ما تقدم به رئيسها من
أسباب لتسويغ ما أقدمت عليه لم يرتق إلى مستوى طمأنة من حركهم الحس الوطني لرفض
قرار تسليمه، وبعض الخيارات البديلة التي كان من الممكن اتخاذها ليست عنتريات ولن
تجر البلاد إلى ما لا تطيقه من قطيعة وحصار.
يبدو أن الحكومة لم تفرق بين وضع المريمي القانوني الذي لم يصدر بحقه
حكم وبالتالي لا يمكن الجزم بأنه مجرم تسبب في قتل مئات الأبرياء، وبين السبيل
للتعاطي مع طلب الإدارة الأمريكية تسليمه والذي يستدعي استفراغ الوسع بعدم الرضوخ
للمطلب بغض النظر عن تورط المعني من عدمه، خاصة أن البلد تمر بوضع صعب جدا وشديد
الحساسية، والعالم ينظر إلى حكومة الوحدة الوطنية كونها حكومة استثنائية منقوصة
الشرعية ومحدودة الصلاحيات، وهذا وحده كاف لتبرير عدم الانصياع السريع للطلب
الأمريكي والمناورة لمواجهة الضغوط، فالولايات المتحدة تدعم اليونان في أن لا
صلاحية لحكومة الوحدة الوطنية في توقيع اتفاقيات مع أطراف خارجية، فكيف يطلب منها
تحمل المسؤولية السياسية والقانونية والأخلاقية بتسليم مواطن ليبي في قضية يعتقد
كل الليبيين أنها طويت، وطويت بشكل مذل وغير عادل.
السياسة، وبكل أسف، حاضرة في كل تفرعات الأزمة الرئيسية، والمصالح
الخاصة موجه حاكم لمواقف كل الأطراف الليبية من مختلف القضايا والأحداث، والاستثناء
محدود، وهذا ما يزيد البلد تشتتا ويجعله في مواجهة مزيد من التأزيم.