من هي
بيروت بالضبط؟ كيف أخاطب بيروت
التي تنزلق بين أصابعنا وتعيد تكوين نفسها لتشبهنا ونشبهها، هل أخاطبها كمريض على
فراش مشفى، كما الرسالة التي وضعت عند مدخل معرض "ألو بيروت" الذي افتتح
15 أيلول/ سبتمبر الفائت في متحف "بيت بيروت" الواقع في ساحة السوديكو؟
معرض تجهيز فني انغماسي، قائم على
أرشيف عن المدينة التي أضحت اليوم بحاجة لإعادة تقييم علاقتنا بها والسؤال عن
هويتها، بربط ماضيها مع حاضرها اليوم، معرض يمتد من الستينيات أو ما يعرف
بـ"الحقبة الذهبية" إلى اليوم مع ثورة 17 تشرين/ نوفمبر والانهيار الاقتصادي
الذي يشهده
لبنان.
انطلاقا من أرشيف "بروسبير غي
بارا" المساهم في صنع الهوية الثقافية والفنية لليالي بيروت الستينية
وصاحب فنادق "البالم بيتش" و "اكسيلسيور" الذي يضم بداخله
ملهى "الكاف دي روا" أو ما يُعرف بكهف الملوك، حيث عثرت الصحفية دلفين
دار منسي خلال تجولها في أنقاض الكاف دي روا الواقع في عين المريسة على مجموعة
أفلام "نيغاتيف" تمثل أرشيفاً ذاخراً يصلنا مع ستينيات القرن الفائت،
أرشيف يوثق حقبة ما قبل الحرب، حقبة الفساد والسياسات الخاطئة، كانت قراءة هذا
الأرشيف المجسدة خلال المعرض قراءة مجردة من الحنين قراءة تطرح تساؤلات وتركز على
زاوية نقدية، في طرح العلاقة بين تلك الحقبة التي تدعى ذهبية وبيروت اليوم. فرغم
صورة بيروت الذهبية المجسدة بسهرات وضحكات الكاف دي روا وشخصياته، كانت خلفها
ضواحي أقل تألقاً وأكثر تمرداً، الكثافة والزخم المعروض بواسطة ذاك الأرشيف يعكس صورة
للحقبة الذهبية وكأنها خزان قابل للانفجار في أيّة لحظة وصولاً لفترة الحرب
الأهلية الممسوحة قسرياً من ذاكرة كل لبناني بعد قرار العفو العام، ليركز المعرض
على حقبتين تفصلهما الحرب.
يتفرع المعرض إلى قسمين عبر طابقين من
مبنى بيت بيروت و25 غرفة للتجول ومشاهدة الأعمال والانخراط في التجهيزات الفنية.
القسم الأول، ينفرد بأرشيف بيروت الستينيات أرشيف بروسبير غي بارا، أما القسم
الثاني فكان عبارة عن أعمال عشرة فنانين وفنانات تعكس هذه الأعمال علاقتهم ونظرتهم
لبيروت، بالإضافة لوجود مساحة للمتلقي بتسجيل مقطع صوتي أو إرسال مقطع فيديو يعبر
به عن علاقته بالمدينة وستعرض هذه المقاطع سواء صوتية أو مصورة بشكل يومي ضمن
المعرض.
بيت بيروت لأهلها
كان موقع المعرض من أكثر النقاط
حساسية، حيث بيت بيروت يضيف قيمة أخرى للأعمال، فهو شاهد على صراعات وتغيرات
المدينة عبر القرن الماضي، ومجسداً لصراعات ما بعد الحرب والغزو العمراني الذي طمس
معالم بيروت عبر مشروع السوليدير، بيت بيروت أو ما يعرف ب "بيت بركات"
أو " البيت الأصفر" نسبة إلى الرمل المستخدم في بنائه، شيد عام 1924 على
الطراز العثماني متوسطاً شارع دمشق وشارع الاستقلال، خلال الحرب الأهلية شكل بيت
بيروت مركزاً للقناصة، حيث كان على ما عُرف بالخط الأخضر، وهو الخط الفاصل بين
بيروت الشرقية والغربية في الحرب الأهلية، إذ تحول من مبنى خاص إلى آلة قتل.
وما بعد الحرب، كان المبنى في صراع مع
قرار تدميره، حيث عملت المحامية منى حلاق لعدة سنوات للحفاظ على المبنى من قرار
الهدم، وبعد صراعات طويلة وتعاون مع بعض الجمعيات المدينة تم الاتفاق على جعل
المبنى متحفا تحت رعاية بلدية بيروت بالاشتراك مع بلدية باريس ليصبح بيت بيروت
شاهداً وأثراً من آثار الحرب التي يسعى كل من في السلطة إلى محوها وتغيبها من
ذاكرة اللبناني. إلا أن هذا المتحف الذي من المفترض أن يكون "ملكاً
للشعب"، أصبح مبنى مملوك لبلدية بيروت لم يفعل دوره كمتحف، فكان يستخدم ببعض
الحالات كموقع لالتقاط صور الأعراس أو إقامة بعض المعارض المؤقتة.
ومع معرض ألو بيروت، عاد بيت بيروت
لأهل المدينة فهو معرض مفتوح على مدار العام ابتداء من منتصف أيلول ويستقبل أي
زائر ليتجول في غرفه، وبعملية استعادة حقبة الستينات كثيراً ما تسمع عبارة
"لقد أعدتم لنا الذاكرة" من كبار السن البيروتيين في زيارتهم للمعرض
الذي لم يكتفي بعرض الأرشيف بل جهز الطابق الأرضي وأعاد ترميم صالون الحلاقة
واستديو التصوير ليحاكوا ما كان موجوداً من قبل، بالإضافة لترميم مطبخ قديم
ومحاكاة بعض معالم بيروت الستينية.
ذاكرتنا المشتتة
لا تكفي جولة واحدة في معرض ألو بيروت
لخوض التجارب كلها، فتنوع الأعمال وكثافة ما بنيت عليه يجعل المتلقي يمتلك الرغبة
بالعودة مرة ثانية وحتى ثالثة، تنوعت التجهيزات الفنية التي صممها الفنانون
والفنانات العشر المتواجدة ضمن المعرض بين تجهيزات الصورة الفيديو والتجهيزات
الأدائية والتجارب التفاعلية التي تطرق لمواضيع مختلفة، والفنانون المشاركون هم
الفنانون هم: روان ناصيف، بيترا سرحال، وائل قديح، جوان باز، ليلي أبي شاهين،
كبريت، كريستيل خضر، إيفا سودارغيتي دويهي، رنا قبوط ورولا أبو درويش. بالإضافة
إلى تجهيز صور فوتوغرافية تجمع ماضي الكاف دي روا بحاضر المدينة للمصور الفرنسي
ستيفان لاغوت".
شارت كريستال خضر الفنانة المسرحية
تركيبها الفني الذي يعكس علاقتها بالمدينة وببيت بيروت تحديداً خلال الحرب فحولت
غرفة القناص التي تطل على شارع دمشق إلى تجهيز فني مرتبط بذاكرتها، فوالدتها نجت
من حادثة قنص على هذا الطريق ومن هذا المبنى تحديداً لتضع اليوم كريستال علب
موسيقى وتزيل منها راقصة الباليه وتضع محلها قناصين يدورون في حركة مستمرة على
أنغام موسيقى العلبة.
والفنانة روان ناصيف تعود عبر الفيديو
الذي عرضته على جدران غرفة من غرف البيت غرفة تم تغيير شكلها ليناسب الحرب، تعود
بالفيديو روان لما هو مألوف في ذاكرتها حي المصيطبة الذي غادرته منذ عشرين عام
وعادت له اليوم لرعاية والديها، كان الفيديو أشبه برثاء للمدينة التي لا تتوقف عن
الخسارة، تبحث روان في الفيديو عن ملامح الحي الذي تعرفه وتخسره تدريجياً مع
المدينة.
وقامت المحامية ليلي أبي شاهين بتقديم
عملها تحت عنوان "أبجد هوّز : كيف هدمني مجمّع تجاري مثنى وثلاث"، العمل
القائم على أساس بحثي ودراسة معمقة، تضع ليلي حوض رمل في منتصف غرفة كبيرة من
الطابق الثاني، غرفة أشبه بممر للعبور بين باقي حجرات البناء تخرج من الرمل بعض
القطع التي تبدو للوهلة الأولى غريبة وغير مفهومة فيجذب انتباه كل من يمر، ليقترب
المتلقي ويجد أنها قطع مختلفة من أساسات البناء التي يستخدمها العمال والمهندسون،
ويقرأ اسم العمل فيتلقى صدمة مثيرة للتساؤل فيضع السماعات لسماع التسجيل الصوتي
الذي يترافق مع العمل، ويستمع لنص سردي عن علاقة ليلي ببيروت وعن هدم بيروت لما هو
مألوف لديها، أبجد هوز يمثل الترتيب الأبجدي للحروف العربية وهو يحاكي اسم مجمع الـ
(ABC) التجاري الذي أقيم في
عدة مناطق من بيروت فهو بني فوق مدارس كانت تشكل ذاكرة ليلي وعلاقتها بالمكان، أما
استخدام حوض الرمل فهو استعارة من حوض الرمل المستخدم للعب في المدارس وهو ما
يتبقى من البناء عند دماره، فكل ما يتبقى هو الرمل وبعض القطع الأساسية التي تصعد
وتنغمر في الرمل بحركة آلية.
قدمت بيترا سرحال تجربة سمعية بصرية
عبر فيديو في غرفة تسمح بدخول شخص واحد لتجربة مدتها نصف ساعة تنقل خلالها إحساسها
بالاغتراب والقلق، هذه التجربة التفاعلية ترك انطباع مختلف لدى كل متلقي. أما
بالنسبة للأرشيف وذاكرة الستينات قامت كل من رولا أبو درويش ورنا قبوط بتجهيز
"عكس وإرجاع" مستغلات عدة غرفة تشكل معبراً لحقبة الستينات بواسطة أرشيف
بروسبير غي بارا، فبعد اجتياز ستارة مخملية قرمزية ننتقل لمقهى العورش ومسرح شوشو
وغرف تعج بصور سهرات الكاف دي روا، مع مدخل تتراكم فيه أنقاض الماضي المدمرة، لتغدو
بيروت اليوم عائمة على أنقاض ماض بحاجة للمساءلة. هذه المُسائلة كانت خطاب نستطيع
تلمسه من مجموع الأعمال مسائلة حاضرنا والتأمل في الماضي المنسي.